مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

انتهاك حقوق المرأة والطفل في واقعة عاشوراء

انتهاك حقوق المرأة والطفل في واقعة عاشوراء

مقدّمة
لعلَّ المستشرف تاريخ البشرية وما جرى عليها منذ نشأتها إلى يوم الناس هذا لا يجد عناءً كبيراً في الوقوف على الكثير الكثير من الصفحات السود المشوبة برائحة الدم، في هذا التاريخ الضارب في القِدم والمليء بالمواقف القاسية التي تنمّ عن قساوة قلوب الكثير من بني الإنسان، الذي إنّما أوجده خالقه جلّ وعلا على الأرض لغرض إعمارها، وإنشاء حكومة الله تعالى عليها، وبسط الأمن والعدل في ربوعها.
لكن خلف ذاك الوجه القاسي للبشرية الذي عجَّ بالصراعات والمنازعات، يختبأ الوجه الآخر الذي يمثِّل العاطفة والرّقة والبراءة والصفاء، والذي يشكِّل كلٌّ من المرأة والطفل دعامتيه الأساسيّتين.
إذ الملاحظ في طبيعة المرأة «إرهاف العاطفة وسرعة الانفعال، وشدّة الحنان، وقد خُلِقَت هذه الصفات في المرأة لتستطيع بها أن تؤدّي وظيفتها الأُولى وهي: الأُمومة والحضانة»[1]. فالمرأة مثار الرقّة والعاطفة، وهي جزء علّةٍ في حفظ النوع الإنساني؛ لذا كان التفاعل الإيجابي مع المرأة ورعايتها موافقاً تماماً للفطرة الإنسانية، وما عداه خروج عنها، ودخول في حدود البهيمية.
أمّا الطفولة؛ فهي الركن المشرق الآخر لوجه البشرية المخفي؛ إذ بنعومتها وبراءتها تمثّل بساطة الإنسان الفطرية التي فُطِر عليها؛ لذلك عُدَّ ظلم الطفل والقسوة عليه من أبشع صور انتهاك حقوق الإنسان، إذ الطفل كائن غاية في الضعف، فالإساءة إليه إساءة لكل القيم الإنسانية؛ ولذا كان وأد البنات أمراً مستهجناً قبيحاً لجأت إليه بعض القبائل في الجاهلية تخلّصاً ـ بظنّهم الخاطئ ـ من احتمال السبي والعار.
والغرض من هذه المقدّمة ـ والبحث ككل ـ تسجيل حالات انتهاك حقوق المرأة والطفل في واقعة عاشوراء، وذلك في خصوص عيال الحسين عليه السلام  وعيال أهل بيته وأصحابه، ومحاولة إلقاء الضوء على ما حدث في تلك الملحمة التي غيَّرت وجه التاريخ، وإثبات أنّ كل ما صنعه المعسكر المعادي للإمام الحسين عليه السلام  كان أمراً خارجاً عن حدود الفطرة الإنسانية، ومصنَّفاً ضمن أفعال السباع الضواري ووحوش القفار، بل لعلّه أبشع من ذلك بمراتب كثيرة كما لا يخفى.
وعليه نعقد بحثنا هذا في محورين:
المحور الأوّل: مكانة المرأة والطفل وحقوقهما
قبل عرض الانتهاكات البشعة لحقوق المرأة والطفل التي حصلت في يوم عاشوراء لا بدّ من الوقوف ـ أوّلاً ـ على مكانتهما لدى ذلك المجتمع التي حصلت فيه تلك الانتهاكات، بغضّ النظر عن الشريعة الإسلامية وأحكامها وقوانينها، ثم النظر ـ ثانياً ـ إلى تلك الانتهاكات بالنظر إلى قوانين الشرع الإسلامي؛ باعتبار أن المنتهِك يدّعي الانتماء إلى الإسلام. ثمّ التطرّق ـ ثالثاً ـ إلى تلك الانتهاكات من وجهة نظر القوانين الوضعية ومنظمات حقوق الإنسان؛ لنستخلص من جميع تلك الصور بشاعة ما جرى على النساء والأطفال في ذلك اليوم المهول.
