هل المفاهيم الدينية خطر على الطفل؟
قد لا يهتم الكثير من الناس بشأن التربية الدينية لأبنائهم بالقدر الذي يولونه للتربية البدنية أو الصحية أو النفسية أو الاجتماعية أو الثقافية، مع أنّ انتماء الإنسان للإسلام أو أي دين آخر يحتّم عليه أن يوائم ويوفّق بين سلوكه الشخصي وتعاليم هذا الدين، وأن يهيّئ ابنه ويعدّه لتقبّل الدين الذي اقتنع به، أو على الأقل يطلعه على عقائده ومبادئه ورؤيته للعالم، وقد أقرّت بعض المعاهدات الدولية بحق الآباء والأوصياء الشرعيين في تربية الأولاد وفقاً لعقيدتهم الدينية، وإن لم تشر إلى ذلك اتفاقية حقوق الطفل مقتصرة على احترام دور الوالدين في تربيته.
وصحيح أن الولد قبل البلوغ مرفوع عنه القلم إلاّ أن ذلك لا يعفي ذويه من المسؤولية والعمل على تهذيبه وتحصينه وتزويده بمختلف المعارف وعلى رأسها المعارف الدينية، بل إنّ الإسلام يحمّل المرء مسؤولية شرعية في حفظ نفسه وعياله من الانحراف والابتعاد عن دين الله سبحانه وخطّ الأنبياء والمرسلين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6]، ولذا فإنّ التربية الدينية كغيرها من أنحاء التربية يفترض أن تواكب الطفل منذ سني عمره الأولى التي يأخذ فيها بالتمييز والتعرّف على الأشياء والسؤال عن أسباب وما ورائيات الأحداث والأمور ذات البعد الديني أو التي لها تفسير ديني، من قبيل السؤال عن الخالق أو الموت وما بعده.
دور الدين في العملية التربوية:
وربّما يتساءل البعض: ما هو دور الدين في المسألة التربوية وتحديداً في تربية الأطفال وتهذيبهم؟ ألاَ يعتبر إدخال الدين في العملية المذكورة إقحاماً للطفل في أمور تتجاوز طاقته وتفوق عقله وفهمه، وربما كان لذلك مضاعفات سلبية على صحّته الجسدية
والنفسية والعقلية وعلى المجتمع من حوله؟
في المقابل يرى الكثيرون أنّ الدين في مفاهيمه المتنوعة ورسالته الأخلاقية يساهم بشكل كبير في تربية الطفل وتهذيبه خلقياً وروحياً دون أن يترك تأثيرات سلبية على وضعه النفسي والعقلي.
هل المفاهيم الدينية خطر على الطفل؟
في البدء نتوقّف عند الرأي القائل: إنّ المفاهيم الدينية –سواءً العقائدية منها كبعض المفاهيم أو التصورات المرتبطة بيوم القيامة وأهوالها والقبر وعقباته، أو الشرعية كتلك المتصلة بالنظرة إلى الآخر مما يدخل في إطار التكفير والتفسيق والتضليل– تمثّل في حدّ ذاتها وطبيعتها ثقلاً وعبئاً ضاغطاً على عقل الطفل وصحته النفسية والجسدية، كما أنّها تنمّي لديه مشاعر الحقد والكراهية، الأمر الذي يفرض إبعاد تلك المفاهيم والتصورات عن المجال التربوي، وينطلق هؤلاء في تأكيد وجهة نظرهم هذه من بعض التجارب الخاطئة والنماذج السلبية في أكثر من مجال ويشيرون إلى بعض المناهج التعليمية التي تتضمّن أفكاراً تكفيرية إقصائية.
