مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

ابنتي لا تريد أن تتحجّب، ماذا أفعل؟ كيف تصل الأمور إلى هذا الحد

ابنتي لا تريد أن تتحجّب، ماذا أفعل؟ كيف تصل الأمور إلى هذا الحد

ابنتي لا تريد أن تتحجّب، ماذا أفعل؟ كيف تصل الأمور إلى هذا الحد

بالنسبة للمجتمع المتديّن، إنّ إهمال الفتاة للحجاب هو شيء أكثر من عدم التديّن، إنّه أشبه بإعلان حرب على القيم الدينية والدين كلّه. أمّا بالنسبة للعديد من الفتيات اللواتي يردن التخلّص من هذا المظهر، فقد يكون الأمر نابعًا من دوافع وأسباب، هي أقل بكثير من معركة أو مواجهة؛ وهذا ما يبعث على الصدام، ولا يفتأ يفاجئ الطرفين ويعقّد مسألة التواصل بينهما.
إنّ هول القضية وحجم الكارثة يكاد لا يترك مجالًا للتعقّل وسط هذا النقاش والصراع. فالفاجعة التي تحلّ بالأهل والمقرّبين حين يرون ابنتهم، وقد اختارت السفور وإظهار المفاتن، تجعلهم غاضبين جدًّا؛ ولأنّها ابنتهم التي ربّوها منذ الطفولة وأحاطوها بكل عناية ودلال، فإنّ ذلك يزيد من حدّة غضبهم وسخطهم. فلا يكفي أنّها تشنّ مثل هذه الحرب السافرة على قيمهم الدينية ـوحتى على موقعيتهم الاجتماعية التي تتأذّى كثيرًا بفعل كلام الناسـ بل ها هي تُظهر كل أشكال الجحود والتنكّر لفضلهم ومودتهم! إنّه انقلابٌ مدوٍّ يهزّ أركان الأسرة كلّها!
أمّا بالنسبة للفتيات اللواتي يهملن الحجاب، أو يتخلّين عن هذا المظهر الدينيّ بالكامل، فقد يكون الأمر مجرّد تحرّر من بعض القيود التي تمنعهنّ من ممارسة أنشطة رياضية أو اجتماعية أو أعمال ترتبط بحياة القرن الواحد والعشرين، أو قناعات بأنّ الإسلام لم يوجب الحجاب، وإنّما كان عادة عند العرب، والإسلام لم يحرّمها، لذا علينا أن نتحدّى هذا التزمّت والتحجّر والهيمنة الذكورية على الدين والفقه و...
وهكذا قد تكون دوافع هذه الفتاة في جوهرها نظيفة وطيبة، وهي تنبعث من روح ثورية يمكن أن يكون لها تأثير كبير في مستقبل المجتمع (إن توجّهت بشكل صحيح)، فما أحوجنا إلى الشخصيات القوية والحماسية للشباب، في زمنٍ تستعر فيه المواجهة بين الحقّ والباطل، ويشتد وطيس المعركة ضدّ الظلم والظالمين.
وقد تكون دوافع هذه الفتاة أمورًا ترتبط بنزعات الهوى وحبّ الذات والعجب وحبّ الظهور، حيث ترى في السفور وسيلة للفت الأنظار، عملًا بقاعدة "خالف تُعرف"، أو لأنّ الشاب الذي تطمح إليه ليس متديّنًا وهو يكره الحجاب!
ومن منّا يستطيع أن يدّعي بسهولة أنّه تخلّص من هذه النزعات المشؤومة؟! فالكثير من المتديّنين مبتلون بما هو أشدّ من هذه الأمراض الأخلاقية والأزمات النفسية، ولكنّهم يخافون أن يظهروا على حقيقتهم، أو أنّ مصلحتهم تقضي بأن يتظاهروا بالتديّن رغم خواء قلوبهم. فقد يكون هذا ما شاهدته الفتاة منذ صغرها في والديها ومحيطها، وجعلها تظن أنّ الدين لعقٌ على ألسنة الناس يستدرّون به الدنيا، ولا يوجد في القلوب سوى النفاق والوجهين.
إنّ هذه الفتاة التي أمرضتها هذه الازدواجية منذ طفولتها، لم تعد قادرة على تحمّل هذا المستوى من النفاق، وربما هي تعلن بواسطة ترك المظهر الإسلاميّ عن رفض كل هذه البيئة السقيمة التي ترعرعت في أجوائها.
