أطفالنا.. ومرتكزات التربية الإسلامية
[...] إنّ أي خطة تربوية لا بدّ أن ترتكز إلى مجموعة أسس هي: قيمٌ تمثل أهدافاً، ومثلٌ أعلى ترتكز إليه تلك القيم ومنه تستمد تأثيرها على وجدان الجماعة، ووسائل يأخذ بها الأفراد والجماعة لترسيخ هذه القيم. ولئن كانت القيم الإنسانية الكبرى تشكل مظلّة أهداف دائمة لأي مجتمع، فهناك أهداف أخرى يقتضيها واقع المجتمع في بعض مراحل تطوره، لذلك لا بدّ من معرفة واقع المجتمع ونقاط الضعف فيه، الأمر الذي يُمْلي تركيزاً خاصاً على بعض القيم التي يقتضي العلاجُ إعادة ترسيخها.
الواقع الاجتماعي:
من المؤكد أن الكثير من الخلل في بُنية أفرادنا ومجتمعاتنا ينشأ مع أطفالنا بالتربية الخاطئة، ويمكن تصحيحه بتصحيحها. فالكذب هو لغة كهولنا اليومية تنشأ حلقته الأولى مع كذبة الأم على ابنها الصغير وهي تحاول أن تخدعه أو تغريه لينصاع لأوامرها. وعدم الثقة هي سمة التعامل بين أفرادنا تبدأ مع خيبة أمل الطفل في أمه التي تعده فلا تفي بوعدها، والرشوة آفة تنخر كياننا، رغم كونها من مخلفات ما مرّ به مجتمعنا من تخلّف سياسي واجتماعي، فهي تجد ما يغذيها في البيت عندما تساوم الأم طفلها على أصل أداء الواجب لا على مدى اتقانه. ونمو الشعور الفردي عندنا على حساب تناقص الحس الاجتماعي بتوقع الفرد من المجتمع أكثر مما يقدم هو له، وذلك إنما ينشأ جزئياً عن ميوعة الوالدين حيال إصرار الطفل للحصول على ما لا ينبغي له والسماح له بأن لا يعطي ما هو مطلوب منه، وعدم وضع حدود واضحة لرغباته، وصفة أفرادنا وجماعاتنا الخطيرة بالتساهل في النيل من حقوقهم حيال من هو أقوى منهم مع الاكتفاء بالنقمة والانفعال الهجائي، وتلك الحال تشبه حال الطفل الذي يرغمه أبواه على التنازل لأخيه المدلل عن حقوقه فلا يكون منه إلا الانزواء لاجئاً إلى الكآبة والنقمة مع فقدان الحيلة إلى تصحيح الواقع، وتلك الحالة النفسية المنحرفة بفقدان الجرأة على قول الحق والنقد الذاتي أو تقبل النقد من الآخرين والتي تجعل أي احتكاك بين عناصر المجتمع لا تأخذ طابعاً ايجابياً تفهمياً بل طابعاً عنفياً سلبياً، وتجعل كل فرد أو جماعة تتخذ من الانفراد حماية لنفسها وتغطية لخوفها على ما عندها مما عند الآخرين. وهذه الحالة تجد لها جذوراً في البيت عندما ينهر الكبير الصغير لتدخّله في نقاش الكبار معتبراً إياه غير كفءٍ لذلك لكونه صغيراً، وخاصة عندما يكون هذا مصيباً والكبير مخطئاً فيصر على خطئه ويلجأ إلى التوبيخ لتغطيته.
وسهولة انخداع الأفراد والمجتمع بما يدبر ضد مصلحتهم وسهولة تمرير المؤامرات الخطيرة عليهم بتمثيليات يقوم بها الحاكمون تذكرنا بما يقوم به الوالدان من التدليس على الصغار ليصدقوا أو يفعلوا شيئاً لا يرغبون فيه، وتكرار اكتشافهم للخدعة بعد فوات الأوان يجعل ملكتهم على الغضب والانتقام أقل حدّة للاعتياد على الاُسلوب. وعدم غضب الأمة على قادتها بدرجة تتناسب مع خداعهم لها، هي حالة شاذة تمثل امتداداً لما بدأناه في البيت.
من أين ننطلق؟
في رأيي أن ذلك يستلزم منا الأخذ بمعطيات متساوية الأهمية:
1- واقع الأمة:
فنعرف مواضع الخلل في الفرد والأمة في الأخلاق والسلوك والبنية النفسية وطريقة التفكير، ومدى ارتباط ذلك بالتربية وامكان مساهمتها في تصحيحه.
2- تراث الأمة الذي يعكس مناخها الخلقي والأيديولوجي ويرتبط بضميرها، وأي خطة تربوية إذا لم تَسْتَقِ جُذُورها من تراث الأمة لا تجد تجاوباً مع ضميرها، فتراث الأمة الذي يعكس شخصيتها لا يمكن عزله عن أي خطة اصلاح لأن إمكان تطبيقها يعتمد على مدى انسجامها مع شخصية الأمة التي هي حقل التطبيق والقيّم عليه معاً.
3- معطيات التربية لدى الأمم الأخرى لدراسة ما فيها من ايجابي وسلبي فنستفيد بذلك من الأبحاث الموضوعية على ضوء واقعنا وتراثنا، فالنتائج لأي بحث بُنيَ على دراسة عيّنات من الأطفال في مجتمع آخر كالمجتمع الغربي مثلاً لا تتنافى بالضرورة مع واقعنا إنما بسبب اختلاف العينات المدروسة وخلفيات الدارسين بالثقافة والمشكلات الاجتماعية والأهداف العليا للتربية يخلق إمكان عدم التطابق جزئياً أو كلياً حسب الموضوع بين نتائجهم ونتائج الدراسة نفسها لو أُجريت على عينات من مجتمعنا من قبل علمائنا بخلفياتنا الثقافية وفي ظلّ مشكلاتنا الاجتماعية المغايرة، وهذا كلام واضح علمياً لأن الانسان ليس آلة تخضع لقانون واحد أينما وجدت.
فالتربية الجنسية في الغرب مثلاً، ذات أهداف مختلفة في ضوء الوضع الاجتماعي المختلف، المتّسم بالإباحية الجنسية، وشيوع الحمل غير الشرعي خاصة بين القاصرات، والعلاقة الجنسية خارج الزواج واستساغتها وتشجيعها قبله، والأسرة المتفككة، وشيوع الخيانة الزوجية التي لا يُنظر لها بالجدية نفسها، مما يجعل الهدف من التربية الجنسية ليس أفضل حياة زوجية بل أمتع علاقة جنسية بين ذكر وأنثى، وتوعية الأحداث لتجنب آثارها من مرض أو حمل قبل الزواج، دون مراعاة أي انعكاسات أخرى للأسلوب المتبع لأنها خارجة عن الهدف، بينما في شرقنا حيث ما زالت الأسرة كما هو المرجو تحتل المكانة الأهم في بناء المجتمع، وحيث الزواج أساس العلاقة الجنسية، والخيانة الزوجية تهدم الأسرة، وعدم شرعية الطفل ليس موضع مساومة، وحيث الطلاق حلال عند وجود موجباته، في ظل هذا المناخ يجب أن تهدف التربية الجنسية إلى أفضل السبل لعلاقة جنسية عاطفية ناجحة بين الأزواج، وأن تكون مدعومة بتربية تهدف إلى علاقة خلقية قائمة على قبول التضحية والاحتمال.
وهكذا نستخلص أن الخطة التربوية التي نحتاج إليها يجب أن ترسم في ضوء واقعنا بمشاكله، تراثنا بمعطياته، التي تعكس شخصية الأمَّة وضميرها، مع الاستفادة من خبرة الغير لتطويره بالشكل الذي يناسب العاملين الأولين فتتحدَّد الخطة وأهدافها العليا على ذلك النحو.
أيُ الأهداف؟
لقد نوّهنا سابقاً ببعض مشاكلنا، وما أكثر الذي أغفلنا لضيق المجال لكن ما ذكرنا هو في نظري أكثرها إلحاحاً لما له من تأثير واضح في إخلال البنية الاجتماعية. فانطلاقاً من معرفة ذلك يجب أن تتحدَّد أهداف التربية لتصحيحها فتجري التربية في ظلها.