المبحث الأول: مكانة المرأة والطفل عند عرب الجاهلية
1ـ مكانة المرأة عند عرب الجاهلية
لقد اقتسم هذا الموضوع فريقان لا ثالث لهما، ففريق نظر للمرأة على أنّها موضوع غزل الشعراء ومفتتح المعلَّقات، وإنّ العربي شديد الاهتمام بها؛ إذ يقف على أطلالها ويفيض شاعريته بذكراها، وهذه هي الصورة الشاعرية الحالمة. يقول في ذلك أحد الباحثين المعاصرين: «يحاول الكثير من الكتّاب أن يرسموا صورة سوداوية لحالة المرأة العربية قبل الإسلام، فهم يشيرون إلى صور لمعاملة المرأة عند العرب قبل الإسلام، ومنها: أنّ العرب في تلك المدّة لم يكونوا يورِّثون المرأة؛ لأنّهم لم يروا للمرأة حقاً في الميراث، بل جعلوها تُورَث مع ما يُورَث؛ أي: إنّ الولد يمكن أن يرث عن أبيه نساءه، بل ويمكنه أن يتزوجّهن، ويقولون: إنّ العربي لا ينظر إلى زوجته إلّا على أنّها خادمة في بيت زوجها تُنجب له الأولاد... إنّنا لا ننكر [والكلام للباحث] صحّة بعض ما ورد منها آنفاً، لكن هؤلاء الكتّاب يأخذون ما جرى من حالات فردية في وسط شبه جزيرة العرب ويستشهدون بها ويعممونها على كل الجنس العربي، وهذا غير صحيح إطلاقاً، فضلاً عن هؤلاء الكتّاب أنفسهم يشيرون إلى العربي بالكثير من الصفات الحميدة التي كان يتمتّع بها قبل الإسلام، ولعلّ في مقدمتها غيرة الرجل العربي على نسائه، وتوفير الحماية اللازمة للمرأة، بل إنّه كان يثأر إذا ما امتهنت كرامة امرأته. أمّا الأمثلة التي ساقها هؤلاء الكتّاب دليلاً على انحطاط كرامة المرأة فهي حالات فردية تركَّزت وسط شبه جزيرة العرب عند أُسرٍ فقيرة. في بعض القبائل... كانت المرأة العربية قبل الإسلام تحظى بمكانة اجتماعية مرموقة، إذ كان الشعراء يفتتحون قصائدهم بوصف محاسن المرأة... وكان للمرأة العربية في تلك الحقبة حرّية اختيار الزوج...»[2].
أما الفريق الآخر المعارض لتلك النظرة، فلديهم من النصوص القرآنية والتاريخية ما يكفيهم لإثبات مدّعاهم بكل وضوح، فقد وردت نصوص قرآنية تُشير إلى عادة وأد البنات، وحالات ردّ الفعل السلبي عند أغلب الناس آنذاك حينما تُولَد له أُنثى، كما وردتْ نصوص مأثورة عن كيفية التعامل المتدنّي مع المرأة وأنّها كالمتاع تتنقّل من المورِّث إلى الوارث.
ويمكن القول: بأنّ المرأة وإن عومِلت على مدى التاريخ عند أغلب الأُمم معاملة العبد أو المتاع؛ لكونها بطبيعتها وتكوينها تمثّل الكائن الأضعف المقاد، إلّا أنّ في المقابل كانت أُمم أُخرى أخفّ وطأةً في ذلك، ففي الوقت الذي نظرت فيه إلى المرأة على كونها الكائن الأدنى والأضعف، وسلبتها الكثير من حقوقها، لكنّها بالوقت ذاته عُدَّت ـ عند هذا البعض ـ من أهمّ الحرمات، ومن أعظم المصونات. فخُذ عرب الجاهلية مثلاً لذلك، فمع أنّ بعض القبائل منهم كانت تئدّ البنات، وبعضهم إذا بُشّر بالأُنثى ﴿ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ﴾[3]، لكن مع كل هذا فإنّ المرأة عندهم كائن له خصوصيّاته وأحكامه؛ لأنّها تمثِّل العرض والشرف، فهضم حقوقها لا يعني أبداً جعلها عرضة للابتذال والمهانة إبان ذلك العهد المظلم؛ لذا صانوها بالأستار، حتى عُدَّ الخمار، والقناع، والبرقع، واللثام[4] من الألبسة المشهورة عند عرب الجاهلية، بل وصارت هذه موضوعاً لشعر الشعراء آنذاك، فقال قائل منهم يصف زوجته:
ولقد أعجبتني لا سقوطاً قناعها إذا ما مشت ولا بذات تلفت[5]
وافتخر النابغة الجعدي بأنّه وقومه إذا ما غلبوا أعداءهم في وقعةٍ ما، صانوا وحافظوا على حجاب النساء، فقال:
ملكنا فلم نكشف قناعاً لحرّةٍ       ولم نستلب إلّا الحديد المسمّرا
ولو أنّنا شئنا سوى ذاك أصبحت                كرائمهم فينا تُباع وتُشتَرى[6]
فالمرأة ـ عند العرب ـ لا تؤاخذ بقولٍ ولا تُضرب ولا تُثار ولا تُهيَّج ولا يُرعَد عليها قالت ما قالت. وعُدَّ هذا من كرائم صفات العربي قبل الإسلام، بل عُدَّ ضربها عاراً يبقى في الأصلاب، وتتناقله الأجيال، كما عبَّر عن ذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام  حيث يقول في وصيّته لعسكره قبل لقاء العدو بمعركة صفين: «ولا تُهيِّجوا النساء بأذًى وإن شتمن أعراضكم وسببنَ أُمراءكم... وإن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر[7] أو الهراوة[8] فيُعيَّر بها وعقبه من بعده»[9].
