إكساب الأبناء خُلُق الرّضا
إكساب الأبناء خُلُق الرّضا
من الأمور التي يحتاج إليها أبناؤنا لتوسعة إدراكهم للفرص العظيمة اللامتناهية في عالم الوجود، وللتفاعل معها بروح مندفعة وإيجابية: خُلق الرّضا.
والمقصود بالرضا هنا قبول وتسليم ممتزج بسعادة وتفاؤل بفعل الله وتدبيره وإرادته، وضده هو السخط على الخلق أو الحوادث أو القِسم والعطايا التي ينالها الإنسان حين يعلم أنّها لم تكن لتحصل لولا إرادة الله. وليس المقصود أن يرضى الإنسان عن الأشياء القبيحة (كالظلم والفقر والمرض والبشاعة وتلويث البيئة و...)، بل أن يراها في الإطار الكلي للحياة بعين الرضا. فمن الطبيعي والفطري أن يتألم المؤمن ويسخط حين يرى هذه القبائح والسيئات، بل من الطبيعي أن ينهض للقضاء عليها ومحاربتها، لكنّه في قرارة نفسه راضٍ لأنّ الناتج جميل دومًا. فوجود كيان غاصب لأرض المسلمين هو أمرٌ بحدّ ذاته شر وغدّة سرطانية يجب اقتلاعها، لكن ذلك أيضًا لمصلحة المسلمين لكي ينهضوا من سباتهم ويحققوا في ظلّ مقاومتهم الوعي ووحدة الكلمة والعودة إلى الجذور، ولهذا قالوا إن الشرّ أمر نسبي. ولا يرى المؤمن شرًّا إلا ويرى الخير محيط به من كل جانب. لهذا يكون سخطه في مرتبة من نفسه، ورضاه في مرتبة أعمق.
إنّ الرضا العام عن الحياة بما تحويه من فرص هو الشيء الذي ينبغي العمل على ترسيخه في نفوس أبنائنا بقوة. لأن الطفل ما دام ساخطًا، فإن تفاعله مع هذه الحياة سيكون سلبيًّا، ولن يتمكن من رؤية إيجابياتها وفوائدها الكثيرة، هذا فضلًا عن الاستفادة منها لتحقيق تكامله.
للإمام الخميني (قدس سره) كلام رائع حول هذا الخلق وتأثيره على حياة الإنسان وشخصيته ومصيره، حيث يقول:
"إنّ خلق الرضا هو من الأخلاق الإنسانيّة الكماليّة وله آثار عظيمة في تصفية النفس وتجلّياتها وجلائها ويجعل الفرد موردًا للتجلّيات الإلهيّة الخاصّة، ويوصل الإيمان إلى كماله، وكمال الإيمان إلى الطمأنينة، والطمأنينة إلى كمالها، وكمال الطمأنينة إلى المشاهدة، والمشاهدة إلى كمالها، وكمالها إلى المعاشقة، والمعاشقة إلى كمالها، وكمال المعاشقة إلى المراودة، والمراودة إلى كمالها، وكمالها إلى المواصلة، والمواصلة إلى كمالها، ويرتقي إلى ما لا يسعه وهمي ووهمك! وله في ملك البدن والأفعال والآثار الصوريّة الخارجيّة أي السلوكيّات التي هي أغصان وأوراق تلك الشجرة (أي الباطن) تأثير غريب، فيصير السمع والبصر وسائر القوى والأعضاء إلهيّةً فيظهر فيه سرّ: "كنت سمعه وبصره" إلى حدّ ما".[1]
إنّ خُلق الرّضا يرتبط بشكل أساسي بفعل الله وتدبيره؛ ولهذا، فإنّ الرضا الواقعيّ الذي نسعى للتخلّق به هو الرضا عن الله تعالى؛ ولطالما وصف الله عزّ وجل المؤمنين بقوله: {رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ}.[2] والرضا يقوم على قاعدة الإيمان بأنّ كل ما يحدث في العالم إنّما يجري وفق إرادة الله تعالى. فما لم يؤمن الإنسان بهذا المستوى من حضور الله تعالى، فمن الصعب أن يرضى عن الله ربّه.