ومن ناحية أخرى إنّ مراجعة التراث تكشف لنا تطابقاً تاماً في حالتنا هذه بين أهداف التربية الإسلامية والأهداف التي يستلزمها تصحيح واقعنا، وليس ذلك غريباً إنْ علمنا أننا ما وصلنا إلى حالاتنا الشاذة إلا لبُعدنا عن ثقافتنا وأخلاقنا. نستشفُّ هذه الأهداف من معرفة منحى التوجيه العام في الإسلام من خلال القرآن الكريم والحديث الشريف والمناخ الخلقي الإسلامي، وسنركز منها على الأشدّ مساساً بواقعنا لكشف زيفه وانحرافه.
فالمسلم إنسان نظيف البدن والنفس (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ((النظافة من الإيمان))، إنسان لين الطبع (... وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)، ولكن لا يقبل الذل والهزيمة ((لا يحلّ لمؤمن أن يذل نفسه))، ((المؤمن لا يسلم نفسه لعدوه إلا إرب))، ولا يفرط في حقوقه (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) إلا في اصلاح أو عفو من موضع قوة (فمن عفا وأصلح فأجره على الله). ولا يتعدّى على حقوق غيره (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق). والقوة هي الصفة المحبَّبة ((المؤمن القوي أحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف وكل خير» مع العفو عند المقدرة «والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس»، وهو إنسان لا يخاف من الآخرين ولو كانوا أقوى منه «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمان» بما يمثّل الناس من الغير أفراداً أو مجتمعاً. ولا يخشى في الحق لومة لائم «الساكت عن الحق شيطان أخرس»، وهو إنسان مبدع يجيد التعبير عن نفسه ولا يقلد ولا يسهل خداعه فلا ينساق مع الآخرين ((لا يكن أحدكم إمَّعة»، يحبّ التضحية والعطاء ((من نعم الله عليك حاجة الناس إليك»، ويحبّ التعاون«وتعاونوا على البر والتقوى» والعمل في مجموعة متناسقة«يد الله مع الجماعة»، ويتقن عمله «إن الله يحبّ من عبده إذا عمل عملاً أن يتقنه»، ويتمتّع بأعلى درجات الحس الاجتماعي «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، ويتمتع بأعلى درجات المسؤولية الاجتماعية «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته».
وأخيراً هو إنسان لا يقيم وزناً لرضى أحد أو غضبه، ولا يخاف أحداً ولا يتقرب من أحد إلاّ الله سبحانه وتعالى فلا يشرك في حبّه وفي خوفه وفي رجائه أحداً «فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام له» [الطاغوت هنا كل ما طغى على الإنسان فاستعبده سواء من داخل نفسه أم من خارجها] وهذا أساس الإيمان.
هذا يعتبر منحى مميّزاً في البناء الإسلامي، ينجم عنه فوارق حاسمة في معطيات التربية ومضمونها ونتائجها، فإن الإيمان الإسلامي والتوجيه العام إنما يهدف إلى غرس الإيمان بالله في ضمير وعقل الفرد والجماعة بديلاً عن أي قيمة أخرى، فيكون توجُّهه كاملاً لله مما يحرّره من كلّ المؤثرات المؤهّلة لأن تطغى عليه وتستعبده وتباعد بين سلوكه وبين قناعاته المرتبطة بالإيمان، سواء كانت المؤثرات داخلية المصدر كرغباته أم خارجة عنه من موجودات تُشاركه الوجود وتنازعه فيه، فالإيمان بالله يكون تحريراً للإنسان من الوقوع في أيّ سُلطة تطغى عليه.
أي مخطط؟
وبعد تحديد الأهداف يلزم رسم مخطط تربوي في ظلها تبدأ حلقاته بالبيت والمدرسة وتكتمل بالمناخ التوجيهي العام في المجتمع الهادف إلى ترسيخ احترام المعطيات الخلقية المستهدفة في ضمائر الناس. والتربية في واقع المجتمعات مرادفة للتوجيه والإرشاد بفنونه وأنواعه، لكن في الإسلام فوق ذلك ما يتجاوزه ويتفوق عليه وهو العبادة. فبعد أن ارتبطت القيم بالإيمان وارتبطت بالله تعالى فاكتسبت سلطتها المعنوية في ضمير الفرد والجماعة، تأتي العبادة لترسيخها في نفس الإنسان، بإحياء دائم لصلته الوجدانية والعقلية بالله تعالى وما يقترن بإرادته من مثل وقيم. فالعبادة، وسيلة تربوية مثالية هي الأجدى من كل ما نعرف تفوقُ أثراً أي مخطط قائم على الوعظ والإرشاد، فهي ممارسة وجدانية عقلية تغرس في نفس الإنسان قيم الإسلام فتمتزج بوجدانه بعد قبولها الواعي عقلياً بالإيمان، حتى تصبح جزءاً من كيانه بلا تكلّف، وهي عامة للمجتمع شاملة لكل إنسان في كل الظروف والأوقات.
أي مثل أعلى؟
إن التربية الإسلامية تفرض عدم ربط القيم التي نعوّدها للطفل بأي مثل أعلى سوى الله، وذلك يعكس واقع الأيديولوجية الإسلامية التي تربط الأخلاق بالله وإرادته، فأيُّ قيمة حتى تكسب في نفس الإنسان احتراماً تحتاج إلى مثل أعلى تستمدُّ منه تأثيرها، وكلّما كان المثل أكمل وأقوى كانت القيم المرتبطة به أقوى أثراً.
وربط القيم بالله تعالى المتّصف باللانهائية من حيث الكمال والاستطاعة، يعطيها أقصى قدر ممكن من الأثر في نفوس المؤمنين، فضلاً عن أنه يقيها من الانحراف تبعاً للمصالح الآنيّة للمجتمع الذي هو البديل القائم في المجتمعات المنفصلة عن الإيمان. فالمجتمعات المادية كالمجتمع الغربي المعاصر الذي مات الإيمان بالله في قلوب أبنائه لم يعد من بديل فيه سوى المجتمع لربط القيم بإرادته، وهذا سلاح ذو حدين، فالحد الأول نافع نسبياً بحيث يخاف الفرد التجاوز على الصالح العام، لكن يمكن له تجاوزه حين يكون في موضع قوة أو حين يكون قادراً على الاخفاء والتبرير، بينما يكون أقوم حين يأتي نتيجة حسّ اجتماعي ومسؤولية اجتماعية كالحال في التوجيه الإسلامي، فيعفُّ الإنسان حينئذٍ في كل الأحوال، لأنّ حسّ الرقابة لا يأتي من المجتمع، بل من الله، ومن الضمير الحي بديمومة إحيائه بصلته بالله.
والحد الثاني خطير للغاية، يجعل الإنسان يخاف من مخالفة المجتمع، فيفقد قدراً كبيراً من قدرته على انتقاد الخطأ العام، ومقاومة الانقياد والتبعيّة، والتأثير الايجابي في إصلاح المجتمع ومما لا يحتاج إلى برهان أن المجتمع ليس دوماً على حق، بل كثيراً ما يكون باطلاً، لا سيما أنّ القناعات العامة كثيراً ما تكون حصيلة تأثير مجموعة ذكية منسّقة الأدوار تؤثر من مواقع قوّتها لمصالحها الخاصة على توجُّهات المجموع، فليس أخطر من أن تجعل الإنسان عبداً للمجتمع، والفرق واضح في النتائج عن الوضع الذي يكون الإنسان فيه رقيباً على نفسه للمجتمع، ورقيباً لنفسه على المجتمع، ورقيباً على نفسه وعلى المجتمع للحقّ والقيم، لأن وجدانه وعقله مرتبطان برقيب أعلى خارج عن المجتمع، بالله وحده، ومنه يستمد قيمه ولا يقيم وزناً إلاّ لرضاه.