وقد يكون الدافع وراء ترك الحجاب الإسلاميّ عقدة حقارة تدفع صاحبتها إلى إظهار مواطن قوّتها، التي اكتشفت أنّها فعّالة جدًّا، في مجتمع ينظر رجاله بشغف إلى مفاتن المرأة، ممّا يجعلها في موقع القويّ والمسيطر. فبواسطة جذب هذه العيون الطامحة يمكنها أن تجذب القلوب والجيوب.
أمّا إذا أردنا أن نمنع من ظهور وتشكّل هذه الأمراض الأخلاقية والعقد النفسية في نفوس بناتنا، فإنّ ذلك يستدعي أن نلتزم بتلك المبادئ الأخلاقية التي تطرّقنا للحديث عنها سابقًا. وما لم نكن كأهل ومربّين ملتزمين بها أشدّ الالتزام أو محبّين لها وتوّاقين إلى تطبيقها، فمن الصعب، بل ربما من المستحيل، أن نؤسّس لها في نفوس أولادنا. وهكذا تنتقل أمراضنا النفسية إليهم بحالة أشدّ وخامة. وبعد ذلك علينا أن نتوقّع منهم كل أشكال التمرّد والخيانة والجحود والتنكّر و...
أجل، إنّ ما لاحظناه عبر تجارب الحياة هو أنّ معظم الدوافع التي ترتبط بضعف التدين ـسواء عند الرجال أو النساءـ مردّها بشكل أساسيّ إلى تلك العوامل الأخلاقية السلبية. ولو صلحت النفوس وتمت تزكيتها وتهذيبها وتكريمها، لما تشكّلت بذور الإعراض عن الدين والشريعة، فضلًا عن أن تصبح بمثابة شجرة خبيثة اجتُثّت من فوق الأرض ما لها من قرار.
ولأجل ذلك، إذا كنّا بصدد تربية أولادنا على الالتزام والتقيّد بالشريعة ـباعتبار ذلك سبيل النجاة وقاعدة بناء الحياة الطيبةـ فإنّ أهم ما ينبغي أن نعمل عليه هو التشدّد في ترسيخ القيم الأخلاقية. وأثناء مقابلاتي للعديد من النساء الرافضات للحجاب، تبيّن أنّ البعض يمتنع، حتى عن الحوار والنقاش بشأن هذا الأمر، باستعلاءٍ ممتزج بروح المستهزئ المستخف. فما الذي يوصل إنسانًا يعيش في بيئة متسامحة، كالبيئة اللبنانية مثلًا، إلى التكبّر على المتديّنين وأصحاب الفكر الدينيّ الذين يحملون في قلوبهم الكثير من العطف والرأفة والحرص (لأنّ تشدّد بعض البيئات بشكل مبالغ قد يستفز الإنسان ويحمله على الرفض من دون أي سبب آخر)؟ وما الذي أوصل هؤلاء إلى هذه الحالة المَرَضية؟
أجل، إنّ جانبًا مهمًّا من الأسباب التي تقف وراء إعراض بعض بناتنا عن الحجاب مردّه إلى إهمال البعد الأخلاقي في التربية.
لكن لو فرضنا أنّ الأمر ينطلق من فكر وعقيدة، ولم يكن هناك أي رفض للحوار والبحث عن الحقيقة، فالأمر سهل جدًّا طالما أنّنا نمتلك المنطق والأسلوب المناسبين للتحدّث بشأن هذه القضية. وعلينا أن لا نعقّد المسألة (وإن كان وراءها بعض العقد والدوافع السقيمة)، بل نحصرها في إطار الفكر مقابل الفكر. فالشباب على وجه الخصوص، يتميّزون بروح التحدّي والتمرّد على الوضع السائد؛ وقد يحملهم ذلك إلى تشخيصٍ خاطئ لأسباب التخلّف في هذا الوضع؛ وربما يرون الكثير من المتديّنين خانعين، فيتأكّد ظنّهم بأنّ هذا النوع من التديّن هو المسؤول عن كل ذلك!
وطالما أنّ باب الحوار مفتوح، والفتاة مستعدّة لفهم قضية الحجاب، فمن المناسب أن نجتنب البدء من الحلال والحرام، خصوصًا أنّ هذا قد يدخلنا في متاهات لا نهاية لها؛ ونحن نسمع كل يوم عن مفكّر ـأو حتى شيخـ ينهض ليقول إنّ الحجاب لم يكن واجبًا في الإسلام والقرآن، وإنّ الأساس هو طهارة القلب و... 
