غِيْرَةُ الأبناء: فِعْلُ الآباء
هي إحدى حقائق الحياة التي يجب أن نتقبّلها، ونتعلّم كيفيّة التعاطي معها، فقليل منها مطلوب ويساهم في تعزيز التنافس الإيجابي، بينما تخطّيها لحدود معيّنة يمكن أن يصبح مدمّراً... نتحدث هنا عن الغيرة بين الإخوة داخل الأسرة، فعبارات مثل: "رزقت بمولود جديد"، و"أكاد أفقد صوابي من غيرة إخوته"، و"ماذا أفعل؟"، و"أولادي يتشاجرون بشكل مستمر"، كلمات يكاد لا يخلو منها منزل. وما يختلف من أسرة إلى أخرى حدّة هذه الغيرة ومدى تأثيرها على سلوك الطفل، ومستوى الضرّر الذي قد تسبّبه له وللآخرين... ما هي الغيرة بين الإخوة؟ وما هي أبرز أسبابها؟ ما هي أهمّ مظاهرها؟ وكيف نتعامل معها؟
الغيرة هي تجربة انفعالية، وشعور إنساني يكاد يكون عاماً بين كافّة الأطفال. وهذا الانفعال داخلي وله مظاهر خارجيّة تختلف بحسب المثيرات ووفقاً للبيئة المحيطة بالطفل وطريقة التعامل معه، وترتبط كذلك بِبُنية الطفل النفسيّة، وعمره، وطبيعة شخصيّته...
* أهمّ أسباب الغيرة بين الإخوة
1- ولادة طفل جديد، هي من الأمور الأكثر شيوعاً في الأسر، حيث يتحوّل انتباه الأسرة إلى المولود الجديد، ويراقب الأطفال الآخرون في الأسرة فرحة الوالدين بالمولود الجديد بترقّب وقلق شديد خوفاً من أن تتراجع مكانتهم في الأسرة لصالح الزائر الجديد.
ويكون وقْع هذا الموضوع أشدّ إيلاماً عندما يكون الفارق الزمني كبيراً بين الولد الأول والثاني، بحيث يشعر الأول بالوحدة، وأن القادم الجديد سحب منه جميع امتيازاته.
2- سوء معاملة الأبوين أو أحدهما للطفل، إذْ قد يتعرّض أحد الأطفال في الأسرة لسوء معاملة وتوبيخ مستمر وقسوة وإهمال لأسباب متعددة، تجعله يشعر بالغيرة من إخوته.
3- اتجاه الأبوين أو أحدهما لتفضيل أحد الأطفال، إما لجماله أو ذكائه أو شَبهه بأحدهما، أو خفّة ظلّه أو غيرها من الصفات، ما يثير غيرة إخوته. فلم تكن شكوى إخوة النبي يوسف عليه السلام نتيجة عدم محبة أبيهم لهم، بل من ظنهم أنه يحب يوسف أكثر منهم: ﴿إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾ (يوسف: 8).
4- اتجاه الأبوين أو أحدهما لإجراء مقارنة بين الإخوة بشكل دائم.
5- صفات شخصيّة، سواء على صعيد الشكل أو الأداء المدرسي أو السلوك الاجتماعي، أو ضعف في الثقة بالنفس، أمورٌ تجعل الطفل يشعر بأنه غير محبوب، وأنه عبء على أسرته، وأن إخوته خير منه...
6- الغيرة بين الجنسين، وخاصّة في الأسر التي تفضّل الذكور بشكل واضح على الإناث. وهذا الأمر له تداعيات خطيرة في حال لم يعالج بالشكل المناسب، قد تصل لرفض الفتاة لجنسها، أو كراهيتها لكل الرجال، ما يؤثر سلباً على مستقبل حياتها الأسرية.
