كيف نعين أبناءنا على التفاعل مع آيات الله؟
كيف نعين أبناءنا على التفاعل مع آيات الله؟
إن الهمّ الأكبر للتربية الإسلامية يتمثّل في كيفية جعل أبنائنا يتفاعلون مع كل عوالم الوجود بأرضها وسماواتها ونفوسها وأرواحها تفاعلًا إيجابيًّا ينتج معرفة الحق والإيمان به. فوفق الرؤية الكونية القرآنية، إنّ كل ما في الحياة هو آية تدلّ على الله تعالى، سواء كان في الآفاق أو في الأنفس؛ ووفق هذه الرؤية يتمتّع الإنسان بقابلية إدراك هذه الآيات وقراءة مدلولاتها ومعرفة أسرارها وعجائبها. قال الله في كتابه المجيد: {سَنُريهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهيد}.[1]
لقد أشرنا إلى بعض العوامل التي تجعل الطفل (وحتى الشاب البالغ) يستنكف عن التفاعل الإيجابيّ مع آيات الوجود، وذلك حين يتم قتل فطرة حبّ الاستطلاع والبحث عن المجهول فيه.
فالتربية الحاذقة هي التي تستبق وقوع مثل هذه الحالة وتحدّ من تأثيراتها، بل تتمكّن من قلب هذه الآثار السلبية إلى عوامل إيجابية في أخطر الحالات؛ وهكذا تحفظ للطفل أهم عنصر في بناء شخصيته المتكاملة وهو الفطرة السليمة.
الخبر المفرح هنا هو أنّ الله تعالى بقوله: {سنريهم}، قد تكفّل بتأمين مسرح التفاعل بعد أن جعله مكتظًّا بالآيات والدلالات، وسوف تكون الحياة بكل تفاصيلها وفق هذا الواقع مهدَ شهود آيات العظمة الإلهية. وحين يدرك الإنسان هذه العظمة ويستشعرها في نفسه، فإنّ المعنى الحقيقي للحياة سيتجسّد أمامه في هدفٍ كبير وعظيم، يستحق أن يبذل من أجله كلّ شيء.
ولأجل ذلك، فإنّ التربية الأصيلة هي التي تصون القوى الإنسانية الأساسية وتحفظها وتعمل على تقويتها، لكي يتحقّق التفاعل المطلوب بأعلى درجاته؛ وذلك بدءًا من الحواس وانتهاءً بالقلب والروح.فالحواس ينبغي أن تكون سليمة وفي حالة صحية تامّة؛ والأهم من ذلك أن تُستخدم في التوجّه والانتباه إلى الآيات، ومن ثمّ الانخراط في عملية التفاعل لأقصى مدى ممكن.
إنّ الكثير من المشاهد والمسموعات وغيرها من المحسوسات التي يلتقطها الإنسان في هذا العصر ليست من سنخ الآيات الإلهية، بل هي نتاج عملية التخريب الإبليسي التي أشرنا إليها سابقًا. ويكفي أن يكون الغالب على شغل الحواس الاهتمام والتوجّه إلى هذه المظاهر العبثية والمضلّة حتى يضعف التفاعل المطلوب. ومن باب المثال المساعد، لقد بيّنت إحدى الدراسات، التي أُجريت على روّاد أحد المتاحف الفنية، مدى تأثير العالم الافتراضي على تفاعل الإنسان مع الواقع؛ حيث تمّ تقسيم روّاد المتحف في هذه الدراسة إلى مجموعتين:
الأولى، هي التي يكتفي أفرادها بالنظر إلى اللوحات والأعمال الفنية.
والثانية، هي التي يحمل أفرادها آلات التصوير، ويكون شغلهم الشاغل التقاط الصور لما يشاهدونه. وحين سُئل هؤلاء عمّا شاهدوه بعد خروجهم مباشرةً من المتحف، ظهر الفارق الكبير بين المجموعة الأولى والمجموعة الثانية بلحاظ تذكّر المشاهدات والتفاصيل. فالذين اهتمّوا بالتقاط الصور لم يستطيعوا أن يتذكّروا سوى القليل من تفاصيل ما شاهدوا، مقارنةً مع الذين اكتفوا بالعين المجرّدة. ولعلّ هذه الملاحظة تدل على أنّ إنسان اليوم يُبتلى يومًا بعد يوم بمشكلة قصر الذاكرة وسطحية الاهتمام بما يرى، نظرًا لكثرة انشغاله عن العالم الخارجي، رغم ظنّه بأنّه منخرطٌ فيه أكثر من الآخرين.
إنّ طبيعة الاهتمامات الحالية ـوالتي تظهر بصورة أساسية في الساعات الكثيرة التي يقضيها الشباب على شاشات الهاتف والتجوال بين عددٍ كبير من الصور والموضوعات الجزئيةـ تجعل الإنسان ذاهلًا عن العالم الواقعيّ، بل غير قادر على التفاعل معه تفاعلًا حسيًّا مناسبًا. فما بالك بالتفاعل العقلي والقلبي!
وتتفاقم المشكلة كلّما كبر مجتمع الإنترنت الافتراضي وأصبح قريبًا من الواقعي. فالخبر الذي ذكر أنّ أحد اليابانيين قد عقد مراسم زواجه على شخصية افتراضية في إحدى الألعاب الإلكترونية، ليس سوى نموذج لما يمكن أن يحدث حين تحصل الغربة التامّة عن الواقع الحقيقي.