فقول الإمام عليه السلام  يكشف عن أنّ العرب في الجاهلية كانت ترى من العار ضرب المرأة؛ إذ أنه ليس من الشجاعة في شيء، إن لم يكن علامة على عكسها؛ لذا فقد ذهب قول حاتم الطائي مثلاً حين لطمته امرأة فقال: لو غير ذات سوار لطمتني[10]، إذ أبت له شهامته وغيرته أن يلطم امرأة لطمته حينما جاءته ببعير ليفصده لها فذبحه خطأً فلطمت وجهه، فأعرض عنها قائلاً تلك الكلمات التي تنمّ عن نُبله ورفعته.
فإذا كان هذا حال ضرب المرأة ولطمها، فما القول في إشهار السلاح بوجهها أو ترويعها، وقتلها؟! بل إنّ بعض العرب خاف من لحوق العار به في نساءٍ أسّرهن في أحد الحروب فأطلقهنّ حذراً من ذلك، كما نقل لنا اليعقوبي في تاريخه حين وقعت حرب بين قبيلة طي وبني أسد قبل الإسلام، فأسّرت بنو أسد زيد الخيل ـ وكان كبير طي ـ مع نسائه وأطفاله، فخاطب زيد الخيل كبار بني أسد وهم قيس بن نوفل وقيس بن أهبان وقيس بن جابر قائلاً:
ألا أبلغ الأقياس قيس بن نوفل وقيس بن أهبان وقيس بن جابر
بنو أسدٍ رُدّوا علينا نساءنا وأبناءنا واستمتعوا بالأباعر
وبالمال إنّ المال أهون هالكٍ إذا طرقت إحدى الليالي الغوابر
ولا تجعلوها سنّة يقتدي بها           بنو أسدٍ وأعفوا بأيدٍ قوادرِ [11].
فسارعت بنو أسدٍ إلى إطلاقه وإطلاق نسائه وأطفاله معه خوف العار والشنار.
2ـ مكانة الطفل عند عرب الجاهلية
لا بدّ قبل عرض هذا الموضوع من التعرّف إلى ما تعنيه كلمة الطفل في لغة العرب؛ لأنّها جزءٌ من تكوين المفهوم لديهم، فقد جاء على لسان أحد أهل اللغة بأنّ «الصبي يُدعى طفلاً حين يسقط من بطن أُمّه إلى أن يحتلم»[12]. وقال صاحب التحقيق في كلمات القرآن الكريم: «إنّ الأصل الواحد في هذه المادة: هو نعومة في حداثة، سواء كانت في إنسان أو حيوان أو نبات أو شيء يُفرض فيه تولّد وحداثة، ومن أتمّ مصاديقه الوليد الصغير من الإنسان ما دام بدنه ليّناً ناعماً»[13].
فالطفولة مثار الشفقة والرحمة، وقد بلغ من اعتزاز العرب بأطفالهم أنّهم «إذا ما تصالحوا بعد حربٍ وتحالفوا بعد حرب تبادلوا تربية أطفالهم؛ ليكون رمزاً للود ورهائنَ ضدَّ كل مَن تُسوِّل له نفسه التنكيل بالصلح والحلف، وهو دليل يشير بوضوح إلى عمق ما يكنّونه من الاعتزاز بهم؛ بحيث إنّهم لم يتحالفوا على مالٍ ولا غيره من متاع الحياة؛ لأنّهم قد يغدرون به، إلّا الطفولة فهي الوثاق الأمتن الذي يربطهم إلى حلفهم ويُبعدهم عن الغدر»[14].