* أبرز مظاهر الغيرة
الغيرة عبارة عن شعور مركّب يمتزج فيه حب التملّك مع الغضب، والحزن والقلق. وكما أسلفنا تختلف مظاهر التعبير عنه وفقاً لعوامل متعددة. وتتجلّى الغيرة بين الإخوة بشكل عام من خلال واحد أو أكثر من السلوكيّات التالية:
1- الشجار بين الإخوة، وهذا يحصل بشكل أكبر بين الإخوة الذين هم في سن متقاربة. والشجار بحدوده الطبيعية التي لا تصل إلى الأذية الجسدية مقبول ويعتبر من وسائل التنفيس، وطريقة لتعلم التواصل والتعبير...
2- البكاء والصراخ لأبسط الأمور.
3- التمرد والعصيان.
4- ثورات غضب.
5- العبث بمحتويات المنزل.
6- الإيذاء الجسدي للمولود الجديد.
7- الانزواء وترك مخالطة الآخرين، وهو من السلوكيات التي يجب التوقف عندها، بشكل خاص. ففي حال استمر هذا السلوك لفترة طويلة، يمكن اعتباره من المؤشرات الخطيرة لوصول الغيرة إلى مراحل مَرَضية، فقد تكون الغيرة استبدت بالطفل لمرحلة جعلته يفقد حيويّته ومرحه.
8- عادات، مثل قضم الأظافر، نتف الشعر...
9- التبول اللّاإرادي.
10- حمى ووهن جسدي.
وتختلف حدّة الغيرة عموماً بحسب المراحل العمرية، وموقع الطفل في الأسرة، فالمشاعر التنافسيّة أكثر حدّة، عند الطفل الأول. فهو يشعر بأنّ المولود الجديد سحب منه الامتيازات، وأنّه لم يعد محطّ الأنظار والاهتمام. ومعظم خبراء تربية الطفل يعتقدون أنّ الغيرة من الرضيع تكون أقوى دون سن الخامسة من العمر وبخاصة بين 2-4 سنوات، وذلك لأنّ الطفل ما زال يعتمد على اهتمام والديه، ولديه القليل من الأصدقاء. أما الطفل الأكبر سناً فيمكن أن يشغل نفسه مع أصدقائه أو بالمدرسة، ولكن هذا لا يعني أنه لا يغار، ولكن طريقة تعبيره مختلفة، وطُرق صَرفه عن الغيرة أسهل. كما تكثر نسبة الغيرة بين البنات عنها بين البنين.
* كيف نعالج الغيرة بين الإخوة؟
تختلف طرق المعالجة باختلاف الأسباب. سنفرد في هذا المجال مساحة أكبر لموضوع معالجة الغيرة من المولود الجديد، ونقدم إرشادات عامة سريعة لبقية أنواع الغيرة.
* التعامل مع الغيرة من المولود الجديد:
1- تهيئة الطفل بطريقة صحيحة لاستقبال المولود الجديد. ويمكن أن تقوم الأم بتعليمه كيفيّة الاهتمام بالمولود الجديد من خلال التعامل مع دمية، حتى يعتاد الطفل على مشهد أنّ أمه تعتني بغيره، ويشعر برغبة في المشاركة بالعناية بالصغير.
2- استبدال الخطاب الذي توجّهه الأم إلى الطفل الأكبر بأن لا يفعل مثل أخيه الصغير، بخطاب إلى المولود الجديد، على سبيل المثال: متى ستكبر لتصبح مثل أخيك تأكل وحدك؟ متى ستتعلّم دخول الحمام، وأرتاح من تغيير حفاضـاتـك؟ سـيـعـلـمك أخوك كيف تقول ماذا تريد دون أن تبكي.