إنّنا لا نتوقّع أن يحل الواقع الافتراضي محل الواقع الحقيقي في المدى المنظور، لكنّ آثاره الحالية على مستوى الفكر والتفاعل مع العالم الحقيقيّ أضحت بمستوى الدمار الشامل للشخصية الإنسانية فيما يرتبط بدورها وموقعها في عالم الوجود. وحين عرض أحد روّاد الإنترنت على صفحته نداءً يطلب فيه التبرّع بالدم لوالده المريض في المشفى، حصل على ألف استحسان (لايك) ولم يأتِ أحد من هؤلاء للتبرّع.
قد تذهب برفقة أبنائك إلى الطبيعة، لكنّك تجدهم طوال الوقت منشغلين بأمرٍ واحد، وهو: التقاط الصور لأجل إنزالها على صفحاتهم الخاصّة. فالطبيعة لم تعد محلًّا للتأمّل ولا للتفاعل المعنويّ، بل صارت مجرّد عنوان أو وسيلة لتكبير حضور الذات والأنا في العالم الافتراضي. فالمهم الحصول على أكبر عدد من الاستحسانات بمعزل عن مضمون الصور ودلالتها، وبمعزل عن التجربة المعنوية التي تؤمّنها لنا مثل هذه الجولة والرحلة. فالطبيعة، وإن لم تعد بالنسبة للكثيرين منجمًا أو كسّارة تدرّ الأموال عبر استخراج موادها ومعادنها وأحجارها ورمولها، لكنّها عندهم وسيلة للحصول على مكاسب ومنافع ذاتية تعظّم الأنا وتضخّمها بدل أن تكملها وترتقي بها.
أمّا المرآتية التي يُفترض أن تعكس لنا تلك العظمة إلإلهية التي تدهشنا، والآيتية التي يُفترض أن نقرأ منها أعظم المعاني التي تذهلنا، فقد سقطت ضحية هذا التقوقع والاندماج العبثيّ في عالمٍ افتراضيّ يمتص كل الطاقات الإنسانية الإيجابية، ويمنع من اندماج الإنسان مع الوجود الحقيقيّ الفاعل.
إنّ عمل التربية هنا يكمن في إظهار حجم الخسارة التي تلحق بالإنسان نتيجة وجود هذه الحواجز بينه وبين عالم الوجود، والتي ترتفع نتيجة غلبة الوهم على العقل، والخيال على الروح. وكلّنا قد سمعنا هذه الطرفة حيث كان الابن كعادته منهمكًا بهاتفه المحمول، لكنّ الكهرباء انقطعت وانعدمت وسائل شحن بطاريتها، فاضطر لتمضية بقية السهرة في الحديث مع أسرتهه. وفي اليوم التالي، أرسل لصديقه قائلًا: "لقد تبين لي أنّ الأهل لا يشكون من شيء، فهم جيّدون واقعًا!".
والتحدّي الكبير الذي يواجه التربية في هذا العصر يكمن في قدرتها على إظهار الفارق النوعيّ بين العالم الواقعي والعالم الافتراضيّ، حتى يبقى لكلٍّ منهما دوره، ولا يتعدّى حدّه. ولعلّ هذا ما يمكن أن نطلق عليه عنوان: "حفظ الحدود الفاصلة بين الوهم والواقع". أمّا الهدف التربويّ المباشر هنا فيكمن في الحفاظ على القوى الإنسانية سليمة ناشطة في تفاعلها مع عالم الواقع الكبير والأصيل.
إنّ مشكلتنا هنا ليست مع العالم الافتراضيّ بذاته، بل مع ما ينجم عنه، من جرّاء سهولة العبث فيه. ففي النهاية، ليس هذا الواقع الافتراضيّ سوى نتاج جهد الإنسان وفكره وإبداعه. ولكن، هل أنّ كل إبداع وجهد إنسانيّ مفيدٌ ونافع؟ وماذا عن الفوضى العارمة التي تحصل في هذا العالم الافتراضي، الذي سهّل على الضالّين والعابثين والمتلاعبين أن يبدعوا أي شيء مهما كان منحطًّا ومضلًّا وفاسدًا!
إنّ عالم المادّة بحدّ ذاته لم يمنع الإنسان من إبداع أي شيء لا معنى له. فهذه الألعاب والآلات والأجهزة التي يتم تركيبها من عالم المادّة والطبيعة هي بمعظمها غير نافعة أو مفيدة، ولا علاقة لها بسعادة الإنسان ورقيّه. لكن إذا جئنا إلى العالم الافتراضيّ، فإنّ إمكانية الإبداع العابث السخيف تزداد عشرات الأضعاف. وفي ظلّ هذه العبثية والفوضى تزداد صعوبة الوصول إلى الواقع الحقيقيّ الذي يُفترض أنّه وسيلة الإنسان الوحيدة للتكامل.
إنّ مدمني وسائل التواصل الاجتماعيّ هم أكثر الناس عرضةً لتصديق أي خبر، مهما كان عاريًا عن الصحّة؛ وبسبب ذلك، فإنّ قدرتهم على التمييز بين الحقّ والباطل والعظيم والحقير والكبير والضئيل تضعف مع الأيام بشكلٍ ملحوظ. فهؤلاء وبسبب كثرة ما يرد على أذهانهم وخيالاتهم يفقدون الكثير من القدرة والاهتمام بالتعمّق والتدبّر فيما وراء ما يعرض عليهم. وبالنسبة لمعظمهم ليس مهمًّا أن يعرفوا الحقيقة طالما أنّهم بارزون على صفحات النت، أو يتمتّعون بوقتهم على شاشة الهاتف المحمول.
ــــــــــــ
[1]. سورة فصلت، الآية 53.
السيد عباس نور الدين
اترك تعليق