 فأوّل شيء ينبغي التأسيس له في الفكر والعقيدة هو بيان حقيقة ظاهرة الدين في الحياة البشرية ومنشأ هذه الظاهرة؛ أي أن نربط بين الاعتقاد برحمة الله والإيمان بربوبيته وتدبيره للعالم (مع ما يعنيه ذلك من روعة الحضور وجمال التدخّل وأهمية الرعاية)، وبين ضرورة وجود نبوّة وشريعة ودين.
فإذا تأسس هذا الأصل واقتنعنا به، يأتي الحديث عن كيفية الوصول إلى هذا الدين ومعرفة شريعته؛  وهذا ما يُفترض أن يوصلنا إلى دور المنهج الفقهيّ الاجتهاديّ المبنيّ على قواعد وأصول عقلية متينة، وإلى دور الفقهاء الكبار، باعتبار أنّهم علماء باحثون محقّقون، يتميّز خطّهم ونهجهم بالإخلاص والمحبة (فلا ذكورية ولا إكليروس ولا مصالح سلطوية، بل علم وتحقيق وزهد ونزاهة)؛ وكلّما ظهر دور الفقهاء في استنباط الأحكام من تراث الأنبياء ـالذين هم رسل الله المعصومون، ورسل رحمته إلى خلقهـ تضاءل دور عقولنا المحدودة، وعرفنا مدى تفاهتنا، حين جعلنا أنفسنا بإزائهم وموازاتهم. هذا، خصوصًا أنّ الفقيه ليس سوى عالم باحث سلك هذه الطريقة واتّبع هذا المنهاج العلمي، الذي يمكنك أنت أيضًا ولو كنت أنثى، أن تسلكيه وتتأكّدي من كيفية توصّله إلى هذا الحكم أو ذاك.
قد يكون الحجاب بهذه الطريقة أو تلك غير واجب. وفي الواقع، فإنّ أول من يطرح هذا الاحتمال هو الفقيه نفسه، ويعمل على تحديد الموقف العلميّ الدقيق بشأنه. وليس للفقيه من مصلحة في أن يثبت هذا الشيء أو ينفيه. فما الذي يضرّ الفقهاء إن لم يكن الحجاب واجبًا في الشريعة! وما الذي ينفعهم إن كان كذلك!
إن تعرّف الشباب على دور الفقهاء على صعيد بيان أحكام الدين، لهو أفضل طريقة لتهدئة نفوسهم المضطربة والشكّاكة بشأن استنباط الأحكام وإصدار الفتاوى. فأحكام الحجاب ليست سوى نتائج لإعمال مجموعة من المبادئ العقلية، التي تبدأ من اعتقادنا بالله كربٍّ رحيم (له الأمر والنهي ووجوب الطاعة)، وتمر عبر خط النبوة والإمامة، وتصل إلى ضرورة التفقه والاستنباط والاجتهاد (بآلياته العقلية المحكمة المتينة).
فلو استطعنا أن نعرّف أولادنا على هذه الحقائق من قبل أن يشتد عودهم وتتفاقم مشاكلهم النفسية وتضغطهم الظروف المدرسية العلمانيّة التي نضعهم فيها (ونحن نرميهم في البحر ونقول لهم إياك إياك من البلل!) لما انبعثت فيهم مثل تلك الشكوك والتساؤلات والشبهات؛ لأنّهم سيقفون أمام ظاهرة مليئة بالرحمة (وسوف يرون مدى كذب وخداع الإعلام الغربيّ ودناءته) ويعلمون أنّ تجربة العلم الدينيّ في مجتمعنا هي أرقى تجربة علمية شهدتها البشرية لحدّ الآن.
ولا ينبغي أن ننكر أمامهم أنّ الواقع المأساوي الذي يعيشه المسلمونـ وهو امتداد لقرون من التخلّف والبعد عن روح الإسلام. جعل الكثير من المستغلّين يتبوّؤن مراكز الصدارة هنا وهناك؛ هذا، بالإضافة إلى كارثة ظاهرة النفاق التي تعشعش في المجتمع وتتغذّى من الاستعمار، وتتسلّط على العديد من مفاصل الحياة. فالتديّن في مجتمعاتنا المسلمة يعيش أزمة حصار الجهل والتخلّف والنفاق؛ وعلينا كمتديّنين حقيقيّين أن نعمل على تحطيم هذه القلاع البغيضة وتدمير هذه السدود.
 

 

المصدر: مركز باء للدراسات.
السيد عباس نورالدين

التعليقات (0)

اترك تعليق