مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كينونة السيدة الزهراء (عليها السلام) .. أفكار وأسرار

كينونة السيدة الزهراء (عليها السلام) .. أفكار وأسرار

كل شيء من حولنا نتعرّفه، ونُلمّ به، إنما نأخذه بحيّزه المكاني، وكينونته بمجاله الذي يشغله من الكون، ونأخذه أيضاً بإطاره الزماني، وامتدادات تأثيره في الأزمنة الأُخرى، إذا كان مؤثراً فيها، ونأخذه كذلك بما وراء الإطار، من خلال انبعاثاته، أو إثاراته، أو مستواه في الخروج من قيود المكان والزمان.. فعلى سبيل المثال؛ الزهرة الجميلة، نأخذها بإطارها المكاني، أي بكينونتها في حيّز تشغله داخل الحقل، إن لها حيّزاً صغيراً من الحقل الجميل، أو حيّز بسيط قرب صخرة نائية، أو حيّزاً محدوداً جداً في رمال الصحراء، إذا كانت من أزهار ربيع الصحراء، أما في إطارها الزماني فهي لها عمر قصير لا يتجاوز عدّة أيام، وسرعان ما تذبل، وليس لها في أزمنة أُخرى أي تأثير، إلاّ ربما تأثير الذكرى الجميلة، لكن إذا أحسنّا الاستفادة من عطرها وجمعناه مركّزاً في قارورة، فسيكون لهذه الزهرة حضور مادام هذا العطر موجوداً، وقد رأيتُ على قبر الشاعر بدوي الجبل عند الساحل السوري هذين البيتين:
سيذكرُني بعدَ الفراقِ أحبّتي       ويبقى من الناس الأحاديثُ والذِكْرُ
ورودُ الرُبى بعد الربيعِ بعيدةٌ      ويُدنيكَ منها في قواريرِها العِطْرُ
إذن استطاعت تلك الزهرة الجميلة أن تتخطّى بعطرها حيّزها المكاني، وإطارها الزماني، وأصبح لها امتدادات في أزمنة أُخرى من خلال عطرها المستخلَص بجهد إنساني.