إلاّ أن تقديم موقف حاسم في هذه القضية مرتبط بتحديد الموقف إزاء دور الدين في الحياة الإنسانية في شتّى أبعادها التربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، فهل أن دور الدين في هذه المجالات دور هامشي؟ أو أنّه يقع في صلب الحياة ويعتبر المحرّك الأبرز لها؟
إنّ الذي تعتقده شريحة واسعة من أتباع الرسالات السماوية ومنهم المسلمون أنّ للدين دوراً أساسياً وليس هامشياً في تنظيم الحياة الإنسانية، وأنّ الله أرسل الرسل وأنزل معهم الكتب بغرض هداية الإنسان وسوقه نحو الكمال، فالعملية التربوية هي في صلب اهتمامات الدين وعلى رأس أولوياته ومقاصده، وقد قال(ص) فيما روي عنه: "إنّما بعثت لأُتمم مكارم الأخلاق"(1)، وعلى ضوء اعتقادهم هذا، فهم يرون أنّ السبيل الأفضل وربما الوحيد وأن الطريقة المثلى وربّما المتعيّنة في العملية التربوية تتمثّل في اعتماد المناهج المرتكزة على المبادئ الأخلاقية الدينية، لأنّ الدين بنظرهم يشكّل طاقة روحية تربوية وأخلاقية تدفع الإنسان إلى فعل الخيرات وتجنّبه الشرور وتعصمه من الشذوذ والانحراف وتمنحه التعقّل والتصبّر وتنمّي قدراته وطاقاته العقلية والجسدية.
هذا هو رأي واعتقاد جماعة المؤمنين وقد يشاطرهم الرأي نفسه –وإن لم يشاطرهم الاعتقاد عينه– ولو بشكل جزئي الكثير من العلمانيين الذين يقصون الدين عن الساحة السياسية والتشريعية، حيث لا ينكر هؤلاء بأنّ ثمّة دوراً يمكن أن يلعبه الدين في المجال التربوي والأخلاقي، بل ربّما حصروا نطاق الدين ووظيفته بخصوص الدائرة الأخلاقية.
والاعتقاد المذكور وإنْ لم يكن –بنظرنا– كافياً في نجاح المسيرة التربوية ووصولها إلى غاياتها، لأنّ للنجاح شروطاً أخرى تتجاوز الاعتقاد المجرّد والشعارات الاستهلاكية الفضفاضة، وأهم هذه الشروط هو العمل على ترجمة هذا الاعتقاد إلى برامج ومناهج تربوية، وهذا بدوره يحتاج إلى جهد تأصيلي فقهي وتربوي يدرس الموضوع من كل جوانبه ويلاحق المستجدات، بيد أنّه ومع غضّ النظر عن القصور الملحوظ في هذا المجال، وبصرف النظر أيضاً عن مسألة إيمانهم أو عدم إيمانهم بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، فإنّه يفترض بعلماء التربية أخذ الدين بنظر الاعتبار في العملية التربوية، لا لكونه عقيدة يؤمن بها مئات الملايين من البشر فحسب، بل لأنّ بالإمكان –أيضاً– توظيفه بشكلٍ وبآخر في بناء الشخصية الإنسانية وتهذيبها وترويضها من كلّ النزعات الشريرة؟
وفي اعتقادي، أنه لا ينبغي أن يتردّد علماء التربية والمهتمين بها في الاستفادة من المفاهيم الدينية في هذا المجال بالنظر إلى دورها الكبير وقدرتها على التغيير.
لغة الأرقام تتكلّم:
وممّا يعزّز صحة الاعتقاد المتقدّم هو التجربة الإنسانية والواقع العملي، فإنّنا لو أجرينا مقارنة دقيقة بين الآثار والنتائج السلبية للمناهج التربوية التي أبعدت الدين وقيمه عن العملية التربوية، سواء في المدرسة أو الأسرة، وبين النتائج السلبية للمناهج التي تعتمد التربية الدينية، لوجدنا أنّ الكفّة الأولى هي الراجحة، فهذه هي الوقائع والأرقام تتحدّث بأنّ مستوى الجريمة والانحراف الخلقي في المدارس الغربية التي ترفض اعتماد التربية الدينية مرتفع جداً بالقياس إلى المدارس التي تعتمدها، كما هو الحال في المدرسة الإسلامية، ولو أنّنا أخذنا العالم الإسلامي مثالاً وراجعنا إحصاءات الجريمة فيه على مدار السنة لوجدنا أنّ نسبة الجريمة تنخفض إلى أدنى مستوياتها في شهر رمضان المبارك، لما للصوم من تأثير معنوي وروحي على نفوس المسلمين، وإذا أخذنا بنظر الاعتبار أن بالإمكان إصلاح المناهج التربوية الدينية من بعض الشوائب التي علقت بها فسوف ترتفع أسهم الداعين إلى اعتماد التربية الدينية في العملية التربوية.