فمن الضروري الانتباه إلى هذا الأمر الخطير، فلا نُخطئ خلال تربيتنا بأن ننمّي المجتمع في ضمير الطفل، كمثل أعلى يخافه، عن طريق الخطأ في ربط مبرّرات الأوامر والقيم والضوابط السلوكيّة التي نُقدمها له بالمجتمع ورضاه، وبالناس ورأيهم، لأننا نريد في النهاية إنساناً حُرّاً لا يخضع لعبودية المجتمع أو سواه، بل لله وحده، ورقيباً له على نفسه وعلى المجتمع.
هذا النموذج الخلقي المرتكز إلى العقيدة والقيم الإسلامية كما نرى هو النقيض لما ذكرناه آنفاً من انحرافاتنا الخلقية وآفاتنا الاجتماعية، فمن الواضح أن هذا المنحى الخلقي يمثل نموذج الأهداف المرجوة في تربيتنا لتصحيح واقعنا الراهن.
إلى ذلك فالموعظة القرآنية وكلام النبي صلّى الله عليه وآله في حديثه الشريف لهما أثر فريد في المؤمنين لمخاطبتهما العقل والضمير معاً، ولملاحظتهما البنية النفسية البشرية، وهذا القول ليس فقط لاعتقادنا بالمصدر الإلهي، بل كذلك معرفة من درس فيهما دراسة وعي وتدبُّر.
بلى، لقد تعهد الإسلام الأفراد والجماعة بالتربية الشاملة بالعبادة والموعظة العامة في القرآن الكريم وحديث سلوك النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام وصحبهم وتلامذتهم الذين يشكلون نموذجاً ومثالاً للأمة يَستمد الأفراد والجماعة منهم القدوة تلقائياً، هذه القدوة التي لها مكانها الهام في أي مخطط تربوي، بعد هذا كله فإن الإسلام قد أولى الأسرة والمدرسة التي تليها اهتماماً فريداً كحلقة من حلقات المخطط التربوي العام، فلقد جعل الأسرة ركيزة المجتمع الأولى، وأحاطها بتشريعات تجعل منها موطئ سلم بين الزوجين لتوفير المناخ الأنسب للتربية، وجعل وظيفة المرأة الأولى الأمومة، واعتبر أن الأمومة تعني التربية لا واجبات الخدمة المنزلية، وأولى المرأة اهتماماً خاصاً بتشريعاته وتوجيهاته تهدف إلى صيانة مكانتها الخطيرة كأم للمجتمع، وإلى تهذيبها الخاص، لما تلعبه من دور مميّز في الأثر على الطفل، وأبرز اهتماماً فريداً بالطفل، فما ورد من أحاديث شريفة ومن سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله والأئمة من آل بيته عليهم السلام من تعاليم تركّز على أهمية الطفل البالغة وتربيته وتهذيبه وتوسيع مداركه واحترام شخصيته ومشاعره وتكريمه مما يفوق كمّاً ونوعاً ما تمخّضت عنه القوانين الحديثة في هذا الموضوع، وليس على طالب المعرفة سوى مراجعة مصادرها الخاصة، ثم سنّ أولويات في تربية الطفل تنسجم مع التوجه الخلقي العام المذكور نستخلصها من توجيهات الرسول صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام. وبعد استعراضها الآتي سنجد بأنها لا تختلف عن معطيات التربية الرئيسية كما يوصي بها أخصائيو هذا الحقل، إلا بمقدار ما سنُركّز عليه من نقاط خاصة في ضوء واقعنا الراهن.
وهذه الخطوط هي:
1- أن ننظر إلى الطفل مهما صغر سناً على أنه كائن ذو شخصية مستقلّة بمشاعرها وأحاسيسها وإدراكها على اختلاف مستوياتها في السن، وأنّ هذه الشخصية فاعلة ومنفعلة، والتربية تقوم من هذا الاعتبار على إفساح المجال للطفل بالتفاعل مع الأسرة بشكل سليم لتنمية عناصر الخير فيه وتنمية شخصيته وثقته بنفسه. ففي سيرة الرسول صلّى الله عليه وآله عن أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب مرضعة الحسين قالت: ((أخذ مني رسول الله صلّى الله عليه وآله حسيناً أيّام رضاعِهِ فحمله فأراق ماءً على ثوبه فأخذته بعنفٍ حتى بكى فقال صلّى الله عليه وآله: مهلاً ياأمَّ الفضل إنَّ هذه الإراقة الماء يطهرها فأيُ شيء يُزيل هذا الغبار عن قلب الحسين».
وفي سيرته صلّى الله عليه وآله أنه يَقْدِمُ من السفر فيتلقّاه الصبيان فيقف لهم ثم يأمر بهم فيُرفعون إليه، فيرفع منهم بين يديه ومِنْ خلفه ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم، وعنه صلّى الله عليه وآله قوله: ((أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم يُغْفَر لكم» وعن الصادق عليه السلام عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه قال: ((خمس لستُ بتاركهنَ حتى الممات.. وتسليمي على الصبيان لتكون سنة بعدي». هذه القواعد النبوية تدلّ على مدى اهتمام النبي صلّى الله عليه وآله بمشاعر الطفل حتى الرضيع والعناية ببنائه النفسي وإشعاره بالاحترام لتنمية شخصيته وثقته بنفسه.
2- أن نبني سلوكنا القوليّ والعملي تجاه أطفالنا على أساس من الصدق وأن لا نتّبع مع الطفل أسلوب الترغيب الخادع والتخويف الكاذب، ونكون خلال ذلك قدوة له في الصدق والأمانة لنغرس هذه القيمة في نفسه. وفي الحديث الشريف عن عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((إذا وعد أحدكم صبيه فلينجز»، وعن علي عليه السلام قال: ((لا يصلح الكذب جدٌّ ولا هَزْلٌ ولا أن يعد أحدكم صبيّهُ ثم لا يفي له». فلا يحل الكذب على الطفل جدّاً ولا هَزْلاً ولا لترغيب أو ترهيب ولا أن يوعَدَ فلا يوفي بوعدِه، فلا نعوّده هكذا على الكذب وعدم الثقة بالآخرين، بل على الصدق والأمانة.
3- أن تكون الحدود في نطاق العلاقات بين أفراد الأسرة واضحة المعاني بين ما هو حق وما هو واجب وأن لا تدفع شدة العاطفة الأبوين إلى السماح للطفل بالتجاوز على ما ليس له بدون مبرر، وإلى المعاملة المائعة بتلبية الرغبات بشكل غير معقول. وعن الباقر عليه السلام قوله: ((شرّ الآباء من دعاه البرّ إلى الإفراط».
4- أن يكون للعقوبة مكان في سلوك الوالدين نحو أطفالهما على أن تكون مقترنة بتوضيح دوافعها وعادلة تتناسب مع نوع التجاوز، غير مؤذية بدنياً بشدتها ولا نفسياً بنوعيتها. فالعقوبة هي التي تجعل الطفل يشعر بقدسية الحدود.
وأما العقوبة القائمة على التشفّي فتحطّم شخصية الطفل وتخلق عنده الحقد ونوعاً من سوء المحاكمة العقلية حيث توقعه في تناقض بين توقعاته الصحيحة وما يتلقّاه من عقوبة تفوق ذنبه، كما تولّد شعوراً بالظلم قد ينقلب إلى كآبة وعزلة.
والعقوبة التي لا تأتي في مكانها –فيُترك الطفل بلا عقاب رغم استحقاقه ثم يعاقب بشدَّة لخطأٍ صغير لأن الكيل طفح لدى والديه– تخلق عنده نوعاً من عدم الاتزان العاطفي وعدم الوضوح في المحاكمات العقلية بين ما هو مطلوب منه وما ليس مسموحاً به.
هذه القواعد في شكل العقوبة وتوقيتها وعدالتها وتطبيقها الحكيم تلتقي مع نهي الرسول صلّى الله عليه وآله الأب تجاه الابن عن أمور منها (لا يُرهقَهُ وأن لا يَخْرقَ به) ومع موقفه من أم الفضل الذي سبق ذكره في نهرها للحسين عليه السلام بلا مبرر رغم كونه رضيعاً.
