مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مريم؛ مثلٌ ضربه الله لفاطمة، عليها السلام

مريم؛ مثلٌ ضربه الله لفاطمة، عليها السلام

كانت الأديان الإلهية تتعرض للتحريف بعد رحيل الأنبياء، فهناك أناس تسلقوا إلى سدة الزعامة الدينية و هم متواطئون مع أجهزة السلطة حيث تمت الصفقة فيما بين رجال الدين و رجال الحكم، و كانت النتائج خطيرة.
من تلك النماذج علماء بني إسرائيل الداخلون في البلاط الحكومي و الذين كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه و يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله،(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ‏). (سورة البقرة /79)
إنهم كانوا يحظون بمقبولية واسعة لدى الجمهور مما أتاحت لهم فرصة اللعب بنواميس الدين فراجت بضاعتهم، ولم يقصروا في مهمتهم الشيطانية لحرف الدين الإلهي إلى أقصى مديات الانحراف، وأرادوا أن يُطفئوا نور الله بأفواههم، لكن (وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)، (سورة التوبة/32) فلابد من كشف قناع هؤلاء الدجالين وفضح حقيقتهم أمام الناس.

* مريم ومهمة التصدّي لتحريف الدين
بيد أن السؤال المحوري هنا؛ من يقوم بهذا الدور؟
إن المتصدي لهذه المهمة العظيمة، هو شخص عظيم ذو مواصفات خاصة، أبرزها؛ التضحية والتحدي والصبر والإيمان المطلق بالله تعالى. وهذا ما تجسد في شخصية السيدة مريم بنت عمران. هذه المرأة انتدبت لهذه المهمة لأنها قمة في الطهارة و العفة.
يكفي أنها حَظيت بمديح القرآن الكريم وخصص لها الله -تعالى- سورة كاملة، بينت لنا قصتها بالكامل، فجاء عن تميزها بالطهر بين نساء قومها: (وَإِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ). (سورة آل عمران/42)
هذه هي مريم الطاهرة التي انتدبها الله لمهمة صعبة و حرجة للغاية، عليها أن تواجه ذلك البلاط الحاكم وأيضا علماء السوء الذين يسهل عليهم النيل من شرف الإنسان لإرضاء الحاكم. فكان عليها أن تحمل الرسالة الإلهية بين أحشائها، وتخاطر بسمعتها أمام كل أدعياء الدين، لأن الله قدر أن لا يكون لهذا المولود والد.
انتدبها الله لتكشف دجل علماء اليهود المتآمرين على شريعة موسى والداخلين في بلاط السلطان، وذلك من خلال التضحية بسمعتها وبأهم ما تعتز به المرأة وهو النقاء والعفة، وكانت القمة في ذلك، بل كانت معروفة بهذه المكانة عند الناس، الأمر الذي جعل التحدي كبيراً والاختبار قاسياً لبني إسرائيل، سقط فيه علماء بني إسرائيل بعد أن سقطت الأقنعة التي أخفت زيفهم وانحرافهم.
فلولا هي -سلام الله عليها- وشجاعتها، لما أتيحت الفرصة لنبي الله عيسى، عليه السلام، أن يقوم بدوره، ولا تمكن من نشر رسالته ومواجهة سلاطين الجور ومعهم المتآمرين من علماء الدجل الذين حرفوا ديانة موسى و كانوا يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله.

* لماذا مريم وليس زكريا؟
إنه سؤال جدير حقاً!
لماذا مريم بالذات وهي امرأة، ولم ينتدب لتلك المهمة، زكريا وهو رجل، وقد كان نبياً؟
إن التعرّض لنقاء وطهر امرأة مثل مريم بنت عمران، يكون أشبه باللغم الذي ينفجر ويكشف عن وجود المعتدين، لذا كانت المهمة شاقة وصعبة للغاية على مريم، ربما من الصعب على أي امرأة تصور مهمة كهذه وأن تفعل ما فعلته مريم، وهي فتاة صغيرة، وبين ليلة وضحاها تأتي بطفل وليد على يديها وتعرضه على الناس. لذا كان خطابها للسماء: (قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيّاً). (سورة مريم/20) بيد أن الله تعالى هوّن عليها الخطب: (قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً). (سورة مريم/21)