ونحن إنّما نتحدَّث عن ذلك باعتبار أنّ المجتمع الذي حدث فيه انتهاك للطفل في واقعة عاشوراء كان مجتمعاً عربياً، تمسّك بأُصول وقواعد عريقة قبل الإسلام، اعتبرها أُسساً وضوابط من العار الخروج عليها، كالكرم والشجاعة والغيرة، ومنها عدم إيذاء الطفل أو الاقتصاص منه أو قتله أو ترويعه؛ لأنّ ذلك لا يُعدّ شجاعةً ولا فخراً، بل هو وصمة عارٍ تلحق فاعليه إلى الأبد، فعرب الجاهلية قبل الإسلام كانوا ينظرون إلى الطفل على أنّه «رجل الغد وشيخ المستقبل، وهو سلاحهم في الاستمرار والبقاء»[15]، و«لم تختلف نظرة الجاهليين إلى الطفل عن غيرهم من الأُمم، بل كانت امتداداً لها، فأحاطوا أطفالهم بحالةٍ من القداسة... وأوجدوا الكثير من الطقوس لحمايتهم»[16].
فهم مع بداوة الكثير منهم، وقساوة بيئتهم، وجشوبة عيشهم، إلّا أنّ لهم مع الطفل والطفولة نوع تراحم وتواد، فهذا شاعرهم يصف بنيّاته فيقول:
لولا بنياتٍ كزغب القطا حططن من بعضٍ إلى بعضِ
لكان لي مضطرب واسع في الأرض ذات الطول والعرض
وإنّما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
لو هبّت الريح على بعضهم لامتنعت عيني من الغمضِ[17]

 
فالميل نحو الطفولة والطفل أمرٌ فطريّ بعدّة لحاظات، منها: لحاظ الحاجة والضعف، فالنفس الإنسانية بطبعها ـ لو خُلّيت ونفسها دون تأثير العوامل الطارئة المخالفة للفطرة ـ ميّالة إلى الحنو والتفاعل مع الضعيف حتى يقوى. ومنها: أنّ الإنسان السوي يتذكَّر في الطفل طفولته وبراءته، وهذا دافع إنسانيّ يدفع المرء للتفاعل الإيجابي مع الطفل، ومنها رؤية الطفل على أنّه إنسان المستقبل ـ رجل كان أم امرأة ـ فيدفع بالإنسان نحو رعاية الطفل والطفولة؛ فحفظ النوع من الدوافع الفطرية الغريزية التي تدفع بالإنسان للقيام بالكثير من الأعمال.
وعليه؛ يُعدُّ انتهاك حقوق الطفل أمراً مخالفاً للفطرة البشرية، ولا يتماشى مع الأعراف والقيم الإنسانية.
المبحث الثاني: نظرة إجمالية عن حقوق المرأة والطفل أثناء الحرب في نظر الإسلام
 إنّ واقعة عاشوراء لمّا كانت قد حدثت في سنة إحدى وستين للهجرة المباركة؛ أي: في الصدر الأوّل للإسلام، وكان الطرف المعادي للإمام الحسين عليه السلام  يدّعي انضواءه تحت خيمة الإسلام، بل حاول تأطير أفعاله بإطار ديني لخداع الناس آنذاك بأنّ حربه مشروعة، فلا بدّ ـ لمعرفة عظم بشاعة الانتهاكات التي قام بها ذلك المعسكر المناوئ للإمام الحسين عليه السلام  ـ من مقايسة تلك الأفعال الشنيعة بما ضمنه الإسلام للمرأة والطفل من حقوق في زمن الحرب، ومعرفة مدى عمق الانتهاكات والتجاوزات التي وقعت على النساء والأطفال في ذلك الحدث العظيم. فما هي حقوق المرأة التي يجب أن تُكفَل بأيّ حال من الأحوال في نظر الإسلام، والتي لا يمكن تخطّيها لأيّ مسلم مهما كانت المبرّرات؟ وما هي حقوق الطفل التي ينبغي أن تكون خطّاً أحمرَ لا يجوز تجاوزه؟
1ـ حقوق المرأة أثناء الحرب في نظر الإسلام
لمّا كان كيان المرأة مبنيّاً على الضعف والرقّة والعاطفة ـ وذلك ليس نقصاً فيها أبداً، بل ذلك كمال لها ليمكّنها من أداء وظيفتها العظيمة في تربية وحضانة الأجيال على أتمّ وجه، حتى إنّ نبيّنا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم  كان في أُخريات عمره الشريف يشير إلى ضعف المرأة قائلا: «أوصيكم بالضعيفين: النساء، وما ملكت أيمانكم»[18]ـ فلذلك كفل المشرِّع الإسلامي للمرأة أبان الحروب حقوقاً يُعدّ تجاوزها تجاوزاً على التشريع، ومعصيةً للمشرِّع جلّ وعلا ويمكن إجمالها بما يلي:
