مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

حنّت، وأنّت، ومدت يديها.. سلام الله عليها

حنّت، وأنّت، ومدت يديها.. سلام الله عليها

لا نستطيع أن نغفل الإشارة إلى أن ما ذكر في بعض الروايات من أنه(ع) حنّت وأنّت.. ليس بالأمر الباطل، ولا المستجهن على أولياء الله سبحانه، ولا هو بعيد عن قدرة الله، إذ لا تستلزم نسبته إليه تعالى محذوراً عقلياً، يجعل الإعتقاد به في دائرة الباطل، علماً بأن علاقة الروح بالجسد، وإن كانت قد ضعفت بالموت بصورة كبيرة، ولكنها لم تنقطع بصورة نهائية وتامة.
يدلنا على ذلك: وجود حساب القبر.. واستحباب زيارة القبور، وقراءة القرآن عندها وغير ذلك..
فلا مانع من أن يكون لبعض الأمور تأثير في زيادة العلاقة، وتقويتها لدى الأنبياء والأصفياء، أو بطلب منهم..
ولذلك نلاحظ: أن بعض الأموات يرجعون إلى الحياة بسبب طلب نبي، وبعضهم يتكلمون، أو يجيبون على بعض الأسئلة التي توجه إليهم من قبل نبي أو وصي نبي.
وقصة بقرة بني إسرائيل التي ذبحوها، وضربوا ببعضها ذلك الميت فأحياه الله، وأخبرهم بما سألوه عنه، معروفة، ومصرح بها في القرآن.
قال تعالى: {فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا}(1).

هل هذه الرواية مكذوبة؟!:
عن ورقة بن عبد الله الأزدي، عن فضة (رحمها الله) (التي كانت عند السيدة الزهراء (عليها السلام)) قالت في رواية مطولة: (فأقبل الحسن والحسين عليهما السلام، وهما يناديان: واحسرتاه، لا تنطفئ أبداً.. فقدنا جدنا محمداً المصطفى، وأمنا فاطمة الزهراء، يا أم الحسن، يا أم الحسين، إذا لقيت جدنا المصطفى فاقرئيه منا السلام، وقولي له: إنا قد بقينا بعدك يتيمين في دار الدنيا..
فقال أمير المؤمنين علي (عليه السلام): إني أُشهِد الله أنها قد حنَّت وأنَّت، ومدت يديها، وضمتهما إلى صدرها ملياً. وإذا بهاتف من السماء ينادي:
يا أبا الحسن، ارفعهما عنها، فلقد أبكيا والله ملائكة السماوات، فقد اشتاق الحبيب إلى المحبوب.
قال: فرفعتهما عن صدرها، وجعلت أعقد الرداء..)(2).
وقريب من ذلك ما روي عن أسماء بنت عميس..(3) أيضاً.
وهذه الرواية، وإن كانت لا تملك سنداً صحيحاً، ومعتبراً، لكن ذلك لا يعني لزوم ردها، والحكم ببطلانها، فإنه ليس بالضرورة أن يكون الحديث الضعيف مكذوباً..
وإنما تردُّ الرواية بصورة قاطعة.. إذا اشتملت على ما يخالف القرآن، أو المسلَّمات الدينية بصورة عامة، أو ما يخالف ما تحكم به العقول.. أو ما يخالف الواقع العيني الخارجي.
وليس الأمر في الرواية المشار إليها كذلك.. بل هي قد تضمنت أمراً يتصل بالغيب، وبالكرامة الإلهية للمصطفين من عباده الأكرمين..
وأمثال هذه الأمور مما تجوِّز العقول وقوعها، ولا تحيلها..
غاية الأمر: أن إثبات حصولها يحتاج إلى الدليل المقنع والمعتبر، وحيث لا يوجد مثل هذا الدليل، فلا يصح ردها بصورة قاطعة، بل توضع في بقعة الإمكان، حتى يذود عنها قاطع البرهان..

