مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مسؤولية الوالدين في تغذية الطفل بالمحبة

مسؤولية الوالدين في تغذية الطفل بالمحبة


ينبغي للوالدين أن يغذيا أطفالهم بالحب والحنان والعاطفة كما ذكرنا، وأن لا يوجهوا إليهم ضربة نفسية، كإن يزجر أحدهما الطفل وهو في عمر أربع أو خمس سنوات في مجلس عام أو يعرضه -خصوصاً أمام الأخرين- إلى الإذلال والتوهين. إن الكلمات الخشنة الجارحة والموهنة تتحول إلى حراب تنغرس في نفسية الطفل فتؤذيه وتسبب له الآلام والعقد(1).
لذلك ينبغي احترام الطفل وعدم إهانته حتى لو كان عمره سنتين أو ثلاث، فهو يتأذى تماماً كما يتأثر بإبتسامة أبويه وضحكاتهما وهو إبن عشرة أيام.
وإذا كان الطفل الصغير لا مبالياً، أو لم تبدر على مظهره علامات الأذى والألم إيزاء ما يتعرض من إهانة وكلام حاد، فإن روحه تنقبض وتتأذى وتبدأ العقد النفسية بالتشكل والنمو.
أما إذا لم يمنح الطفل - وهو في سن الثلاث أو الأربع سنوات - المحبة الكافية، وتعرض بدلاً من ذلك للإهانة والضرب، فإنه سيصاب بالعقد وضعف الأعصاب، لذلك ينبغي مداراة الطفل ورعايته بالمحبة والود، خصوصاً في مراحل حياته الأولى، بداية ذهابه إلى المدرسة.
فعن رسول الله نقرأ قوله(ص): "الولد سيد سبع سنين، وغلام -أي عبد- سبع سنين، ووزير سبع سنين" وقريب منه (الولد سبع أمير وسبع أسير وسبع وزير).
ففي السبع الأولى يحتاج إلى المحبة، وفي الثانية يمكن الإستفادة منه وتعليمه وزرع بذور الفعالية في شخصيته، وعندما يبلغ ويشتد عوده يصبح وزير أبيه. إنه يحتاج للمحبة في كل هذه المراحل، ولكن بكيفية تختلف من مرحلة إلى أخرى.
ففي السبعة الثالثة التي يصف فيها الحديث بأنه "وزير" ينبغي للوالدين إظهار الإحترام لشخصيته والتحدث معه بالإستدلال ومشاورته. وينبغي أن لا يرد أو يضغط على شخصيته بالأوامر والنواهي، بل يتحدث بالإستدلال والمنطق والتلطف والموعظة، هذه أمور سنتحدث عنها مفصلاً في فصول قادمة إن شاء الله.
ولكن الذي نؤكد عليه الآن ضرورة انتباه الوالدين إلى الحاجة التي يعيشها الطفل غريزياً إلى المحبة والإهتمام والعطف ولداً كان أم بنتاً.
فكما يراعي الوالدان شروط التغذية الصحيحة لأولادهم ينبغي لهم إشباع غريزة المحبة وتغذية روح الطفل بما ينعشها، وإلا ففي خلاف ذلك يقتل الطفل معنوياً وروحياً، وينشأ على العقد النفسية، الأمر الذي يجعل الأبوين مسؤولين شرعاً أمام الله إذا ترتبت آثار سلبية على سلوك الطفل كأن يتحول -لا سمح الله- إلى مجرم. 
ونجد في تفسير قوله تعالى: « من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا ً» تأويلاً رائعاً للإمام الصادق(ع) ينسجم مع أجواء بحثنا في هذه النقطة.
إن المعنى الظاهر للآية واضح، فلو قتل الإنسان إنساناً بريئاً بغير حق، فكأنما قتل الناس جميعاً، ومن حفظ نفساً وأنقذها وهي تشرف على الموت فكأنما أنجى الناس جميعاً. ومثال ذلك من ينقذ طفلاً من الغرق أو مدهوساً على مشارف الموت ومن هكذا أمره.
أما المعنى التأويلي فيروى عن الإمام الصادق(ع) أنه أخبر أنه من يتسبب في انحراف شخص وضلاله يكون كمن قتل الناس جميعاً، ومن أحيا نفساً بالهداية والإستقامة يكون كمن أحيا الناس جميعاً. 