أ حقّها في الحياة: فلا يجوز قتل المرأة، أو المساس بحقّها في الحياة؛ فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنّه نهى عن قتل نساء الكفّار في دار الحرب[19]، وروي عن الإمام الصادق عليه السلام  في حديث حفص بن غياث قال: «وسَأَلْتُه عَنِ النِّسَاءِ كَيْفَ سَقَطَتِ الْجِزْيَةُ عَنْهُنَّ ورُفِعَتْ عَنْهُنَّ؟ فَقَالَ: لأَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم  نَهَى عَنْ قِتَالِ النِّسَاءِ والْوِلْدَانِ فِي دَارِ الْحَرْبِ إِلَّا أَنْ يُقَاتِلُوا فَإِنْ قَاتَلَتْ أَيْضاً فَأَمْسِكْ عَنْهَا مَا أَمْكَنَكَ ولَمْ تَخَفْ خَلَلاً..»[20]. فهكذا أمر المشرّع الإسلامي بالتعامل مع نساء الكفّار؛ فقد حثّ على التحاشي والإمساك عن قتل الكافرة ما أمكن. وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم  يبعث البعث إلى الكفّار ويوصيهم بأن «لا تقتلوا شيخاً فانياً ولا صبياً ولا امرأة...»[21].
قال العلّامة الحلّي رحمه الله : «لا يجوز قتل صبيان الكفّار ونسائهم إذا لم يقاتلوا؛ لأنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم  نهى عن قتل النساء والصبيان...»[22].
ويجمع كل ما تقدّم قول الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ...﴾[23]. وقال العلّامة الطباطبائي في تفسير ذلك: «سياق الآيات الشريفة يدلّ على أنّها نازلة دفعة واحدة، وقد سيق الكلام لبيان غرض واحد وهو تشريع القتال لأوّل مرّة مع مشركي مكّة... على أنّه تعالى قيّد القتال بالقتال في قوله: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾،وليس معناه الاشتراط؛ أي: قاتلوهم إن قاتلوكم وهو ظاهر، ولا قيداً احترازياً، والمعنى: قاتلوا الرجال دون النساء والولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم؛ إذ لا معنى لقتال مَن لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته. ويقال: لا تقاتله، بل إنّما الصحيح النهي عن قتله دون قتاله»[24]. وقال السيّد الخوئي في ذلك: «قد استُثني من الكفّار الشيخ الفاني والمرأة والصبيان؛ فإنّه لا يجوز قتلهم»[25].
كلّ ما تقدم كان في شأن المرأة الكافرة، أمّا المرأة المسلمة فقد أجمع علماؤنا [26] على عدم جواز سبي حتى ذراري البغاة[27] أو تملّك نسائهم.
ب حقّها في عدم مسّها بأيّ أذى: وهذا الأمر أيضاً ممّا اقتضته الفطرة الإنسانية السليمة؛ لأنّ المرأة ـ كما تقدّم ـ مثار الضعف والاحتياج، والفطرة السليمة تتفاعل مع كل ضعيف لرفع ضعفه، ويعضد هذا الحكم الذي تقتضيه الفطرة الإنسانية الصافية تأكيدات جمّة من الشارع المقدّس ومن الناطقين باسمه عليهم السلام  الكاشفين عن أحكامه، فهذا أمير المؤمنين علي عليه السلام  يوصي جنده في حرب صفين قائلاً: «...وإذا وصلتم
إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً، ولا تدخلوا داراً، ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم إلا ما وجدتم في عسكرهم، ولا تُهيِّجوا[28] إمراةً بأذى[29] وإن شتمن أعراضكم وسببن أُمراءكم، فإنّهنّ ناقصات القوى والأنفس والعقول، وقد كنّا نُؤمَر بالكفّ عنهنّ وهنّ مشركات...»[30].
