مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

تأديب الطفل وتعليمه وفق مدرسة أهل البيت عليهم السلام

تأديب الطفل وتعليمه وفق مدرسة أهل البيت عليهم السلام

أدب الطفل في مدرسة أهل البيت عليهم السلام:

يمكن إبراز الخطوط الأساسية لمدرسة أهل البيت عليهم السلام في بيان تأديب الطفل وتعليمه في النقاط التالية:
أـ لا تقتصر تربية الأولاد على الأبوين فحسب بل هي مسؤولية اجتماعية تقع أيضاً على عاتق جميع أفراد المجتمع. وحول هذه النقطة بالذات، يقول الإمام الصادق عليه السلام: «أيّما ناشئ نشأ في قوم ثمّ لم يؤدّب على معصية، فإنّ الله عزّ وجلّ أوّل ما يعاقبهم فيه أن ينقص من أرزاقهم»(1).
فالإمام عليه السلام يحدّد المسؤولية الجماعية عن الظواهر الاجتماعية السلبية، ويكشف عن الترابط القائم بين التربية والتعليم، وبين الوضع الاقتصادي، فكل انحراف في التربية سوف يؤثر سلباً على الاقتصاد، فللمعصية آثار تدميرية على المجتمع، لذلك نجد القرآن الكريم، ينقل دعوة النبي هود عليه السلام لقومه بالتوبة من المعصية والاستغفار كشرط أساسي لنزول المطر الذي حُبس عنهم ثلاث سنين: (ويا قوم استغفروا ربّكم ثمَّ تُوبوا إليه يُرسل السماء عليكُم مدراراً ويزدكم قوةً إلى قوَّتكم ولا تتولَّوا مُجرمين) (هود 11 : 52).
فرؤية آل البيت عليهم السلام تنطوي على ضرورة تأديب أفراد المجتمع وخصوصاً الأحداث منهم على الطاعة، وتميل إلى أن المسؤولية في ذلك لا تناط بالوالدين فحسب، وإنّ كان دورهم أساسياً، وإنّما تتسع دائرتها لتشمل الجميع، فالسُنّة الاجتماعية بطبيعتها تنطبق على الجميع بدون استثناء.
بـ من الضروري مراعاة عمر الطفل، فلكل عمر سياسة تربوية خاصة، فمدرسة أهل البيت عليهم السلام سبقت المدارس التربوية المعاصرة بالاَخذ بمبدأ (التدرج) وهو مبدأ التزمت به المناهج التربوية المعاصرة، بعد أنْ أثبتت التجارب العملية فائدته وجدواه، ويمكن لنا أن نأتي بشواهد على ذلك، ففيما يتعلق بالتربية الدينية، يؤدب الطفل على الذكر لله إذا بلغ ثلاث سنين، يقول الإمام الباقر عليه السلام: «إذا بلغ الغلام ثلاث سنين فقل له سبع مرّات: قل: لا إله إلاّ الله، ثم يُترك..»(2). ثم نتدرج مع الطفل فنبدأ بتأديبه على الصلاة، يقول الاِمام علي عليه السلام : «أدّب صغار أهل بيتك بلسانك على الصلاة والطهور، فإذا بلغوا عشر سنين فاضرب ولا تجاوز ثلاثاً»(3)، بعد ذلك: «يؤدّب الصّبي على الصّوم ما بين خمسة عشر سنة إلى ستّ عشرة سنة» كما يقول الاِمام الصادق عليه السلام(4).
وفي أثناء هذه الفترات يمكن تأديب الطفل على أُمور أُخرى لا تستلزم بذل الجهد، كأن نؤدبه على العطاء والاحسان إلى الآخرين، ونزرع في وعيه حبّ المساكين، وفي هذا الصَّدد يقول الاِمام الصادق عليه السلام: «مُر الصّبي فليتصدق بيده بالكسرة والقبضة والشيء، وإن قلّ، فإنّ كلَّ شيء يراد به الله ـوإن قلّ بعد أن تصدق النية فيه- عظيم..»(5).
وهنا يبدو من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن الأئمة عليهم السلام يتبنون بصورة عامة تقسيماً (ثلاثياً) لحياة الطفل، ففي كل مرحلة من المراحل الثلاث، يحتاج الطفل لرعاية خاصة من قبل الأبوين، وأدب وتعليم خاص، استقرأنا ذلك من الأحاديث الواردة في هذا المجال، وكشاهد على تبنيهم التقسيم الثلاثي، نورد هذه الرّوايات الثلاث:
عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «الولد سيّد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيت خلائقه لاحدى وعشرين سنة، وإلاّ ضُرب على جنبيه، فقد أعذرت إلى الله»(6).
وقد نسج الإمام الصادق عليه السلام على هذا المنوال فقال: «دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدب سبع سنين، والزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح، وإلاّ فإنَّه لا خير فيه»(7)، فمن خلال هاتين الروايتين نجد تقسيماً ثلاثياً لمرحلة الطفولة، كل مرحلة تستغرق سبع سنين، فالمرحلة الاَُولى هي مرحلة لعب، والثانية مرحلة أدب، والثالثة مرحلة تبني مباشر للطفل وملازمته كظله.