5- أن يكون للمكافأة محلُّها في سلوك الوالدين نحو الأطفال على أن تكون معقولة لا تتجاوز الاستحقاق وتوقعات الطفل وأن يركَّز فيها على مدى إتقان الواجب أكثر من أصل أدائه، وأن لا تكون وسيلة إغراء للطفل لحمله على الانصياع لطلبات تبدو له غير معقولة فتصبح نوعاً من التعويد على الرشوة. وتعويد الطفل على الانصياع بالإقناع المتناسب مع مداركه هو المسلك الصحيح في هذا المجال. وفي أحاديث الأئمة عليهم السلام قال الصادق عليه السلام: ((برُّ الرجل بولده برُّه بوالديه». وفي الحديث الشريف عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله: ((من فرّح ابنته فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل ومن أقرّ عين ابن فكأنما بكى من خشية الله»، وفي الحديث الشّريف: ((من قبّل ولده كتب الله له حسنة ومن فرّحه فرّحه الله يوم القيامة..». وهذه الأحاديث الآنفة الذكر ذاتها التي لحظناها في الفقرتين السابقتين وفي حادثة أم الفضل مع الحسين عليه السلام لما كان رضيعاً لها مدلولات أخرى توضح مدى اهتمام الإسلام بمنح الطفل البهجة والطمأنينة والاستقرار النفسي، وحمايته من المؤثرات النفسية الضارة، لما لذلك من أثر هام في بُنْيته النفسية وتطوره النفسي والعقلي في مراحل نموِّه.
6- أن يُترك للطفل فرصة للتعبير عن نفسه سلوكاً وقولاً مع مناقشته في ذلك بشكل موضوعي لتثبيت ما هو صحيح في ذهنه وتصحيح ما هو خاطئ مما يُنمّي شخصيته وثقته بنفسه وجرأته على الكلام والتعبير عن رأيه والنقد للآخرين وتقبل النقد الذاتي من الآخرين.
وفي سيرة علي عليه السلام أنه كان عندما يجلس للناس ليسألوه ويكون الحسن والحسين عليهما السلام حاضرين كان أحياناً يحيل السؤال عليهما ليُجيباه فيسمع والناس لكل منهما ثم يأمر الناس بالاقتداء بما يقولانه لما فيه من حكمة. فهذا فضلاً عن أبعاده الواضحة في الإفصاح للناس عن مكانة هذين الإمامين وتقدّمهما رغم كونهما حينئذٍ حديثي السن، فإنه من ناحية أخرى لفْتَةٌ بارعة للقدوة التربوية التي تهدف إلى ما سبق تقريره في هذه الفقرة.
7- أن يعطى الطفل الفرصة للسؤال وأن يكون الجواب له مطابقاً للواقع، مختصراً لا يُشتَّت تفكيره، مبسطاً يتناسب مع إدراكه حسب عمره.
8- أن يكون سلوك الوالدين بين الأطفال عادلاً لا تمييز فيه بالعاطفة والمعاملة.
وفي الحديث الشريف: نظر رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى رجل له ابنان فقبّل أحدهما وترك الآخر فقال له صلّى الله عليه وآله: فهلاّ واسيت بينهما. وانه صلّى الله عليه وآله قال: ((اعدلوا بين أولادكم كما تُحبّون أن يعدلوا بينكم».
وأن يكون السلوك نحوهم منطقياً لا إفراط فيه ولا تفريط فعن الباقر عليه السلام كما تقدم ((شرّ الآباء من دعاه البر إلى الإفراط» وفي المأثور ((يلزم الوالدين من العُقوق لولدِهما ما يلْزم الولد لهما من عقوقهما» وأن تكون معاملة الوالدين للطفل قائمة على احترام في الكلام والعمل.
ففي الحديث الشريف ((أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم يُغْفر لكم» وذلك كله لتنمية شخصية الطفل وغرس الأسلوب الصحيح في التعامل مع الآخرين وثقته بالناس، وبناء شخصيته على أساس متوازن.
9- اختيار البيئة الاجتماعية الصالحة للطفل. وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ((جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله فقال يا رسول الله ما حقُّ ابني هذا قال تُحسِنُ اسمه وأدبه، وضَعْهُ موضعاً حسناً».
10- أن لا يتوقّع الوالدان أن يكون أطفالهما نسخة عنهما في الميول والعادات والتقاليد، فلا يلزمانهم بذلك فعن عليّ عليه السلام ((لا تُلْزموا أبناءكم على عاداتكم فإنهم خُلِقوا لزمانٍ غير زمانكم» والوقوع في هذا الخطأ سبب رئيسي لنفور الأولاد من والديهم، وإذا تفاقم يتعدّاه إلى النفور من قِيَمِهم. ومن الواضح أن العادات شيءٌ طارئٌ يختلف عن قيم الإسلام التي هي المطلوبة في التربية.
لقد عرضنا فيما سبق قواعد أساسية ولا نقلّل من قيمة ما أغفلنا لعدم سعة المجال، بل ركزنا على المذكور منها لمساسه بواقعنا الذي نقصد تصحيحه.
ومع ذلك نجد ضرورة تركيز الانتباه إلى توجيه التربية لأمرين بارزين في واقعنا لتصحيحهما:
الأول: تضاؤل قدرة الأفراد على التعاون ضمن مجموعة منسّقة الأدوار، الأمر الذي يعزى جزئياً إلى اختلال العلائق والأخلاق وطرق التعامل، وعلاجها يساهم في التصحيح، ولكنه يعزى أيضاً إلى عجز أبنائنا عن التنسيق، فيلزم أن تتوجه التربية البيتيّة والمدرسية إلى تنمية هذه القدرة بتعويد الأطفال على الجهد المنسّق والعمل في مجموعة بوسائل مدروسة كالألعاب والأناشيد الموزعة الأدوار والفروض التي تحتاج إلى جهد جماعي منسَّق، وسواها مما لا يتسع المجال لتفصيله. وواضح أن المناخ الخلقي الإسلامي يركّز ايجابياً على هذه القيمة الخلقية «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى»، ((يد الله مع الجماعة» وواضح أيضاً أنّ أفعال العبادة الإسلامية تطويعُ للمجتمع في هذا المنحى.
الثاني: تضاؤل روح التضحية في مجتمعنا الذي هو في أمسّ الحاجة لتضحية أبنائه مما يستلزم غرس روح التضحية وحُبِّ العطاء عند الأطفال حينما يكون الطفل في موضع القادر على الأخذ فنوحي إليه بالعطاء كي لا يكون ضعفاً وتنازلاً والفرق كبير، وتحبيب العطاء والتضحية يتمُّ بالتوجيه والقدوة ليصبح قيمة تنمو مع الطفل، وواضح أن هذه قيمة من القيم الإسلامية، وهدف من أهداف التربية الإسلامية كما نَوّهنا سابقاً، ذات جذور كبرى في القرآن الكريم والسنّة الشريفة وسلوك الرسول صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام ومن أخلص لهم.
وفي الخلاصة فإن أخطاءنا الاجتماعية التي تشكل الخلل الأساسي في بناء الفرد والمجتمع لدينا فضلاً عن أنها في قسطٍ كبيرٍ حصيلة أخطائنا التربوية فإنّه يُمكن تصحيحها بخطّة تربوية سليمة تتكامل حلقاتها من البيت إلى المدرسة إلى المجتمع، وإن هذه الخطّة يجب أن تقوم على معطياتٍ موضوعية في التربية في ضوء واقعنا الخاص وضوء تُراثنا لتنسجم مع مشاكلنا الملحّة ومع شخصيتنا الخاصّة ولتلتقي مع ضمير الأمة، وإنّ التربية بمرتكزاتها الإسلامية تشكّل حلقات متكاملة تبدأ مع الطفل في بيته ومدرسته لتستمرّ معه مدى حياته، وتتطابق في أهدافها مع مستلزمات مشاكلنا وتشكل المنهج التربوي الأنسب في ضوء واقعنا الراهن.