والنهي عن تهييج النساء بأذى يمكن أن يستبطن عدّة أُمور:
أوّلاً: شتم المرأة أو سبّها أو أهانتها؛ إذ كل هذه الأُمور تُعدّ تهييجاً بالأذى لها، وهو مخالف لوصية أمير المؤمنين عليه السلام  المزبورة، قال أحد شرّاح نهج البلاغة: «نهى عليه السلام  عسكره أن يُثيروا غضب النساء البغاة وشرورها ويحركوهنّ ويؤذوهنّ مطلقاً، حتى إنّهنّ إن شتمن أعراضهم وسببنَ أمراءهم وجب عليهم الإمساك عن ردّ السّب إليهنّ والكفّ عنهنّ، وعدم الاعتناء بشتمهنّ وسبّهنّ»[31]. فعلى هذا؛ فإنّ السبّ والشتم يُعدّان مصداقين واضحين من مصاديق الأذى.
ثانياً: تخويف المرأة وترويعها؛ فإنّ التخويف والترويع يُعدّان من المصاديق الجليّة للأذى، كيف ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  قد أهدر دم هبّار بن الأسود وذلك قبل فتح مكّة؛ لأنّه أخاف زينب ربيبة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  حين خروجها من مكة مهاجرة إلى المدينة، فأشار لها بالرمح وروّعها به وهي في هودجها، وكانت حاملاً فألقت ما في بطنها وأسقطت جنينها؟![32].
فأيّ أذًى أشدّ من الترويع والتخويف؟! فقد يؤدّي بالحامل إلى وضع حملها، فهذا أمير المؤمنين علي عليه السلام  قد حكم على عمر بن الخطّاب بثبوت ديّة السقط عليه حينما روّع حاملاً أثناء حكمه في المدينة فأسقطت ومات سقطها[33].
وقد ورد من طرق الفريقين روايات تنهى عن تخويف المؤمن والمسلم وترويعهما بشكل عام، روى الشيخ الصدوق بسنده إلى الإمام الرضا عليه السلام  عن أمير المؤمنين عليه السلام  قوله: «لا يحلّ لمسلم أن يروِّع مسلماً»[34]. وفي رسالة الإمام الصادق عليه السلام  لعبد الله النجاشي قال: «يا عبد الله، إيّاك أن تُخيف مؤمناً، فإنّ أبي محمد بن علي حدّثني عن أبيه عن جدّه عن علي بن أبي طالب عليه السلام  أنّه يقول: مَن نظر إلى مؤمنٍ نظرة ليخيفه بها، أخافه الله يوم لا ظلّ إلّا ظلّه...»[35]. وفي مسند أحمد مرويّاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  أنّه قال: «إنّ الملائكة تلعن أحدكم إذا أشار لأخيه بحديدة، وإن كان أخاه لأبيه وأُمّه»[36]. فكيف إذا كانت المروَّعات بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ؟!
ثالثاً: إمرار النساء على قتلاهنَّ؛ فإنّه من المصاديق الصارخة للأذى، فقد ورد في الأثر نهي نبي الرحمة صلى الله عليه وآله وسلم  عن ذلك مع نساء الكفّار المحاربين في أثناء الحرب، فما بالك بالنساء المسلمات المؤمنات؟! فقد روى ابن إسحاق في سيرته قال: «لما فتح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  ـ حصن ابن أبي الحقيق ـ[37] أُتي بصفية ابنة حَيِي، ومعها ابنة عمّ لها، جاء بهما بلال، فمرّ بهما على قتلى من اليهود، فلمّا رأتهم التي مع صفيّة صكّت وجهها وصاحت، وحثت التراب على رأسها... وقال[أي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ]: يا بلال، نُزِعَت منك الرحمة حين تمرُّ بامرأتين على قتلاهما؟!»[38].
رابعاً: سلب الأموال، ويُعدّ ذلك من أوضح مصاديق الأذى، لا للمرأة فحسب، بل لكل إنسان؛ لأنّ المال أحد الحرمات التي يذود عنها الإنسان، وهذا ما تقتضيه الفطرة الإنسانية، فهذا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام  ـ وهو المرآة الصافية التي تعكس الإسلام المحمدي الأصيل ـ يُبدي غاية أسفه وغمّه وحزنه لغارة شنّ

التعليقات (0)

اترك تعليق