وفي الرّواية الثالثة نجد أنها تلتزم هذا التقسيم لكن مع اختلاف طفيف إذ تجعل مدّة المرحلة الاَُولى والثانية ست سنين وتُبقي المرحلة الثالثة على عددها أي سبع سنين: عن الحسن الطّبرسي في مكارم الأخلاق نقلاً عن كتاب المحاسن عن الإمام الصادق عليه السلام قال: «احمل صبيّك حتى يأتي عليه ستّ سنين، ثمّ أدّبه في الكتاب ستّ سنين، ثم ضمّه إليك سبع سنين فأدّبه بأدبك، فإن قبل وصَلُح وإلاّ فخلّ عنه»(8).
جـ ـ ينبغي عدم الاِسراف في تدليل الطفل، واتباع أُسلوب تربوي يعتمد على مبدأ الثواب والعقاب، كما يحذّر أئمة أهل البيت عليهم السلام من الأدب عند الغضب، يقول أمير المؤمنين عليه السلام «لا أدب مع غضب»(9)، وذلك لأن الغضب حالة تحرك العاطفة ولا ترشد العقل، ولا تعطي العملية التربوية ثمارها المطلوبة بل تستحق هذه العملية ما تستحقه الأمراض المزمنة من الصبر والأناة وبراعة المعالجة. فالطفل يحتاج إلى استشارة عقلية متواصلة؛ لكي يدرك عواقب أفعاله، وهي لا تتحقق -عادة- عند الغضب الذي يحصل من فوران العاطفة وتأججها، وبدون الاستشارة العقلية المتواصلة، لا تحقق العملية أهدافها المرجوة، فتكون كالطرق على الحديد وهو بارد.
وعند تمعننا المتأني في أحاديث أهل البيت عليهم السلام نجد أنّ هناك رخصة في اتباع أسلوب (الضرب) مع الصبي في المرحلة الثانية دون المرحلة الطفولة الأولى، منها قول الاِمام علي عليه السلام: «أدّب صغار أهل بيتك بلسانك على الصّلاة والطّهور، فإذا بلغوا عشر سنين فاضرب ولا تجاوز ثلاثاً»(10).
ولكن بالمقابل نجد أحاديث أُخرى تحذر من اتباع أسلوب الضرب، منها قول بعضهم: شكوت إلى أبي الحسن موسى عليه السلام ابناً لي، فقال: «لا تضربه ولا تطل»(11).
ويمكن الجمع بين الأمرين، بأنّ أسلوب الضرب -من حيث المبدأ- غير مجدٍ على المدى البعيد، ولكن لابدَّ منه في حالات استثنائية مهمة، وخاصة في ما يتعلق بأداء الفرائض الواجبة من صلاة وصيام، والضرورة تقدر بقدرها لذلك نجد الإمام علي عليه السلام يقول: «... فاضرب ولا تجاوز ثلاثاً»، وعليه يجب الابتعاد -ما أمكن- عن ضرب الأطفال؛ لأنه ثبت تربوياً أنه يُؤثر سلباً على شخصيتهم ولا يجدي نفعاً، ولا مانع من اتباعه في حالات خاصة بقدر، كالملح للطعام.
ولا بدَّ من التنويه على أن مدرسة أهل البيت عليهم السلام تراعي طاقة الطفل، فلا تكلفه فوق طاقته، بما يشق عليه.
عن الحلبي، عن أبي عبدالله، عن أبيه عليهما السلام، قال: «إنا نأمر صبياننا بالصلاة، إذا كانوا بني خمس سنين، فمروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين. ونحن نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم إن كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل، فاذا غلبهم العطش والغرث افطروا حتى يتعودوا الصوم ويطيقوه، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام اليوم، فاذا غلبهم العطش افطروا»(12).
وضمن هذا التوجه يستحسن، تكليف الطفل بما يَقْدِرُ عليه، كالقيام ببعض أعمال البيت، مثل ترتيب الفراش، وتنظيف الاَثاث، والقاء الفضلات في أماكنها، وتهيئة وتنسيق مائدة الطعام وأدواته، والعناية بحديقة المنزل، وما إلى ذلك من أعمال بسيطة تنمي روح العمل والمبادرة لدى الطفل، وتعوده على الاعتماد على نفسه.
وهناك حق آخر للطفل مكمل لحقه في اكتساب الأدب ألا وهو حقّ التعليم، فالعلم كما الاَدب وراثة كريمة، يحث أهل البيت عليهم السلام الآباء على توريثه لاَبنائهم. فالعلم كنز ثمين لا ينفذ. أما المال فمن الممكن ان يتلف أو يسرق، وبالتالي فهو عرضة للضياع. ومن هذا المنطلق، يقول الاِمام علي عليه السلام: «لا كنز أنفع من العلم»(13). ثم إنَّ العلم شرف يرفع بصاحبه إلى مقامات سامية ولو كان وضيع النسب، يقول الاِمام علي عليه السلام: «العلم أشرف الأحساب» (14).