المصدر: مجلة نور الإسلام، العدد: 31- 32.
د. زهير بيطار
الواقع الاجتماعي:
من المؤكد أن الكثير من الخلل في بُنية أفرادنا ومجتمعاتنا ينشأ مع أطفالنا بالتربية الخاطئة، ويمكن تصحيحه بتصحيحها. فالكذب هو لغة كهولنا اليومية تنشأ حلقته الأولى مع كذبة الأم على ابنها الصغير وهي تحاول أن تخدعه أو تغريه لينصاع لأوامرها. وعدم الثقة هي سمة التعامل بين أفرادنا تبدأ مع خيبة أمل الطفل في أمه التي تعده فلا تفي بوعدها، والرشوة آفة تنخر كياننا، رغم كونها من مخلفات ما مرّ به مجتمعنا من تخلّف سياسي واجتماعي، فهي تجد ما يغذيها في البيت عندما تساوم الأم طفلها على أصل أداء الواجب لا على مدى اتقانه. ونمو الشعور الفردي عندنا على حساب تناقص الحس الاجتماعي بتوقع الفرد من المجتمع أكثر مما يقدم هو له، وذلك إنما ينشأ جزئياً عن ميوعة الوالدين حيال إصرار الطفل للحصول على ما لا ينبغي له والسماح له بأن لا يعطي ما هو مطلوب منه، وعدم وضع حدود واضحة لرغباته، وصفة أفرادنا وجماعاتنا الخطيرة بالتساهل في النيل من حقوقهم حيال من هو أقوى منهم مع الاكتفاء بالنقمة والانفعال الهجائي، وتلك الحال تشبه حال الطفل الذي يرغمه أبواه على التنازل لأخيه المدلل عن حقوقه فلا يكون منه إلا الانزواء لاجئاً إلى الكآبة والنقمة مع فقدان الحيلة إلى تصحيح الواقع، وتلك الحالة النفسية المنحرفة بفقدان الجرأة على قول الحق والنقد الذاتي أو تقبل النقد من الآخرين والتي تجعل أي احتكاك بين عناصر المجتمع لا تأخذ طابعاً ايجابياً تفهمياً بل طابعاً عنفياً سلبياً، وتجعل كل فرد أو جماعة تتخذ من الانفراد حماية لنفسها وتغطية لخوفها على ما عندها مما عند الآخرين. وهذه الحالة تجد لها جذوراً في البيت عندما ينهر الكبير الصغير لتدخّله في نقاش الكبار معتبراً إياه غير كفءٍ لذلك لكونه صغيراً، وخاصة عندما يكون هذا مصيباً والكبير مخطئاً فيصر على خطئه ويلجأ إلى التوبيخ لتغطيته.
وسهولة انخداع الأفراد والمجتمع بما يدبر ضد مصلحتهم وسهولة تمرير المؤامرات الخطيرة عليهم بتمثيليات يقوم بها الحاكمون تذكرنا بما يقوم به الوالدان من التدليس على الصغار ليصدقوا أو يفعلوا شيئاً لا يرغبون فيه، وتكرار اكتشافهم للخدعة بعد فوات الأوان يجعل ملكتهم على الغضب والانتقام أقل حدّة للاعتياد على الاُسلوب. وعدم غضب الأمة على قادتها بدرجة تتناسب مع خداعهم لها، هي حالة شاذة تمثل امتداداً لما بدأناه في البيت.
من أين ننطلق؟
في رأيي أن ذلك يستلزم منا الأخذ بمعطيات متساوية الأهمية:
1- واقع الأمة:
فنعرف مواضع الخلل في الفرد والأمة في الأخلاق والسلوك والبنية النفسية وطريقة التفكير، ومدى ارتباط ذلك بالتربية وامكان مساهمتها في تصحيحه.
2- تراث الأمة الذي يعكس مناخها الخلقي والأيديولوجي ويرتبط بضميرها، وأي خطة تربوية إذا لم تَسْتَقِ جُذُورها من تراث الأمة لا تجد تجاوباً مع ضميرها، فتراث الأمة الذي يعكس شخصيتها لا يمكن عزله عن أي خطة اصلاح لأن إمكان تطبيقها يعتمد على مدى انسجامها مع شخصية الأمة التي هي حقل التطبيق والقيّم عليه معاً.
3- معطيات التربية لدى الأمم الأخرى لدراسة ما فيها من ايجابي وسلبي فنستفيد بذلك من الأبحاث الموضوعية على ضوء واقعنا وتراثنا، فالنتائج لأي بحث بُنيَ على دراسة عيّنات من الأطفال في مجتمع آخر كالمجتمع الغربي مثلاً لا تتنافى بالضرورة مع واقعنا إنما بسبب اختلاف العينات المدروسة وخلفيات الدارسين بالثقافة والمشكلات الاجتماعية والأهداف العليا للتربية يخلق إمكان عدم التطابق جزئياً أو كلياً حسب الموضوع بين نتائجهم ونتائج الدراسة نفسها لو أُجريت على عينات من مجتمعنا من قبل علمائنا بخلفياتنا الثقافية وفي ظلّ مشكلاتنا الاجتماعية المغايرة، وهذا كلام واضح علمياً لأن الانسان ليس آلة تخضع لقانون واحد أينما وجدت.
فالتربية الجنسية في الغرب مثلاً، ذات أهداف مختلفة في ضوء الوضع الاجتماعي المختلف، المتّسم بالإباحية الجنسية، وشيوع الحمل غير الشرعي خاصة بين القاصرات، والعلاقة الجنسية خارج الزواج واستساغتها وتشجيعها قبله، والأسرة المتفككة، وشيوع الخيانة الزوجية التي لا يُنظر لها بالجدية نفسها، مما يجعل الهدف من التربية الجنسية ليس أفضل حياة زوجية بل أمتع علاقة جنسية بين ذكر وأنثى، وتوعية الأحداث لتجنب آثارها من مرض أو حمل قبل الزواج، دون مراعاة أي انعكاسات أخرى للأسلوب المتبع لأنها خارجة عن الهدف، بينما في شرقنا حيث ما زالت الأسرة كما هو المرجو تحتل المكانة الأهم في بناء المجتمع، وحيث الزواج أساس العلاقة الجنسية، والخيانة الزوجية تهدم الأسرة، وعدم شرعية الطفل ليس موضع مساومة، وحيث الطلاق حلال عند وجود موجباته، في ظل هذا المناخ يجب أن تهدف التربية الجنسية إلى أفضل السبل لعلاقة جنسية عاطفية ناجحة بين الأزواج، وأن تكون مدعومة بتربية تهدف إلى علاقة خلقية قائمة على قبول التضحية والاحتمال.
وهكذا نستخلص أن الخطة التربوية التي نحتاج إليها يجب أن ترسم في ضوء واقعنا بمشاكله، تراثنا بمعطياته، التي تعكس شخصية الأمَّة وضميرها، مع الاستفادة من خبرة الغير لتطويره بالشكل الذي يناسب العاملين الأولين فتتحدَّد الخطة وأهدافها العليا على ذلك النحو.
أيُ الأهداف؟
لقد نوّهنا سابقاً ببعض مشاكلنا، وما أكثر الذي أغفلنا لضيق المجال لكن ما ذكرنا هو في نظري أكثرها إلحاحاً لما له من تأثير واضح في إخلال البنية الاجتماعية. فانطلاقاً من معرفة ذلك يجب أن تتحدَّد أهداف التربية لتصحيحها فتجري التربية في ظلها.
ومن ناحية أخرى إنّ مراجعة التراث تكشف لنا تطابقاً تاماً في حالتنا هذه بين أهداف التربية الإسلامية والأهداف التي يستلزمها تصحيح واقعنا، وليس ذلك غريباً إنْ علمنا أننا ما وصلنا إلى حالاتنا الشاذة إلا لبُعدنا عن ثقافتنا وأخلاقنا. نستشفُّ هذه الأهداف من معرفة منحى التوجيه العام في الإسلام من خلال القرآن الكريم والحديث الشريف والمناخ الخلقي الإسلامي، وسنركز منها على الأشدّ مساساً بواقعنا لكشف زيفه وانحرافه.