* الانقلاب في أمة سيد الرسل
رحلت السيدة مريم إلى جوار ربها، كما رحل نبي الله عيسى إلى السماء، لكن لم ترحل نزعة الانحراف في النفس الإنسانية، وقد أكد القرآن الكريم هذه الحقيقة، و حذرنا من وقوع الانقلاب على الأعقاب فور رحيل سيد الرسل من دار الدنيا: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِيْن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ). (سورة آل عمران/144)، وذلك على حذو سائر الأنبياء والمرسلين الذين تعرضوا لانقلابات كهذه من قبل أتباعهم من بعد رحيلهم.
روى “البخاري” وغيره من أصحاب الصحاح، عن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: “بينا أنا قائم فإذا زمرة حتى إذا عرفتهم، خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم! فقلت: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: وما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري. ثم إذا زمرة حتى إذا عرفتهم خرج رجل من بيني وبينهم، فقال: هلم! قلت: أين؟ قال: إلى النار والله! قلت: ما شأنهم؟ قال: إنهم ارتدوا بعدك على أدبارهم القهقري. فلا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم”.(1)
فهؤلاء المتسترون بقناع الإسلام والورع والتقوى، الذين بلغ من شدة تسترهم وخفاء أمرهم، أن التبس أمرهم على المسلمين، لذا يقوم رسول الله، صلى الله عليه وآله، يوم القيامة ويقول مستنكرا حجبهم عن الحوض: «إنهم مني...» أو يقول: «يا رب أصحابي...»! مع علمه أنهم مرتدون بمقتضى مقام شهادته على الخلق وعلى أعمالهم، لكنه إنما يقول ذلك يوم الحشر ليقف الآخرون على بواطن سرائرهم، من الذين لا زالوا يعتقدون فيهم خيراً، لصحبتهم للرسول وسابقتهم في الإسلام، كما خاطب الله عيسى بن مريم: (أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ). (سورة المائدة/116)
وفي صحيح مسلم، روى عن رسول الله، صلى الله عليه وآله: “يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي ولا يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان الإنس”.(2)

* مريم، مَثلٌ للزهراء
هنا؛ انتدب الله امرأة في أمة محمد، صلى الله عليه وآله، هي سيدة هذه الأمة، والابنة البكر لنبيها، وخاتم الأنبياء والمرسلين. لتكون هي من تواجه المنافقين والمنحرفين وتصد الباب في وجوههم وتحبط مخططهم الشيطاني إلى الأبد. هذا الدور هو المتمم لرسالة الخاتم، والممهد لإمامة أوصيائه المعصومين، كما كان دور مريم في الحفاظ على رسالة موسى وإنقاذه من أيدي المنحرفين، وصيانة نبي الله عيسى وتهيئة الأرضية لظهوره.
إذن؛ يمكن القول: إن مريم، مثلٌ ضربه الله لسيدة النساء، فاطمة الزهراء، سلام الله عليها، فعن أبي عبد الله، عليه السلام، في قوله عز وجل: (وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا)، (سورة التحريم/12) قال: إنه مثل ضربه الله لفاطمة بنت رسول الله، صلى الله عليه و آله‏.(3)