ونحن أمام شخصية عظيمة في الوجود.. ألا وهي سيدتنا الزهراء عليها السلام؛ فكيف نفهمها؟ وكيف نعرفها؟
نأتي إلى حيّزها المكاني، لنرى كينونتها في المجال الذي تشغله من الكون.. نتفاجأ أنها تختلف عن الآخرين الذين يتشكّلون أول ما يتشكّلون من نطفة، تتكوّن من بعد تناولهم الغذاء المتشكّل من تراب الأرض، فهي سلام الله عليها لم يرتضِ لها ربُّها الجليل أن تتشكّل من نطفة متكوّنة من تراب الأرض، بل قدّر أن تتشكّل من ثمرة من ثمار الجنة، تناولها أبوها الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وآله وسلّم، ليلة عُرِج به إلى السماء.. إذن؛ هي عليها السلام لها كينونة مرتبطة بعوالم أُخرى خارج حيّز التراب الأرضي المحدود.. ثم هي من أب كان نوراً قبل أن يخلق اللهُ الخلقَ بآلاف كثيرة من السنين، ثم بعد أن خلق الله العظيم عبده آدم عليه السلام، جعل نور محمد صلى الله عليه وآله، في صلبه، لينتقل محفوظاً في سلسلة مباركة من الأصلاب الشامخة والأرحام المطهرة، ثم يقسم هذا النور في صلب عبد المطلب بن هاشم إلى نصفين؛ نصف في عبد الله والد الرسول الكريم، ونصف في أبي طالب والد الإمام علي -صلّى الله وسلّم على تلك الذوات المطهّرة- ثم جاء الأمر الإلهي بعد هجرة الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله، من مكة إلى المدينة بأن يُزوّج النور من النور، فزوّج علياً من ابنته فاطمة، المتشكّلة في صلبه من ثمرة الجنة جسداً طاهراً، ومن نور الرسول المصطفى نفساً، أو روحاً، أو كينونةً حقيقية أكبر من أن تُلبس في جسم مادي، لكن لحِكَم إلهية، وتقديرات ربّانية شاء الله العزيز الحكيم أن تُلبس تلك الأنوار الطاهرة بهذه الأجساد المرئية.. هذا كله يعني أن الحيّز المكاني الذي تشغله السيدة الزهراء في هذا الكون ليس في سنتمترات مربعة أو مكعّبة من أرض يثرب، إنما هو حيّز بمقدار امتدادات إشعاع النور الخالص، وهو ينتقل من عالم الخلق الأول قبل خلق الملائكة والسماء والأرض، مروراً بتلك الحقب الطويلة جداً من عمر الكون كله، ووصولاً إلى ميلادها في تلك البقعة المباركة -مكة المكرّمة- ثم نشوئها وتدرّجها في هذا الحيز المحد  ود جداً، الذي كانت تخرج عليه باتصالها العجيب بما وراء المكان من خلال عبادة الله لتصل الأرض بالسماء، حتى تتمنى الملائكة لو أنها تستروح عبقَها الذي لا يوصف، وتلثم ذبذباتها التي توهّج كل عالم القربة إلى الله تعالى.
ومن هذا التخطّي للحيّز المكاني يتبيّن أيضاً كيف أن السيدة الزهراء عليها وعلى أبيها وآله صلوات ربهم وسلامه، تتخطّى البعد الزماني؛ إذ لا يمكن تحجيم وجودها كلّه بأعوام قليلة قبل الهجرة، وبأعوام يسيرة بعد الهجرة، ثم ينتهي كل شيء.. بل تنفتح أبواب الأسئلة المدهشة، لتتساقط عليها أمطار الأجوبة السعيدة، عن هذه الكينونة المتخطّية أسوار الزمان والمكان، وهي أكبر وأثرى من مثال العطر الذي يذكّر بالزهرة الجميلة بعد الذبول، فهي سلام الله عليها، عصيّة على الذبول والأُفول، لا تُحجَّم، ولا تُقزَّم، وحضورها لا يَبلى، وعطاؤها لا يُنسى..
وأما امتدادات حضورها في الأمكنة والأزمنة الأُخرى، فهي واضحة للعيان الإنساني، وغير خفية بالتأمل في المسيرة التكوينية والوجود الأكواني، مع اعترافنا جميعاً بأنها سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين، وسيّدة نساء أهل الجنة، كما يروي ذلك جميع المسلمين بأسانيد صحيحة متواترة عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم، وقبل تلك الأحاديث الشريفة نزلت الآيات القرآنية الشريفة تنبّه وتؤكّد، ومنها آية التطهير الغنية في الدلالات: "إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا" (سورة الأحزاب/33)، وأما (سورة الإنسان)، فهي تتحدّث عن الزهراء وأُسرتها، بشكل عجيب، خارج إطار المكان والزمان، في ربط بهيج بين الدنيا والآخرة، مع التفاتة مبهرة، تهز التفكير هزّاً، بأنّ الله تعالى «جزاهم» بما صبروا، بصيغة الماضي، وليس بصيغة المضارع «يجزيهم»، ولا بصيغة المستقبل القريب «سيجزيهم»، ولا بصيغة المستقبل البعيد «سوف يجزيهم»!..
إنها وقفة للتأمل والتدبر في هذه السورة المباركة، التي تحدّثت عن تلك الذوات المطهرة المباركة المقدّسة، إنهم الأبرار؛ فاطمة وعلي والحسن والحسين (سلام الله عليهم) حصراً دون غيرهم:
(إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا * عيناً يشرب بها عباد الله يفجّرونها تفجيرا * يوفون بالنذر ويخافون يوماً كان شره مستطيرا * ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوماً عبوساً قمطريرا * فوقاهم الله شرّ ذلك اليوم ولقّاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا * متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمساً ولا زمهريرا * ودانية عليهم ظلالها وذُلّلت قطوفها تذليلا * ويُطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا * قوارير من فضة قدّروها تقديرا * ويُسقون فيها كأساً كان مزاجها زنجبيلا * عينا فيها تسمى سلسبيلا * ويطوف عليهم ولدان مخلّدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤاً منثورا * وإذا رأيت ثم رأيت نعيماً ومُلكاً كبيرا * عليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحُلّوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شراباً طهورا * إنّ هذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا).

إنها دعوة إلى التفكّر والتدبّر والتبصّر في هذه الآيات الشريفة المباركة، ومن هنا تبدأ فرصة مُثلى للتعرّف إلى كينونة السيدة الزهراء عليها وعلى أبيها المصطفى و زوجها المرتضى وأبنائها الأئمة النجباء أفضل الصلاة والسلام.



المصدر: مجلة الهدى
فضيلة الشيخ عبد المجيد فرج الله

التعليقات (0)

اترك تعليق