فالمسلم إنسان نظيف البدن والنفس (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) ((النظافة من الإيمان))، إنسان لين الطبع (... وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ)، ولكن لا يقبل الذل والهزيمة ((لا يحلّ لمؤمن أن يذل نفسه))، ((المؤمن لا يسلم نفسه لعدوه إلا إرب))، ولا يفرط في حقوقه (والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون) إلا في اصلاح أو عفو من موضع قوة (فمن عفا وأصلح فأجره على الله). ولا يتعدّى على حقوق غيره (ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل إنما السبيل على الذين يظلمون الناس ويبغون في الأرض بغير الحق). والقوة هي الصفة المحبَّبة ((المؤمن القوي أحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف وكل خير» مع العفو عند المقدرة «والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس»، وهو إنسان لا يخاف من الآخرين ولو كانوا أقوى منه «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمان» بما يمثّل الناس من الغير أفراداً أو مجتمعاً. ولا يخشى في الحق لومة لائم «الساكت عن الحق شيطان أخرس»، وهو إنسان مبدع يجيد التعبير عن نفسه ولا يقلد ولا يسهل خداعه فلا ينساق مع الآخرين ((لا يكن أحدكم إمَّعة»، يحبّ التضحية والعطاء ((من نعم الله عليك حاجة الناس إليك»، ويحبّ التعاون«وتعاونوا على البر والتقوى» والعمل في مجموعة متناسقة«يد الله مع الجماعة»، ويتقن عمله «إن الله يحبّ من عبده إذا عمل عملاً أن يتقنه»، ويتمتّع بأعلى درجات الحس الاجتماعي «لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه»، ويتمتع بأعلى درجات المسؤولية الاجتماعية «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته».
وأخيراً هو إنسان لا يقيم وزناً لرضى أحد أو غضبه، ولا يخاف أحداً ولا يتقرب من أحد إلاّ الله سبحانه وتعالى فلا يشرك في حبّه وفي خوفه وفي رجائه أحداً «فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام له» [الطاغوت هنا كل ما طغى على الإنسان فاستعبده سواء من داخل نفسه أم من خارجها] وهذا أساس الإيمان.
هذا يعتبر منحى مميّزاً في البناء الإسلامي، ينجم عنه فوارق حاسمة في معطيات التربية ومضمونها ونتائجها، فإن الإيمان الإسلامي والتوجيه العام إنما يهدف إلى غرس الإيمان بالله في ضمير وعقل الفرد والجماعة بديلاً عن أي قيمة أخرى، فيكون توجُّهه كاملاً لله مما يحرّره من كلّ المؤثرات المؤهّلة لأن تطغى عليه وتستعبده وتباعد بين سلوكه وبين قناعاته المرتبطة بالإيمان، سواء كانت المؤثرات داخلية المصدر كرغباته أم خارجة عنه من موجودات تُشاركه الوجود وتنازعه فيه، فالإيمان بالله يكون تحريراً للإنسان من الوقوع في أيّ سُلطة تطغى عليه.
أي مخطط؟
وبعد تحديد الأهداف يلزم رسم مخطط تربوي في ظلها تبدأ حلقاته بالبيت والمدرسة وتكتمل بالمناخ التوجيهي العام في المجتمع الهادف إلى ترسيخ احترام المعطيات الخلقية المستهدفة في ضمائر الناس. والتربية في واقع المجتمعات مرادفة للتوجيه والإرشاد بفنونه وأنواعه، لكن في الإسلام فوق ذلك ما يتجاوزه ويتفوق عليه وهو العبادة. فبعد أن ارتبطت القيم بالإيمان وارتبطت بالله تعالى فاكتسبت سلطتها المعنوية في ضمير الفرد والجماعة، تأتي العبادة لترسيخها في نفس الإنسان، بإحياء دائم لصلته الوجدانية والعقلية بالله تعالى وما يقترن بإرادته من مثل وقيم. فالعبادة، وسيلة تربوية مثالية هي الأجدى من كل ما نعرف تفوقُ أثراً أي مخطط قائم على الوعظ والإرشاد، فهي ممارسة وجدانية عقلية تغرس في نفس الإنسان قيم الإسلام فتمتزج بوجدانه بعد قبولها الواعي عقلياً بالإيمان، حتى تصبح جزءاً من كيانه بلا تكلّف، وهي عامة للمجتمع شاملة لكل إنسان في كل الظروف والأوقات.
أي مثل أعلى؟
إن التربية الإسلامية تفرض عدم ربط القيم التي نعوّدها للطفل بأي مثل أعلى سوى الله، وذلك يعكس واقع الأيديولوجية الإسلامية التي تربط الأخلاق بالله وإرادته، فأيُّ قيمة حتى تكسب في نفس الإنسان احتراماً تحتاج إلى مثل أعلى تستمدُّ منه تأثيرها، وكلّما كان المثل أكمل وأقوى كانت القيم المرتبطة به أقوى أثراً.
وربط القيم بالله تعالى المتّصف باللانهائية من حيث الكمال والاستطاعة، يعطيها أقصى قدر ممكن من الأثر في نفوس المؤمنين، فضلاً عن أنه يقيها من الانحراف تبعاً للمصالح الآنيّة للمجتمع الذي هو البديل القائم في المجتمعات المنفصلة عن الإيمان. فالمجتمعات المادية كالمجتمع الغربي المعاصر الذي مات الإيمان بالله في قلوب أبنائه لم يعد من بديل فيه سوى المجتمع لربط القيم بإرادته، وهذا سلاح ذو حدين، فالحد الأول نافع نسبياً بحيث يخاف الفرد التجاوز على الصالح العام، لكن يمكن له تجاوزه حين يكون في موضع قوة أو حين يكون قادراً على الاخفاء والتبرير، بينما يكون أقوم حين يأتي نتيجة حسّ اجتماعي ومسؤولية اجتماعية كالحال في التوجيه الإسلامي، فيعفُّ الإنسان حينئذٍ في كل الأحوال، لأنّ حسّ الرقابة لا يأتي من المجتمع، بل من الله، ومن الضمير الحي بديمومة إحيائه بصلته بالله.
والحد الثاني خطير للغاية، يجعل الإنسان يخاف من مخالفة المجتمع، فيفقد قدراً كبيراً من قدرته على انتقاد الخطأ العام، ومقاومة الانقياد والتبعيّة، والتأثير الايجابي في إصلاح المجتمع ومما لا يحتاج إلى برهان أن المجتمع ليس دوماً على حق، بل كثيراً ما يكون باطلاً، لا سيما أنّ القناعات العامة كثيراً ما تكون حصيلة تأثير مجموعة ذكية منسّقة الأدوار تؤثر من مواقع قوّتها لمصالحها الخاصة على توجُّهات المجموع، فليس أخطر من أن تجعل الإنسان عبداً للمجتمع، والفرق واضح في النتائج عن الوضع الذي يكون الإنسان فيه رقيباً على نفسه للمجتمع، ورقيباً لنفسه على المجتمع، ورقيباً على نفسه وعلى المجتمع للحقّ والقيم، لأن وجدانه وعقله مرتبطان برقيب أعلى خارج عن المجتمع، بالله وحده، ومنه يستمد قيمه ولا يقيم وزناً إلاّ لرضاه.
فمن الضروري الانتباه إلى هذا الأمر الخطير، فلا نُخطئ خلال تربيتنا بأن ننمّي المجتمع في ضمير الطفل، كمثل أعلى يخافه، عن طريق الخطأ في ربط مبرّرات الأوامر والقيم والضوابط السلوكيّة التي نُقدمها له بالمجتمع ورضاه، وبالناس ورأيهم، لأننا نريد في النهاية إنساناً حُرّاً لا يخضع لعبودية المجتمع أو سواه، بل لله وحده، ورقيباً له على نفسه وعلى المجتمع.