3- إعطاء جملة من الامتيازات للطفل لأنه كبير لا يستطيع المولود الجديد الحصول عليها، كإعطائه مثلاً قطعة حلوى له والقول للصغير: "أنت لا تستطيع أن تأكل منها لأنك صغير"، أو إعطائه ألعاباً لا يستطيع أخوه الحصول عليها لأنه صغير. وفي هذا المجال يجب التنبه لعدم القول للطفل إن هذه الألعاب هي من أخيه الصغير، لأن ذلك يمكن أن يشعره بالعجز عن تقديم شيء بالمقابل، فيزيد شعوره بالغيرة، أو يؤدي إلى ارتباك لديه بين الفكرة التي نقدمها له بأن هذا المولود عاجز عن فعل أي شيء، لذا نقوم كأهل بمساعدته، وبين قدرة المولود على شراء الهدايا.
4- تنبيه الأقارب إلى عدم إبداء اهتمام كبير بالمولود الجديد أمام الطفل، وعقد مقارنات بينهما.
5- يمكن الاستعانة بألبوم صور للطفل عندما كان في سن المولود، ليفهم أن هذه مرحلة يمر بها جميع الأطفال.
6- تركه يعبّر عن غضبه وإظهار مشاعره الصادقة اتجاه المولود الجديد، وتقبّل هذا الشعور. ولكن هذا لا يعني أبداً أن نتركه يقوم بإيذاء المولود الجديد، إنما يمكن إعطاؤه دمية كبيرة، والقول له إننا نعلم أنه منزعج من المولود الجديد، وإنه يمكنه أن يرينا انزعاجه من خلال تعامله مع الدمية. ودورنا يكون في هذا المجال بأن نكون مراقبين حياديين، ولا نُصدم بضراوة مشاعره، فقد يلجأ إلى دس إصبعه في عين الدمية، أو الدوس عليها...
* نصائح عامة في موضوع الغيرة بين الإخوة
1- العدل في التعامل مع الأولاد، وعدم التمييز بينهم في العاطفة بشكل خاص.
2- الابتعاد عن إجراء المقارنات بين الإخوة، أو بينهم وبين الأطفال الآخرين.
3- وضع معايير موحّدة للمنزل، تجري معاقبة جميع المخالفين لها بنفس الطريقة.
4- تنمية مهارات الأطفال، وتشجعيهم على الثقة بقدراتهم، فالطفل الذي يمتلك ثقة بنفسه أقلّ تأثراً بالغيرة.
5- إشراك الأطفال في المنزل في أنشطة جماعية، مثل إعداد مأدبة إفطار، أو تزيين لمناسبة معيّنة، ولكن بعيداً عن الإلزام.
6- إعطاء مكافاءات جماعيّة في حال ساعد الإخوة أحد إخوتهم على تخطّي عقبات معيّنة.
7- الشرح للأطفال أننا، كأسرة، نشكّل فريق عمل مميّزاً، ولكلٍّ دوره وأهميّته، وفي تعاونه مع الآخرين داخل الأسرة، يمكنه أن يُنجز المزيد.
8- عدم التدخّل بشكل مباشر في شجار الإخوة، إلّا في حدود وقْف الأذى الجسدي الكبير، وعدم نُصرة أحد الطّرفين على الآخر، بل إعطاؤهم وقتاً مستقطعاً ليقيّموا الموقف ويصدروا الحكم المناسب.
في جميع الأحوال، يجب أن نتحلّى بالصبر، ونقنع أنفسنا أنّ هذه مرحلة لا بدّ منها، وأنّ الأمور تحتاج لبعض الحكمة والصبر ولكننا سنتخطاها بنجاح، لأن ثورات غضبنا ستزيد الأمور تعقيداً. وأن نعلم أنّ هذه الغيرة لن تنتهي ولكن سيعتاد الأولاد على بعضهم بعضاً ويجدون -ببعض المساعدة- طريقة تواصل سليمة. ولا ضير من الاستعانة بمختص، إذا شعرنا أنّ الأمور خرجت عن السيطرة، أو أنّ هناك مؤشّرات خطرة...
المصدر: مجلة بقية الله.
سحر مصطفى
اترك تعليق