* لماذا فاطمة....؟!
يبقى السؤال؛ لِمَ اختيرت فاطمة الزهراء، عليها السلام، لهذه المهمة الصعبة والحساسة، وهي امرأة، وهي بنت رسول الله، ومن المتوقع ان يحدث أي شيء في ساحة المواجهة؟
ففي الهجوم الأخير على بيت الرسالة، والذي تم فيه إحراق الدار، حينما أرادوا اقتحامه، لم  يقم أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، بصد الباب في وجوههم، بعد ما قام، سلام الله عليه، بذلك في المرتين السابقتين، وإنما قامت فاطمة لتصد الباب وتحرج عليهم دخولهم من دون الإذن(4)، وبصدها، صدّت باب الضلال من أن يدخل بيت الإسلام والإيمان.
فلماذا فاطمة، عليها السلام، وهي امرأة و ليس علياً، عليه السلام، وهو رجل؟
إنما فاطمة، سلام الله عليها، لأنها بنت رسول الله، وكانت تحظى بمكانة سامية عند الله ورسوله وفي نفوس المسلمين، كما مريم أيضا. وهتك حجاب المرأة اقرع وأشنع وأسرع لإفشال المخططات الشيطانية، وأسرع في كشف القناع عن حقيقة دجلهم ونفاقهم وانحرافهم، فحتى أعراف الجاهلية، تراعي للمرأة حرمة وحشمة، وإن كانت امرأة عادية، فيتحرجون من الدخول عليها بغير إذن. فكيف إذا كانت هي فاطمة الزهراء، بنت رسول الله، صلى الله عليه وآله، وسيدة نساء أهل الجنة، وهي حامل؟!
نعم؛ تحول بيت فاطمة إلى ساحة مواجهة تاريخية وملحمة بطولية لا نظير لها، بين الرسالة والإيمان، وبين الانحراف والزيف والطغيان، وفي خضم المواجهة يحصل أن تتعرض الصديقة إلى الخدش في وجهها وتلطم، وتخاطر بنفسها وبجنينها، لكن ذلك كله يسهل في جنب طاعة الله والحفاظ على رسالة الخاتم من أن تندرس وتنحرف، كما خاطرت مريم بنفسها حفاظاً على رسالات الله.
فإن كانت مريم قد تعرضت للأذى المعنوي والنفسي، فإن الصديقة الطاهرة، خاطرت بنفسها وضحت بجنينها، وصبرت على اجتماع الأمة على هضمها حقها وحق بعلها أمير المؤمنين.
وإذا خوطبت مريم بقوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ)، (سورة آل عمران /42)، فقد خوطبت الصديقة بقوله تعالى: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)، (سورة الأحزاب /33) و أين طهارة آية التطهير الشاملة لسيد الرسل، صلى الله عليه وآله، من طهارة مريم؟
وإن كانت مريم تحظى باحترام بالغ لدى بني إسرائيل، لذا اختيرت لتلك المهمة لتكون أبلغ في إفشال المخطط اليهودي، فإن فاطمة، سلام الله عليها، بلغت من حالها في نفوس الصحابة أن بيوتها تقاس عندهم ببيوت الأنبياء. فحينما نزلت هذه الآية: (في‏ بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)، وأخبر النبي أصحابه بأن المراد منها بیوت الأنبياء، قاموا من فورهم إلى الرسول سائلين: أو بيت علي وفاطمة منها؟
فنفس هذا السؤال شاهد صريح على أنه كان المرتكز عندهم، أن بيت فاطمة لا يقاس ببيوت الناس العاديين، بل هي على غرار بيوت رسل الله.
وروى السيوطي،  في تفسيره «الدر المنثور»، قال: «وأخرج ابن مردويه وبريدة قال: قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ)، (سورة النور/36)، فقام إليه رجل فقال: أي بيوت هذه يا رسول الله؟ قال: بيوت الأنبياء، فقام إليه أبو بكر فقال: يا رسول الله، هذا البيت منها، بيت علي وفاطمة ؟ قال : نعم من أفاضلها”.(5)
وأما بابها فهي الباب التي كان النبي، صلى الله عليه وآله، يقف عندها كل صباح فيسلم على أهلها ويقرأ آية التطهير: (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)، وهذه الحالة طالت ستة أشهر وفي بعض الأخبار تسعة أشهر.(6)
هذه الموقعية السامية التي كانت تحظى بها ومكانة بيتها، أدت إلى نوع من التقهقر حتى في زمرة الداخلين على البتول والمقتحمين للدار، فحينما رأوه (....) وقد صمم على الإحراق سألوه مستنكرين: إن فيها فاطمة!
لكن أبت النفوس الجاهلية والقلوب القاسية، أن ترعى حرمة لبنت رسول الله، صلى الله عليه وآله، فرد عليهم قائلا: وإن...!!(7)
وهكذا بقيت الباب المحطمة والمحروقة، والضلع المكسور، وصمة عار أبدية على جرأة نفر من دعاة الإسلام، على حرمة نبي الإسلام وعلى ضمير الرسالة وناموسها. وهكذا يتم الحفاظ على الرسالة المحمدية وعلى القرآن والعترة عن التحريف والتلاعب، فلولا تلك الدماء الطاهرة لم يبق من القرآن إلا مثل ما بقي من التوراة والإنجيل.
فسلام الله عليها، يوم ولدت ويوم ضربت ولطمت وكسر ضلعها، وأسقط جنينها ويوم فارقت هذه الدنيا وهي شهيدة مظلومة ويوم تبعث حيّة.



____________________________
الهوامش:
1-(صحيح البخاري ج 7 ح 209)
والهمل بفتحتين: الإبل بلا راع قال الخطابي: الهمل ما لا يرعى ولا يستعمل ويطلق على الضوال  والمعنى أنه لا يرده منهم إلا القليل، لأن الهمل في الإبل قليل بالنسبة لغيره.
وفي لسان العرب: وفي حديث الحوض: فلا يخلص منهم إلا مثل همل النعم; الهمل: ضوال الإبل، واحدها هامل، أي إن الناجي منهم قليل في قلة النعم الضالة.
2-(صحيح مسلم 717 ح 4806)
3-(تفسیر البرهان ج 5 ص 431)
4- لا بد من الالتفات إلى أنها سلام الله عليها لم تقم لتفتح الباب للمهاجمين، وإنما قامت لتصد ولتمنع من اقتحامهم للدار.
5-المستدرك على الصحيحين 3: 158 كان النبيّ يمر بباب فاطمة ستة أشهر..، وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، أسد الغابة 5: 521 فاطمة بنت رسول الله، صلّى الله عليه وآله وسلّم، مسند أحمد 3: 259 مسند أنس بن مالك ، تفسير الطبري 22: 9 (( وَقَرنَ في بيوتكنَّ...))، تفسير ابن كثير 3: 92 سورة الأحزاب، الدر المنثور 5: 199 سورة الأحزاب، مسند الطيالسي: 274 علي بن زيد بن الجدعان عن أنس، صحيح الترمذي 5: 31 سورة الأحزاب، كنز العمال 13: 646 فضائل أهل البيت، المصنف 7: 527 ما ذكر في فضائل فاطمة، عليها السلام، مسند أبي يعلى 7: 59 الحديث 3978.
6-بحار الأنوار: ج 43 ص 82.
7-الإمامة والسياسة لابن قتيبة الدينوري: ج1 ص 19.



المصدر: مجلة الهدى.
فضيلة الشيخ حسن الكاشاني

التعليقات (0)

اترك تعليق