هذا النموذج الخلقي المرتكز إلى العقيدة والقيم الإسلامية كما نرى هو النقيض لما ذكرناه آنفاً من انحرافاتنا الخلقية وآفاتنا الاجتماعية، فمن الواضح أن هذا المنحى الخلقي يمثل نموذج الأهداف المرجوة في تربيتنا لتصحيح واقعنا الراهن.
إلى ذلك فالموعظة القرآنية وكلام النبي صلّى الله عليه وآله في حديثه الشريف لهما أثر فريد في المؤمنين لمخاطبتهما العقل والضمير معاً، ولملاحظتهما البنية النفسية البشرية، وهذا القول ليس فقط لاعتقادنا بالمصدر الإلهي، بل كذلك معرفة من درس فيهما دراسة وعي وتدبُّر.
بلى، لقد تعهد الإسلام الأفراد والجماعة بالتربية الشاملة بالعبادة والموعظة العامة في القرآن الكريم وحديث سلوك النبي صلّى الله عليه وآله والأئمة الأطهار عليهم السلام وصحبهم وتلامذتهم الذين يشكلون نموذجاً ومثالاً للأمة يَستمد الأفراد والجماعة منهم القدوة تلقائياً، هذه القدوة التي لها مكانها الهام في أي مخطط تربوي، بعد هذا كله فإن الإسلام قد أولى الأسرة والمدرسة التي تليها اهتماماً فريداً كحلقة من حلقات المخطط التربوي العام، فلقد جعل الأسرة ركيزة المجتمع الأولى، وأحاطها بتشريعات تجعل منها موطئ سلم بين الزوجين لتوفير المناخ الأنسب للتربية، وجعل وظيفة المرأة الأولى الأمومة، واعتبر أن الأمومة تعني التربية لا واجبات الخدمة المنزلية، وأولى المرأة اهتماماً خاصاً بتشريعاته وتوجيهاته تهدف إلى صيانة مكانتها الخطيرة كأم للمجتمع، وإلى تهذيبها الخاص، لما تلعبه من دور مميّز في الأثر على الطفل، وأبرز اهتماماً فريداً بالطفل، فما ورد من أحاديث شريفة ومن سيرة رسول الله صلّى الله عليه وآله والأئمة من آل بيته عليهم السلام من تعاليم تركّز على أهمية الطفل البالغة وتربيته وتهذيبه وتوسيع مداركه واحترام شخصيته ومشاعره وتكريمه مما يفوق كمّاً ونوعاً ما تمخّضت عنه القوانين الحديثة في هذا الموضوع، وليس على طالب المعرفة سوى مراجعة مصادرها الخاصة، ثم سنّ أولويات في تربية الطفل تنسجم مع التوجه الخلقي العام المذكور نستخلصها من توجيهات الرسول صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام. وبعد استعراضها الآتي سنجد بأنها لا تختلف عن معطيات التربية الرئيسية كما يوصي بها أخصائيو هذا الحقل، إلا بمقدار ما سنُركّز عليه من نقاط خاصة في ضوء واقعنا الراهن.
وهذه الخطوط هي:
1- أن ننظر إلى الطفل مهما صغر سناً على أنه كائن ذو شخصية مستقلّة بمشاعرها وأحاسيسها وإدراكها على اختلاف مستوياتها في السن، وأنّ هذه الشخصية فاعلة ومنفعلة، والتربية تقوم من هذا الاعتبار على إفساح المجال للطفل بالتفاعل مع الأسرة بشكل سليم لتنمية عناصر الخير فيه وتنمية شخصيته وثقته بنفسه. ففي سيرة الرسول صلّى الله عليه وآله عن أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب مرضعة الحسين قالت: ((أخذ مني رسول الله صلّى الله عليه وآله حسيناً أيّام رضاعِهِ فحمله فأراق ماءً على ثوبه فأخذته بعنفٍ حتى بكى فقال صلّى الله عليه وآله: مهلاً ياأمَّ الفضل إنَّ هذه الإراقة الماء يطهرها فأيُ شيء يُزيل هذا الغبار عن قلب الحسين».
وفي سيرته صلّى الله عليه وآله أنه يَقْدِمُ من السفر فيتلقّاه الصبيان فيقف لهم ثم يأمر بهم فيُرفعون إليه، فيرفع منهم بين يديه ومِنْ خلفه ويأمر أصحابه أن يحملوا بعضهم، وعنه صلّى الله عليه وآله قوله: ((أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم يُغْفَر لكم» وعن الصادق عليه السلام عن النبي صلّى الله عليه وآله أنه قال: ((خمس لستُ بتاركهنَ حتى الممات.. وتسليمي على الصبيان لتكون سنة بعدي». هذه القواعد النبوية تدلّ على مدى اهتمام النبي صلّى الله عليه وآله بمشاعر الطفل حتى الرضيع والعناية ببنائه النفسي وإشعاره بالاحترام لتنمية شخصيته وثقته بنفسه.
2- أن نبني سلوكنا القوليّ والعملي تجاه أطفالنا على أساس من الصدق وأن لا نتّبع مع الطفل أسلوب الترغيب الخادع والتخويف الكاذب، ونكون خلال ذلك قدوة له في الصدق والأمانة لنغرس هذه القيمة في نفسه. وفي الحديث الشريف عن عليّ عليه السلام قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: ((إذا وعد أحدكم صبيه فلينجز»، وعن علي عليه السلام قال: ((لا يصلح الكذب جدٌّ ولا هَزْلٌ ولا أن يعد أحدكم صبيّهُ ثم لا يفي له». فلا يحل الكذب على الطفل جدّاً ولا هَزْلاً ولا لترغيب أو ترهيب ولا أن يوعَدَ فلا يوفي بوعدِه، فلا نعوّده هكذا على الكذب وعدم الثقة بالآخرين، بل على الصدق والأمانة.
3- أن تكون الحدود في نطاق العلاقات بين أفراد الأسرة واضحة المعاني بين ما هو حق وما هو واجب وأن لا تدفع شدة العاطفة الأبوين إلى السماح للطفل بالتجاوز على ما ليس له بدون مبرر، وإلى المعاملة المائعة بتلبية الرغبات بشكل غير معقول. وعن الباقر عليه السلام قوله: ((شرّ الآباء من دعاه البرّ إلى الإفراط».
4- أن يكون للعقوبة مكان في سلوك الوالدين نحو أطفالهما على أن تكون مقترنة بتوضيح دوافعها وعادلة تتناسب مع نوع التجاوز، غير مؤذية بدنياً بشدتها ولا نفسياً بنوعيتها. فالعقوبة هي التي تجعل الطفل يشعر بقدسية الحدود.
وأما العقوبة القائمة على التشفّي فتحطّم شخصية الطفل وتخلق عنده الحقد ونوعاً من سوء المحاكمة العقلية حيث توقعه في تناقض بين توقعاته الصحيحة وما يتلقّاه من عقوبة تفوق ذنبه، كما تولّد شعوراً بالظلم قد ينقلب إلى كآبة وعزلة.
والعقوبة التي لا تأتي في مكانها –فيُترك الطفل بلا عقاب رغم استحقاقه ثم يعاقب بشدَّة لخطأٍ صغير لأن الكيل طفح لدى والديه– تخلق عنده نوعاً من عدم الاتزان العاطفي وعدم الوضوح في المحاكمات العقلية بين ما هو مطلوب منه وما ليس مسموحاً به.
هذه القواعد في شكل العقوبة وتوقيتها وعدالتها وتطبيقها الحكيم تلتقي مع نهي الرسول صلّى الله عليه وآله الأب تجاه الابن عن أمور منها (لا يُرهقَهُ وأن لا يَخْرقَ به) ومع موقفه من أم الفضل الذي سبق ذكره في نهرها للحسين عليه السلام بلا مبرر رغم كونه رضيعاً.