ونحن نستفيد من هذا التأويل في قضية التربية، فنرى أن الوالدين اللذين يربيان أولادهما تربية صحيحة ويرفدان المجتمع بعناصر صالحة، مثلما من أحيا الناس جميعاً.
أما إذا تسببت الأم والأب في انحراف الأولاد وإنزلاقهم إلى مهاوي الفساد والتهور فإن على الوالدين أن يتحملا وزر من قتل الناس جميعاً!
إنتبهوا -أيها السادة- إلى خطورة المسألة، فلو أخبر الوالدان بأن إبنتهما ظلت الطريق وإنخدعت بابتسامة أو برسالة غرامية، أو أن إبنهما ضاع بين رفاق السوء، وبالتالي إبتعدوا عن خط الإستقامة والهداية، فإن مسؤولية الإنحراف أو أي جناية يرتكبانها تقع على عاتق الوالدين إذا كانا مقصران في منحهما المحبة الكافية والرعاية النفسية والمعنوية المطلوبة.
المحبة في حدود الاعتدال
في مقابل التأكيد المتزايد على ضرورة إشباع حاجة الطفل الفطرية إلى المحبة، يجب على الوالدين أن لا يبالغا في ذلك، فيكون الطفل مدللاً أكثر من اللازم ومتجاوزاً للحد الطبيعي المعقول من الرعاية والمحبة والإهتمام، لأن مثل هذا الطفل -ولداً كان أم بنتاً- يؤدي في الحال إلى نتائج سلبية وعقد نفسية مؤذية لشخصيته، تترك بصماتها على سلوكه ومواقفه المستقبلية.
إن الطفل الذي ينشأ على المحبة والدلال الزائد عن الحد، وهو يتوقع موقعاً وإحتراماً من الناس لا يلقيان بمستواه الفعلي بإمكاناته الحقيقية ومقدار ما يعطيه هو نفسه للناس.
القرآن الكريم يذم الذين يحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا ويحذون بقوله تعالى: «لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا  يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم»(2).
ثم إن الطفل المدلل أكثر من اللازم، والذي يعتنى به أكثر من الحد الطبيعي، مثلما يفرض آراءه ورغباته داخل البيت على والديه ويعتدي بالضرب على إخوته، فإنه عندما يكبر يحاول ما استطاع أن يفرض نفسه ورغباته بالقوة على الناس، وإذا كان في البيت يم الإعتداء على إخوته فهو يحاول في الكبر أن يظلم الآخرين بالقوة.
وثمة آثار سلبية أخرى تلحق بالشخص الذي تجاوز الحد الطبيعي في المحبة والدلال، لأنه ينشأ على عدم الثقة بنفسه ولا يستطيع الإستقلال أو الوقوف على رجليه، بل هو دائم الإرتباط بوالديه.
رعاية أطوار نمو الشخصية 
إن من يرغب من الأمهات والآباء في أن يرفد المجتمع بطفل سليم متكامل الشخصية، عليه أن يراعي أطوار نمو الشخصية كما وردت في حديث يروى عن رسول الله(ص) قال فيه: "الوالد سيد سبع سنين، وخادم سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيت مكانفته لإحدى وعشرين وإلا فاضرب على كتفه، قد أعذرت إلى الله فيه" (3).
ففي المرحلة الأولى ينبغي للوالدين زق شخصية الطفل بالحنان والمودة والحب، وفي الطور الثاني (السبع الثانية) عليهما تعويده على بعض الأعمال، فالأم تمنح إبنتها جائزة إذا قامت بإنجاز بعض الأعمال المنزلية، والأب يشجع ولده ويكافؤه عندما ينجز بعض الأعمال التي يكلفه بها.
وكل ذلك يتم في أجواء المحبة وباللسان اللطيف اللين.
أما في الطور الثالث -وسنتحدث عن هذه المراحل مفصلاً- فإن الحديث الشريف يمنح شخصية الطفل لقب وزير، ومعنى ذلك أن العلاقة بين الأب وولده الذي بلغ (17) أ (20) عاماً يجب أن تكون على أساس الاحترام والمشورة، تماماً كما في علاقة السلطان أو الحاكم بوزيره.                                          
