مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

التربية العقائدية أو صناعة الإيمان

التربية العقائدية أو صناعة الإيمان

التربية العقائدية أو صناعة الإيمان

كل معرفة أو تصوّر صحيح لحقائق الوجود الكبرى ينبغي أن يعقبه تصديق واقتناع. فعقول البشر مهيّئة ومعدّة للتصديق بمجرّد أن تلاحظ الرابطة السببية. وحين يحصل التصديق بواسطة الإثبات العقلي، تصل الدعوة إلى الإيمان بما صدّق به العقل. فإذا كانت النفس مهيّئة ومستعدّة، يتحقّق الإيمان مباشرةً. وبعدها تبدأ رحلة الحياة وامتحاناتها وما فيها من مواقف، لتثبيت الإيمان وتقويته. فإن سلكنا الطريق الصحيح نوشك أن نشاهد تلك الحقائق بعين القلب، وهذا هو اليقين الذي أشار إليه الذكر الحكيم بقوله تعالى: {كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقين‏ *  لَتَرَوُنَّ الْجَحيم‏}.[1]
أمّا استعداد النفس للإيمان، فهو أمرٌ يرتبط بخُلُقٍ باطنيّ يكون عادةً في كل إنسان؛ لكنّه قد يضعف أو يشتد بحسب الوراثة والتربية والبيئة، ويصبح فيما بعد أحد أهم المسؤوليات الاختيارية الملقاة على عاتق كلّ فرد.
الإيمان بما يصدقه العقل ـمهما كان تافهًا أو صغيرًا ككون هذا الشيء حصاةـ هو شيء نفسي مثل الوفاء والكرم والشجاعة، ولا بد من العمل على تقويته وصيانته من أضداده. فقد تُبتلى النفس بالجحود، فتجد صاحبها يتنكّر لكل ما لا يعجبه أو ينسجم مع أهوائه. وفي بعض الأحيان يتنكّر لأبسط الأمور دون سببٍ واضح.
إنّ امتلاك رؤية عقائدية للحقائق المصيرية يمثّل أفضل وأسمى علم يحصل عليه الإنسان في حياته؛ بل إنّ أي علم لا يرتبط بهذه الحقائق ولا ينبع منها، لن يكون مفيدًا ونافعًا، وإن تعلّق بمعرفة أسرار السماوات وسكّانها والأرض وكائناتها.
ولأنّ المعرفة الواعية الممتزجة بالقناعة والدليل هي البنية التحتية الأساسية والقاعدة الأولى لبناء الشخصية الأخلاقية والمعنوية، ولأنّ القيم الأخلاقية هي أساس انبعاث السلوكيات الحميدة والأفعال الصالحة، فإنّ أولى مهمّات التربية ينبغي أن تتركّز على بناء الرؤية الكونية التي تتضمّن الإجابات المقنعة والمنطقية عن الأسئلة المصيرية في الحياة.

وقد اختصر عقلاء العالم هذه المسائل المصيرية بثلاث قضايا أساسية هي:

  • أن نعرف من أين جئنا (قضية مبدأ العالم وخالقه).

  •  أن نعرف إلى أين نحن متّجهون (قضية غاية الخلق والمصير).

  • أن نعرف الطريق الموصل إلى الهدف الصحيح (الصراط والشريعة والمنهاج).