وإنّما يرضى المؤمن عن ربّه إذا فهم الحكمة من وراء التدبير، سواء على نحو التفصيل أو الإجمال. فقد يتمكّن الإنسان من تفسير كل ما يرد عليه ويشاهده في هذا العالم؛ وأحيانًا يصل إلى هذا المستوى من الرضا لأنّه خبر حياة طويلة مليئة بحسن التدبير، فيقيس ما هو حاضر على ما سبق، ويعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له. ولا يكتب الله للمؤمن إلا الرحمة والخير، وإن كان الظاهر شرًّا أو نقمة.
علينا أن نجعل أبناءنا منفتحين على فعل الله وتدبيره لحياتنا، لأن هذه هي الوسيلة الأساسية للوصول إلى هذا الخُلق العظيم. وهذا ما يستلزم توسعة باب التفكير والنقاش والبحث والتدبّر في حوادث الحياة المختلفة..
إنّ حياة البشر مليئة بالوقائع التي تحكي عن حكمة عظيمة. فلو فتحنا باب التأمل في التاريخ والسياسة والمجتمعات، لوجدنا أنفسنا أمام شواهد رائعة، ترسّخ فينا الشعور بحضور الله الجميل.
وكم هو محروم ذاك الذي يأتي إلى هذا العالم، ولا يطّلع على هذه الحقائق. فصعود الغرب واحتلال فلسطين وتشرذم المسلمين وتخلفهم وانبعاث الصحوة والمقاومة وعشرات الوقائع البارزة في عصرنا الحالي تكفي لإثبات وجود إرادة إلهية عظيمة تسير بالبشرية نحو هدف مفعم بالأمل والإشراق.
إنّ الوعي والبصيرة والفهم العميق لمجريات العالم الكبرى هو الأرضية المتينة لانبعاث خلق الرضا، لأنّ جزئيات الحياة المؤلمة لا يمكن أن تُفهم بشكل صحيح بمعزل عن كلياتها؛ فمعرفة أنّ الوقائع الصغرى التي تؤلمنا وتؤرقنا وتثير فينا التساؤلات والحيرة (مثل وجود هذا العدد الكبير من الفقراء والمعوقين والمحرومين و...) ليست في الحقيقة سوى نتيجة لوقائع كبرى، كان البشر مسؤولين عنها، وها هي أسبابها معروفة وواضحة، كل هذا يؤدي إلى سيطرة الرضا والأمل على النفس بعد معرفة الأسباب.
إنّ عجز الطفل عن تفسير تلك الوقائع الصعبة غالبًا ما يؤدي إلى ابتعاده أو اجتنابه للتفكر فيها؛ هذا في الوقت الذي تُعد هذه الوقائع أهم ساحة لتكامله العقليّ ونضجه النفسيّ والمعنويّ. وإنّ عدم تفكرنا بهذه الحقائق سوف يترك في أعماق نفوسنا بذور السخط على الله سبحانه، وإن لم نشعر.
فالتربية السليمة تهتم بإعداد الإنسان للاستفادة القصوى من التواجد في هذه الحياة من خلال تقوية مهارة التفكر العقلي بحوادثها وقضاياها. ومن المتوقع أن يكون الناتج عبارة عن الاعتقاد بوجود حكمة كلية مهيمنة، تبعث في النفس رغبة واندفاعة قوية لاكتشاف أسرارها. وأينما أدرك المرء تجليات تلك الحكمة، تشكّلت في نفسه أصول شجرة الرضا التي تصنع منه إنسانًا متفاعلًا مع الوجود كله بأعلى الدرجات.
إنّ أبناءنا بأمس الحاجة للنظرة الإيجابية للحياة، لكي يحفظوا اندفاعة الأمل والرجاء الذي هو سرّ التكامل الأعظم. وهذا ما يقتضي أن يبحثوا عن الجمال في كل شيء، خصوصًا إذا كان بظاهره مؤلمًا أو محزنًا. ولا يبحث عن الجمال في الأشياء والحوادث والقضايا إلا من كان في قرارة نفسه مؤمنًا بأنّ العالم كلّه إنّما يُدار وفق إرادة عظيمة حكيمة. والرضا هو هذا المستوى الأعلى من الإيجابية.
__________________________________
[1]. الإمام الخميني، معراج السالكين، ترجمة السيد عباس نورالدين، ص 96.
[2]. سورة البيّنة، الآية 8.
اترك تعليق