5- أن يكون للمكافأة محلُّها في سلوك الوالدين نحو الأطفال على أن تكون معقولة لا تتجاوز الاستحقاق وتوقعات الطفل وأن يركَّز فيها على مدى إتقان الواجب أكثر من أصل أدائه، وأن لا تكون وسيلة إغراء للطفل لحمله على الانصياع لطلبات تبدو له غير معقولة فتصبح نوعاً من التعويد على الرشوة. وتعويد الطفل على الانصياع بالإقناع المتناسب مع مداركه هو المسلك الصحيح في هذا المجال. وفي أحاديث الأئمة عليهم السلام قال الصادق عليه السلام: ((برُّ الرجل بولده برُّه بوالديه». وفي الحديث الشريف عن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وآله: ((من فرّح ابنته فكأنما أعتق رقبة من ولد إسماعيل ومن أقرّ عين ابن فكأنما بكى من خشية الله»، وفي الحديث الشّريف: ((من قبّل ولده كتب الله له حسنة ومن فرّحه فرّحه الله يوم القيامة..». وهذه الأحاديث الآنفة الذكر ذاتها التي لحظناها في الفقرتين السابقتين وفي حادثة أم الفضل مع الحسين عليه السلام لما كان رضيعاً لها مدلولات أخرى توضح مدى اهتمام الإسلام بمنح الطفل البهجة والطمأنينة والاستقرار النفسي، وحمايته من المؤثرات النفسية الضارة، لما لذلك من أثر هام في بُنْيته النفسية وتطوره النفسي والعقلي في مراحل نموِّه.
6- أن يُترك للطفل فرصة للتعبير عن نفسه سلوكاً وقولاً مع مناقشته في ذلك بشكل موضوعي لتثبيت ما هو صحيح في ذهنه وتصحيح ما هو خاطئ مما يُنمّي شخصيته وثقته بنفسه وجرأته على الكلام والتعبير عن رأيه والنقد للآخرين وتقبل النقد الذاتي من الآخرين.
وفي سيرة علي عليه السلام أنه كان عندما يجلس للناس ليسألوه ويكون الحسن والحسين عليهما السلام حاضرين كان أحياناً يحيل السؤال عليهما ليُجيباه فيسمع والناس لكل منهما ثم يأمر الناس بالاقتداء بما يقولانه لما فيه من حكمة. فهذا فضلاً عن أبعاده الواضحة في الإفصاح للناس عن مكانة هذين الإمامين وتقدّمهما رغم كونهما حينئذٍ حديثي السن، فإنه من ناحية أخرى لفْتَةٌ بارعة للقدوة التربوية التي تهدف إلى ما سبق تقريره في هذه الفقرة.
7- أن يعطى الطفل الفرصة للسؤال وأن يكون الجواب له مطابقاً للواقع، مختصراً لا يُشتَّت تفكيره، مبسطاً يتناسب مع إدراكه حسب عمره.
8- أن يكون سلوك الوالدين بين الأطفال عادلاً لا تمييز فيه بالعاطفة والمعاملة.
وفي الحديث الشريف: نظر رسول الله صلّى الله عليه وآله إلى رجل له ابنان فقبّل أحدهما وترك الآخر فقال له صلّى الله عليه وآله: فهلاّ واسيت بينهما. وانه صلّى الله عليه وآله قال: ((اعدلوا بين أولادكم كما تُحبّون أن يعدلوا بينكم».
وأن يكون السلوك نحوهم منطقياً لا إفراط فيه ولا تفريط فعن الباقر عليه السلام كما تقدم ((شرّ الآباء من دعاه البر إلى الإفراط» وفي المأثور ((يلزم الوالدين من العُقوق لولدِهما ما يلْزم الولد لهما من عقوقهما» وأن تكون معاملة الوالدين للطفل قائمة على احترام في الكلام والعمل.
ففي الحديث الشريف ((أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم يُغْفر لكم» وذلك كله لتنمية شخصية الطفل وغرس الأسلوب الصحيح في التعامل مع الآخرين وثقته بالناس، وبناء شخصيته على أساس متوازن.
9- اختيار البيئة الاجتماعية الصالحة للطفل. وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلّى الله عليه وآله ((جاء رجل إلى النبي صلّى الله عليه وآله فقال يا رسول الله ما حقُّ ابني هذا قال تُحسِنُ اسمه وأدبه، وضَعْهُ موضعاً حسناً».
10- أن لا يتوقّع الوالدان أن يكون أطفالهما نسخة عنهما في الميول والعادات والتقاليد، فلا يلزمانهم بذلك فعن عليّ عليه السلام ((لا تُلْزموا أبناءكم على عاداتكم فإنهم خُلِقوا لزمانٍ غير زمانكم» والوقوع في هذا الخطأ سبب رئيسي لنفور الأولاد من والديهم، وإذا تفاقم يتعدّاه إلى النفور من قِيَمِهم. ومن الواضح أن العادات شيءٌ طارئٌ يختلف عن قيم الإسلام التي هي المطلوبة في التربية.
لقد عرضنا فيما سبق قواعد أساسية ولا نقلّل من قيمة ما أغفلنا لعدم سعة المجال، بل ركزنا على المذكور منها لمساسه بواقعنا الذي نقصد تصحيحه.
ومع ذلك نجد ضرورة تركيز الانتباه إلى توجيه التربية لأمرين بارزين في واقعنا لتصحيحهما:
الأول: تضاؤل قدرة الأفراد على التعاون ضمن مجموعة منسّقة الأدوار، الأمر الذي يعزى جزئياً إلى اختلال العلائق والأخلاق وطرق التعامل، وعلاجها يساهم في التصحيح، ولكنه يعزى أيضاً إلى عجز أبنائنا عن التنسيق، فيلزم أن تتوجه التربية البيتيّة والمدرسية إلى تنمية هذه القدرة بتعويد الأطفال على الجهد المنسّق والعمل في مجموعة بوسائل مدروسة كالألعاب والأناشيد الموزعة الأدوار والفروض التي تحتاج إلى جهد جماعي منسَّق، وسواها مما لا يتسع المجال لتفصيله. وواضح أن المناخ الخلقي الإسلامي يركّز ايجابياً على هذه القيمة الخلقية «وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى»، ((يد الله مع الجماعة» وواضح أيضاً أنّ أفعال العبادة الإسلامية تطويعُ للمجتمع في هذا المنحى.
الثاني: تضاؤل روح التضحية في مجتمعنا الذي هو في أمسّ الحاجة لتضحية أبنائه مما يستلزم غرس روح التضحية وحُبِّ العطاء عند الأطفال حينما يكون الطفل في موضع القادر على الأخذ فنوحي إليه بالعطاء كي لا يكون ضعفاً وتنازلاً والفرق كبير، وتحبيب العطاء والتضحية يتمُّ بالتوجيه والقدوة ليصبح قيمة تنمو مع الطفل، وواضح أن هذه قيمة من القيم الإسلامية، وهدف من أهداف التربية الإسلامية كما نَوّهنا سابقاً، ذات جذور كبرى في القرآن الكريم والسنّة الشريفة وسلوك الرسول صلّى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام ومن أخلص لهم.
وفي الخلاصة فإن أخطاءنا الاجتماعية التي تشكل الخلل الأساسي في بناء الفرد والمجتمع لدينا فضلاً عن أنها في قسطٍ كبيرٍ حصيلة أخطائنا التربوية فإنّه يُمكن تصحيحها بخطّة تربوية سليمة تتكامل حلقاتها من البيت إلى المدرسة إلى المجتمع، وإن هذه الخطّة يجب أن تقوم على معطياتٍ موضوعية في التربية في ضوء واقعنا الخاص وضوء تُراثنا لتنسجم مع مشاكلنا الملحّة ومع شخصيتنا الخاصّة ولتلتقي مع ضمير الأمة، وإنّ التربية بمرتكزاتها الإسلامية تشكّل حلقات متكاملة تبدأ مع الطفل في بيته ومدرسته لتستمرّ معه مدى حياته، وتتطابق في أهدافها مع مستلزمات مشاكلنا وتشكل المنهج التربوي الأنسب في ضوء واقعنا الراهن.
المصدر: مجلة نور الإسلام، العدد: 31- 32.
د. زهير بيطار
اترك تعليق