ما هي أهم مسؤوليات المربّين على صعيد بناء الرؤية الكونية؟
بما أنّ العقل فيضٌ إلهيّ يصل إلى كلّ المستعدّين؛ وبما أنّ لهذا الاستعداد علامات ومؤشّرات، فإنّ على المربّي الحصيف أن يجعل من بداية التعقّل، نقطة الشروع في التربية العقائدية. ولا يعني ذلك أنّه لا يوجد ما يمكن القيام به قبل ذلك؛ لكنّ انبعاث القدرة العقلية في النفس يمثّل الفرصة الأولى للبدء بعملية تفعيل دورها عبر مواجهتها بالمسائل العقائدية المصيرية.
وقد ذكرنا أنّ للتربية دورًا مؤثّرًا على صعيد بناء التصوّرات الصحيحة والواضحة فيما يتعلّق بهذه القضايا. ويمكن للمربّي الذكيّ أن يبدأ بالتمهيد لهذه التصوّرات بسلسلة من المقدّمات التصورية المفيدة (تصوّرات تقود وتمهّد لتصوّرات أعمق وأدق)؛ مثلما أنّه يستطيع المساهمة بتفعيل عمل العقل بواسطة تنشيط دوره الأساسي الذي يتمثّل في التمييز بين النقص والكمال والربط بين الأشياء والظواهر بصورة منطقية استدلالية.
فعلى سبيل المثال، لا يمكن للمنطق العقليّ أن يقبل بوجود معلول من دون علّة له أو سبب. لكن كيف يمكن الشعور بمعلولية هذا الشيء؟ ففي بعض الحالات لا يكون ما نعتبره معلولًا، مسبوقًا عند الناظر والمتفكّر بعدمه. فقد وُجد الكون من قبل أن نُخلق، وربما لا نشعر بأنّه معلول وحادث عن عدم؛ بخلاف ما لو دخلنا إلى غرفتنا، وشاهدنا فيها لأوّل مرّة ساعة يد على الطاولة، فلا نشك لحظة بأنّ هناك من أحضرها وأنّ هناك من صنعها.
ففي بعض الحالات لا تكون المشكلة في منطق العلّة والمعلول أو في القدرة على إدراك قانون السببية والالتفات إليه؛ بل في الشعور والانتباه إلى معلولية ومخلوقية هذا الشيء الذي نحن بصدد الاستدلال عليه. ففي مثل هذه الحالة بإمكان التربية العقائدية أن تؤدّي دورًا مهمًّا في التمهيد لهذا الإدراك والشعور. مثلما لو استطعتَ أن تصوّر بوضوح كيفية معلولية الكون وحدوثه، فإذا نجحت في هذه المهمة، سينتقل ذهن المخاطب تلقائيًّا، وتحت هدي نور العقل، إلى التصديق بوجود خالق له وموجِد. وحينئذ، إذا حصل التصديق فلن يكون مجرّد فكرة تحتاج إلى الاستحضار بالتذكّر، لأنّه قد نبع من تجربة إدراكية شعورية عميقة. فلا ننسى أنّ مخلوقية الكون، إن تصوّرها الذهن، هي ظاهرة عظيمة شديدة النفوذ والتأثير في النفس.
إنّ هذا الأمر يشبه ما يمكن أن يحدث للإنسان حين يشاهد نبيًّا يقوم بإحياء ميّتٍ ما. فهذه التجربة الشهودية ستكون أقوى بكثير من تجربة الإثبات العقليّ الحاصل بواسطة المفاهيم المجرّدة. وغالبًا ما يؤدّي هذا الإحساس إلى نقل الإنسان من الإيمان إلى حالة الطمأنينة؛ حيث يستقر شهوده هذا في قلبه ولا يغيب عنه؛ فلا يكون مثل شهود الجاحدين الذين ينسون ما شهدوه بمجرّد خروجهم من المشهد.
ولأجل ذلك، كان طريق إبراهيم الخليل (على نبيّنا وآله وعليه السلام) تحقيق الطمأنينة عبر شهود عملية الإحياء كتجربة ذاتية شعورية أكثر منها فكرية مجرّدة: {وَإِذْ قالَ إِبْراهيمُ رَبِّ أَرِني‏ كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى‏ قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى‏ وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبي‏ قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى‏ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزيزٌ حَكيم}.‏[2]