علي(ع) في وداع الزهراء(ع):
وعن الإمام الحسين(ع) قال: مرضت فاطمة(ع) ووصت إلى علي(ع) أن يكتم أمرها، ويخفي خبرها، ولا يؤذن أحداً بمرضها، ففعل ذلك. وكان يمرضها بنفسه، وتعينه على ذلك أسماء بنت عميس، على استسرار بذلك كما وصت به.
فلما قبضت فاطمة(ع) دفنها أمير المؤمنين(ع)، وعفى على موضع قبرها، ثم قام وحول وجهه إلى رسول الله(ص)، فقال:
(السلام عليك يا رسول الله..
إلى أن قال: (قد استرجعت الوديعة، وأٌخذت الرهينة، وأُخلست الزهراء، فما أقبح الخضراء والغبراء!
يا رسول الله، أما حزني فسرمد، وأما ليلي فمسهد، وهمّ لا يبرح من قلبي، أو يختار الله لي دارك التي أنت فيها مقيم.
كمد مقيح، وهم مهيج، سرعان ما فرق بيننا، وإلى الله أشكو.
وستنبئك ابنتك بتضافر أمتك على هضمها؛ فأحفها السؤال، واستخبرها الحال، فكم من غليل معتلج بصدرها، لم تجد إلى بثه سبيلاً. وستقول، ويحكم الله، وهو خير الحاكمين.
سلام مودع، لا قالٍ ولا سَئِمٍ، فإن أنصرف فلا عن ملالة، وإن أقم فلا عن سوء ظن بما وعد الله الصابرين.
واه، واها، والصبر أيمن وأجمل.
ولولا غلبة المستولين لجعلت المقام واللبث لزاماً معكوفاً، ولأعولت إعوال الثكلى على جليل الرزية.
فبعين الله تدفن ابنتك سراً؟! وتهضم حقها، وتمنع إرثها، ولم يتباعد العهد، ولم يُخْلِق منك الذكر؟!
وإلى الله يا رسول الله المشتكى، وفيك يا رسول الله أحسن العزاء، وصلى الله عليك، وعليها السلام والرضوان)(1).

غليل لم تجد إلى بثه سبيلاً:
وقد تضمنت كلمات أمير المؤمنين(ع) هذه في مخاطبة رسول الله(ص)، الكثير مما يحتاج إلى الوقوف عنده، واستفادة العبر والعظات والدروس منه. ولأن ذلك غير متيسر لنا الآن.. فقد آثرنا الإكتفاء بتذكير القارئ بأمر هام أشار إليه (صلوات الله وسلامه عليه) في كلماته تلك، حيث قال: (فكم من غليل معتلج بصدرها، لم تجد إلى بثه سبيلاً).
فما هي هذه المفردات سبب كثرة الغليل في صدرها، والتي لم تجد
الفرصة أو السبيل إلى بثه، والإفصاح عنه؟!.
إن من يقرأ النصوص المتوفرة يخيَّل إليه: أنه(ع) قد تحدث أو أشار بالتخصيص أو التعميم إلى جميع الأحداث التي واجهتها، ووصلت إلينا أنباؤها. وإن ثمة ما لم تتمكن من بثه واظهاره.
إن هذا الأمر يستحق الوقوف عنده، والبحث عنه، والتماس السبل إليه..




الهوامش:
1- الآية 73 من سورة البقرة.
2- بحار الأنوار ج43 ص174ـ 180 واللمعة البيضاء ص854 ـ 761 والأنوار العلوية ص302 ـ 306 ومجمع النورين ص151ـ 154.
3- راجع: الزهراء بهجة قلب المصطفى ص579.
4- راجع المصادر التالية: نهج البلاغة (بشرح عبده) الخطبة رقم 200 و(ط مطبعة النهضةـ قم سنة1412) ج2 ص182 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج10 ص265، والكافي ج1 ص458 ودلائل الإمامة ص137 و138 والمناقب لابن شهرآشوب ج3 ص364 و365 والأمالي للشيخ الطوسي ج1 ص107 و108 و109وروضة الواعظين ص152 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج2= = ص215 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص139 والأمالي للمفيد ص281 و283 والأنوار البهية ص64 والغدير ج9 ص373 والإمام علي بن أبي طالب(ع) للهمداني ص713 وموسوعة أحاديث أهل البيت(ع) للنجفي ج3 ص136 و250 وج11 ص13 وج12 ص37 وقاموس الرجال للتستري ج12 ص324 وبشارة المصطفى ص397 وكشف الغمة للإربلي ج2 ص127 والأنوار العلوية ص304 ومجمع النورين للمرندي ص151 وبيت الأحزان ص184 والمجالس الفاخرة للسيد شرف الدين ص154 ونهج السعادة ج1 ص71 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج10 ص481 وج25 ص550 وج33 ص385 وبحار الأنوار ج43 ص211 و193 و84 عن أمالي الشيخ، وعن الكافي، وعن الأحكام الشرعية للحسن الخزاز القمي، وتذكرة الخواص، وكشف الغمة، والوافي ج3 ص748 وغير ذلك.



المصدر: الصحيح من سيرة الإمام علي(ع)- ج10 (لـ جعفر مرتضى العاملي).

التعليقات (0)

اترك تعليق