فمن حق الولد على الوالد أنْ يسعى لاكتسابه هذا الشرف العظيم منذ نعومة أظفاره، ومن حقه أيضاً على الأب أن يُورِثه هذا الكنز المعنوي الذي لا يُقَدَّر بثمن، والذي هو أصل كل خير. قال الشهيد الثاني رضي الله عنه في كتاب منية المريد: (اعلم أن الله سبحانه وتعالى جعل العلم هو السبب الكلي لخلق هذا العالم العلوي والسفلي طرّاً، وكفى بذلك جلالة وفخراً. قال الله في محكم الكتاب، تذكرة وتبصرة لأولي الاَلباب: (الله الذي خلق سبع سموات ومن الاَرض مثلهنَّ يتنزّل الاَمر بينهنَّ لتعلموا أن الله على كلِّ شيءٍ قدير وأن الله قد أحاط بكلِّ شيءٍ علماً) (الطلاق 65: 12).
وكفى بهذه الآية دليلاً على شرف العلم، لا سيّما علم التّوحيد الّذي هو أساس كلّ علم ومدار كلّ معرفة)(15).
ولما كان العلم بتلك الأهمية، يكتسب حق التعليم مكانته الجسيمة، لذلك نجد أن الحكماء يحثون أولادهم على كسب العلم، وفاءً بالحق الملقى على عواتقهم. يقول الاِمام الصادق عليه السلام: «كان فيما وعظ لقمان ابنه، أنه قال له: يابنيّ اجعل في أيّامك ولياليك نصيباً لك في طلب العلم، فإنك لن تجد تضييعاً مثل تركه»(16). كما نجد الاَئمة عليهم السلام، يعطون هذا الحق ما يستحقه من عناية، لا سيّما وأن الاِسلام يعتبر العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة، وهذه الفريضة لا تنصبّ على الاَب والام فحسب بل تنسحب إلى أولادهما، لذا نجد الاِمام علياً عليه السلام يؤكد على الآباء بقوله: «مروا أولادكم بطلب العلم»(17).
ولما كان العلم في الصِّغر كالنقش على الحجر، يتوجب استغلال فترة الطفولة لكسب العلم أفضل استغلال، وفق برامج علمية تتبع مبدأ الاَولوية، أو تقديم الاَهم على المهم، خصوصاً ونحن في زمن يشهد ثورة علمية ومعرفية هائلة، وفي عصر هو عصر السرعة والتخصص. ولقد أعطى أهل البيت عليهم السلام لتعلم القرآن أولوية خاصة، وكذلك تعلم مسائل الحلال والحرام، ذلك العلم الذي يمكِّنه من أن يكون مسلماً يؤدي فرائض الله المطلوبة منه، وللتدليل على ذلك، نجد أن من وصايا أمير المؤمنين لابنه الحسن عليهما السلام: «.. أبتدأتك بتعليم كتاب الله عزّ وجلّ وتأويله، وشرائع الاِسلام وأحكامه، وحلاله وحرامه، لا أجاوز ذلك بك إلى غيره»(18).
وأيضاً نجد في هذا الصَّدد ما قاله أحدهم للاِمام الصّادق عليه السلام: "إنّ لي ابناً قد أُحبّ أن يسألك عن حلال وحرام، لا يسألك عما لا يعنيه"، فقال عليه السلام: «وهل يسأل النّاس عن شيءٍ أفضل من الحلال والحرام»(19)؟! وزيادة على ضرورة تعليم الاطفال العلوم الدينية من قرآن وفقه، تركز السُنّة النبوية المعطرة على أهمية تعلم الطفل لعلوم حياتية معينة كالكتابة والسباحة والرَّمي، وسوف أورد بعض الروايات الواردة في هذا الخصوص.
منها: قول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «من حق الولد على والده ثلاثة: يحسن اسمه، ويعلّمه الكتابة، ويزوّجه إذا بلغ»(20). إذن فتعليم الكتابة حق حياتي تنقشع من خلاله غيوم الجهل والاَميّة عن الطفل.
 وفي حديث نبوي آخر، نلاحظ أنّ حق تعليم الكتابة يتصدر بقية الحقوق الحياتية للطفل، قال صلى الله عليه وآله وسلم: «حقّ الولد على والده أن يعلّمه الكتابة، والسّباحة، والرّماية، وأن لا يرزقه إلاّ طيّباً»(21).
وهناك نقطة جوهرية كانت مثار اهتمام الاَئمة عليهم السلام وهي ضرورة تحصين عقول الناشئة من الاتجاهات والتيارات الفكرية المنحرفة من خلال تعليمهم علوم أهل البيت عليهم السلام واطلاعهم على أحاديثهم، وما تتضمنه من بحر زاخر بالعلوم والمعارف. وحول هذه النقطة بالذات، يقول الاِمام علي عليه السلام: «علّموا صبيانكم من علمنا ما ينفعهم الله به لا تغلب عليهم المرجئة برأيها»(22)، وقال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «بادروا أحداثكم بالحديث قبل أن يسبقكم اليهم المرجئة»(23).
 ومن المعلوم أن فكر المرجئة حينذاك يملي للظالمين ويمدّ لهم حبال الأمل في النجاة؛ لأنه يرفض الثورة على الحاكم الظالم، ويُرجئ حسابه إلى يوم القيامة، ويعتبر الفاسق الذي يرتكب الكبائر مؤمناً! لأجل ذلك النشء اهتم الأئمة عليهم السلام بتحصين فكر النشىء الجديد ضد التيارات الفكرية المنحرفة والوافدة، من خلال الدعوة إلى تعليم الأطفال الأفكار الإسلامية الأصيلة التي تُستقى من منابع صافية.