إنّ ما نظنّه مشكلة كبرى في البناء العقائديّ هو أبعد ما يكون عن الإشكال؛ فالإشكال الحقيقيّ في هذه العملية يكمن في قضية تحقيق الشعور الإدراكيّ للتصوّرات التي نحتاجها للتصديق. فالغالبية العظمى من الناس ليس لديهم أي مشكلة فيما يتعلّق بعملية الاستدلال، ولا هم يعانون من نقصٍ في المنطق العقليّ الذي يؤدّي دور الانتقال بالذهن من المعلول إلى العلّة ومن الواقعة إلى سببها. فعند هذه الغالبية قدرة التصديق بالسبب بمجرّد ثبوت معلولية شيء أو حدوثه؛ كما إنّ عقول أكثر الناس قادرة على التصديق بسهولة بكون العلّة حائزة على جميع كمالات المعلول الذي أوجدته. فالمنطق العقليّ الفطريّ يثبت مباشرةً ضرورة أن يكون المفيض بالحياة أو القدرة متمتّعًا بما أفاضه حتمًا. ولأجل ذلك، يعبّرون عن ذلك بقاعدة عقلية بديهية: "فاقد الشيء لا يعطيه".
للمنطق العقليّ دورٌ كبير في إثبات أهم قضايا الوجود والمصير، لأنّه مزوّد بمجموعة من القواعد المبنية على بديهيات أوليّة عالمية يستحيل إنكارها. فمن ذا الذي يمكن أن يرفض استحالة اجتماع الشيء وعدمه (اجتماع النقيضين)؟! ومن الذي يمكن أن ينكر قانون السببية؟!
أجل، قد يحتاج الإنسان إلى تقوية حضور هذا المنطق وتفعيل استعماله في حياته وأثناء تفكّره؛ لأنّ الذهن قد يغفل عن منطق العقل أحيانًا، والنفسُ قد تقصر عن استعماله أو تستنكف، خصوصًا في حالات غلبة الشهوة أو الغضب وسيطرة الأهواء والرغبات المنحطّة. ولأجل ذلك، قلنا إنّ من أهم مهمّات التربية ترسيخ أهمية العقل ودوره المصيري في الاعتقاد والرؤية، وعدم التقدّم عليه بأي شكل من الإشكال، والعمل على جعل النفس منقادة له دومًا وخاضعة، خصوصًا في حالات الضعف تلك.
إنّ التذكير بهذه القواعد العقلية المنطقية، وتدريب ذهن المتربّي على استعمالها مفيد جدًّا ومؤثّر في تقوية القدرة العقلية وحضورها. ومن المناسب جدًّا أن يتعرّف المربّون إلى هذه القواعد ويسجّلوها ويضبطوها، ويتمكّنوا من التعبير عنها بلغة مفهومة وواضحة. فربما لا تكون عبارة المعلول ذات دلالة تصوّرية مفيدة عند الطفل، فيبقى ذهنه معلّقًا بالفضاء. وحين نصر على استعمال ألفاظ لا ترسم في الذهن أي معنًى مفيد، فلن نتمكّن من الاستفادة منها في عملية التعقّل والتصديق. وهكذا نعود إلى قضية البناء اللغويّ، الذي يُفترض أن يعمل على الربط بين الألفاظ ومعانيها الدقيقة، سواء بواسطة تداعي المعاني أو عبر تكرار استعمالها في مواضعها.
إنّ ترسيخ قواعد العقل في التفكير، أو تثبيت دور العقل في الحياة، قد لا يبدأ عند البعض من خلال الاشتغال والاهتمام بالقضايا الكبرى؛ فربما يكون البدء من القضايا الصغرى مناسبًا لبعض الناس، لكي يعتاد ذهنهم على المنطق السليم ويستأنس به؛ وبعدها يصح الانتقال إلى القضايا الوسطى وهكذا. 
إنّ التربية العقائدية مهمّة مصيرية ومحورية، ولا يجوز الاستنكاف عنها بأي شكل من الأشكال؛ ولأجل ذلك ينبغي إيلاؤها كل ما تتطلّبه من مهارات ومعارف، لأنّها أساس انبعاث الشخصية القويمة القوية المتكاملة. والعمل على بناء التصوّرات الصحيحة للموضوعات المرتبطة بالعقيدة هو أساس هذه العملية. ولأجل ذلك، ينبغي جعل قضية البناء الشعوريّ الواعي هدفًا من وراء البناء التصوّري. وحين تبدأ مؤشّرات التعقّل بالبروز، ستكون هذه التصوّرات بمثابة المواد اللازمة والنافعة لعمل العقل وتطبيق قواعده الأساسية. فهي حقل التمارين الذهنية التي ترتقي بالطفل إلى مستوى الجهوزية التامّة للتصديق بالقضايا الكبرى والمصيرية.
 

 

___________________________
[1]. سورة التكاثر، الآيات 5- 6.
[2]. سورة البقرة، الآية 260.

 

المصدر: مركز باء للدراسات.

السيد عباس نورالدين

التعليقات (0)

اترك تعليق