تطهير البرامج التعليميّة:
ولعلّ أولى تلك الشوائب والسلبيات هو ما تمّت الإشارة إليه في مستهل الحديث من احتواء بعض المناهج الدينية التعليمية على لغة التحريض ومنطق التكفير، ممّا لا يمكننا القبول به، فنحن عندما نحثّ وندعو إلى إدخال التربية الدينية في المسألة التعليمية أو استثمار القِيَم الدينية الأخلاقية في هذا المجال لا ننكر بأنّ ثمّة مناهج دينية معيّنة منتشرة في بعض البلدان الإسلامية بحاجة إلى إصلاح وتغيير، ولا يمكن القبول بها، لأنّها تحضّ على العنف وتنشر ثقافة الحقد والكراهية وتربّي الطلاب على تكفير الآخر وتضليله وتحليل دمه وماله وعرضه، اعتماداً على رؤية ضيقة في فهم الدين وقراءات مجتزئة وحرفية لبعض نصوصه، بعيداً عن الفهم المتكامل للدين ومقاصده وآفاقه الرحبة.
إنّ هذه الثقافة المذهبية الضيقة عندما يتم غرسها في نفوس الأطفال والتلاميذ فمن الطبيعي أن تنتج أجيالاً من الجماعات التكفيرية الإقصائية التي تنتهج العنف سبيلاً وتعتمد الحقد والكراهية منهجاً وسلوكاً.
إنّ المذهبية الفكرية أو الفقهية لا تمثّل مشكلة بحدّ ذاتها، بل إنّها كانت ولا تزال عامل ثراء وغنى للفكر والفقه الإسلاميين، وإنّما المشكلة في المذهبية عندما تتحوّل إلى عصبية مقيتة وعشائرية جاهلية.
الدين كعنصر أمان:
إنّ الدين وفي وسط هذا الفراغ الروحي والقلق النفسي الذي يجتاح الإنسان المعاصر يشكّل في مفاهيمه النقية عنصر أمن وعامل اطمئنان، يمنح الإنسان سلاماً داخلياً واستقراراً نفسياً {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد:28] كما ويمنحه سلاماً واستقراراً اجتماعياً من خلال تعاليمه التي تدعو إلى التراحم والتحابّ ونبذ الفرقة والعنف، وتحثّ على التواصل ومدّ يد العون والمساعدة للآخرين، يقول عليّ(ع): "الإيمان أمان"(2) ويقول الفيلسوف الدوس هكسلي: "لا تستريح البشرية حتى يتجرّد الإنسان من عوائقه ونزعاته ولا يكون متجرّداً إلاّ إذا ارتبط برباط آخر ألاَ وهو الله"(3)، ويرى عالِم النفس السويسري كارل بونج "أن انعدام الشعور الديني يسبّب كثيراً من مشاعر القلق والخوف من المستقبل والشعور بعدم الأمان والنزوع نحو النزعات المادية البحتة، كما يؤدي إلى فقدان الشعور بمعنى ومغزى هذه الحياة ويؤدي ذلك إلى الشعور بالضياع"(4).
________________________________________
(1) بحار الأنوار: 16/210، كنز العمال: 3/16.
(2) عيون الحكم والمواعظ: 37.
(3) نحو إنسانية سعيدة الدكتور محمد المبارك ص 135، دار الفكر/ بيروت 1389 هــ.
(4) دراسات في تفسير السلوك الإنساني، الدكتور عبد الرحمن العيسوي: ص 193، دار الراتب الجامعية بيروت 1419 هــ.
المصدر: كتاب "حقوق الطفل في الإسلام": الشيخ حسين الخشن.
اترك تعليق