____________
(1) بحار الأنوار 10: 78.
(1) بحار الأنوار 104: 95.
(2) تنبيه الخواطر: 390.
(3) بحار الأنوار 102: 162.
(1) الوسائل 6: 261| 1 باب 4 من أبواب الصدقة.
(2) الوسائل 15: 195| 7 باب 83 من أبواب أحكام الأولاد.
(3) بحار الأنوار 104: 95.
(1) الوسائل 15: 195| 6 باب 83 من أبواب أحكام الأولاد.
(2) المعجم المفهرس لألفاظ غرر الحكم 2: 74| 10529.
(3) تنبيه الخواطر: 390.
(1) بحار الأنوار 79: 102.
(2) فروع الكافي 3: 409| 1 باب صلاة الصبيان ومتى يؤخذون بها، وأُنظر 4: 125| 1 باب صوم الصبيان ومتى يؤخذون بها من فروع الكافي أيضاً. والغرث: الجوع.
(1) بحار الأنوار 1: 165.
(2) بحار الأنوار 1: 183.
(1) مقدمة مُنية المريد.
(2) بحار الانوار 16: 169.
(3) كنز العمال 16: 584| 45953.
(1) نهج البلاغة -ضبط صبحي الصالح- كتاب 31.
(2) بحار الأنوار 1: 294.
(3) بحار الأنوار 74: 80.
(4) كنز العمال 16: 443| 45340.
(1) الوسائل 21: 578| 5 باب 84 من أبواب أحكام الاَولاد.
(2) فروع الكافي 6: 50| 5 باب تأديب الولد، وعنه في تهذيب الاحكام 8: 111| 381، والوسائل 21: 476ـ 477| 1 باب 84 من أبواب أحكام الاَولاد.






المصدر: كتاب الحقوق الاجتماعيّة في الإسلام

التعليقات (0)

اترك تعليق