في هذه المرحلة من حق الوالد أن يستثمر طاقة ولده في إنجاز الأعمال والتكاليف، ولكن بصيغة المشاورة، دون ما يمارس بعض الأباء والأمهات من صيغ الأمر والنهي الذي يأتي بصيغة جافة مضجرة مؤذية لشخصية الأولاد في هذا السن.
على سبيل المثال، يستطيع الأب أن يسأل ولده عن رأيه بالقيام بالعمل الفلاني، ويهيؤه من خلال هذا الأسلوب من دون أن يوحه له جافاً ويطلب منه التنفيذ.
النتيجة واحدة، ولكن الأسلوب يختلف، وثماره تنعكس على مقومات بناء الشخصية السليمة.
والآن نسأل: أين هذه الصورة التي يرسمها الحديث الشريف عن الممارسات الخاطئة التي تعج بها تصرفات الآباء والأمهات في مجتمعنا؟ 
إننا كثيراً ما نسمع من بعض الآباء والأمهات -الذين تعوزهم المعرفة- نهرهم الشديد لأولادهم الكبار (ذكوراً وإناث) عندما يتحدثون بشيء أو يقترحون شيئاً، وعادة ما يقترن النهر، بتوهين لشخصية الولد أو البنت، كأن يقال لهم: اسكتوا ما زال طعم الحليب لم يجف من أفواهكم بعد، وذلك دلالة على استصغارهم والنظر إليهم دون المستوى الطبيعي لشخصيتهم.
إن هذه الحالات وما يماثلها تؤدي إلى تدمير الشخصية وتؤدي بالولد أو البنت إلى مالق الإنحراف والجريمة، أو تعمد في الأقل إلى شل قدراتهم. وتحويلهم إلى شخصيات راكدة لا تملك قدرة الفعل والحركة.
ثمة مسؤولية متبادلة في قضية إختيار الفتاة للزوج المناسب، ففي الوقت الذي ينبغي للوالدين أن يمارسا مسؤوليتهما في ذلك، عليهما أن يتشاورا مع أبنتهما أيضاً.
وذلك بعكس ما نراه في بعض العوائل من الخطاب جاف يوجه إلى الفتاة كأن يقال لها: أسكتي ولا تفتحي فمك بكلمة، وقد يقال لها أكثر من ذلك؟
إن هذا الأسلوب يقتل شخصية الفتاة، ويقودها في بعض الأحيان إلى مجانبة العفة والإنزلاق في مهاوي الإنحراف والفساد.
إن الأولاد في مرحلة عمرهم الثالثة التي يرسمها لنا الحديث النبوي الشريف، يشعرون بشخصيتهم  بقوة ويميلون إلى ما يطلق غليه اسم تحقيق الذات، لذلك ينظر الشاب إلى نفسه بأنه أكثر علماً ومعرفة من أبيه، وأوزن عقلاً منه، وتعتريه نوبات غرور الشباب. وقد يكون مخطئاً في ذلك، لكن وظيفة الأب في التعامل معه ينبغي أن تقوم على دعامة الإستدلال والمشورة، أي تمرير الأوامر والتكاليف بأسلوب  لطيف ومنفتح يحافظ الأب معه على شخصية الإبن وتحافظ الأم على شخصية الفتاة.
ويحصل أحياناً أن يكلف أحد الوالدين أولاده بعمل معين فيعتذر الولد أو البنت عن القيام به لوجود شغل معين، وهنا تثور ثائرة الأم أو الأب بالصياح والتوهين، وهذ الحالة بدورها تعبير آخر عن إنتقاص شخصية الأولاد والإساءة إلى قوامها السليم.


 الهوامش:  
1- في كتابه المفيد يستعرض الدكتور محمد رفعت حالات الأمراض النفسية والعصبية التي تصيب الكبار, وعندما نبحث عن أسبابها ومنشئها التاريخي نجده في افتقاد الطفل للرعاية المعنوية والحب والعاطفة في الصغر.الأمراض النفسية والعصبية, إعداد محمد رفعت, لبنان/1979 م, فصل أمراض الأطفال النفسية.
2- سورة المائدة، الآية 32.
3- سورة آل عمران، الآية 188.
 
المصدر: الموسوعة الشاملة لجميع طرق تربية الطفل، السيد جواد الصافي، دار المحجة البيضاء 2013 م، بيروت لبنان.
        

التعليقات (0)

اترك تعليق