مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

لماذا لا يتفاعل ولدي مع آيات الوجود وعجائبه؟

لماذا لا يتفاعل ولدي مع آيات الوجود وعجائبه؟

لماذا لا يتفاعل أبناؤنا مع آيات الوجود وعجائبه؟

كل من تمتّع بالحد الأدنى من العقل استطاع أن يدرك القضايا الكبرى في الحياة؛ وذلك لأنّ علائمها وآياتها واضحة وجلية. وإنّ ما تطمح إليه التربية الإسلامية هو أن يتعدّى العلم والإدراك نطاق التصديق ويصل إلى مقام الإيمان والطمأنينة. فالآثار الطيّبة للعلم والمعرفة لا تتحقّق إلا في ظلّ الإيمان الذي يغذّي القلب ويستقر فيه.
إنّ الإيمان بالله تعالى أو بالحياة الآخرة أو حتّى بالنبوّة والولاية، إنّما يتشكّل ويتبلور عبر ما يمكن أن نعبّر عنه بكثرة المراودة أو التفاعل المستمر. والمقصود هنا أن يكون للإنسان اشتغال ومواجهة وتفاعل مع آيات ومظاهر هذه الحقائق في حياته. وبحمد الله، فإنّ الحياة مليئة بهذه الآيات. فلا ننسى أنّ كل هذا الوجود وكل هذا العالم مع كل ما يحدث فيه ـعلى مستوى الحياة الاجتماعية والفرديةـ هو محل ظهور أسماء الله وصفاته وآياته؛ لأنّ كل شيء يجري وفق تدبير الله وربوبيته. أمّا التحدّي الذي تواجهه التربية هنا فهو كامن في كيفية تنشيط تفاعل الطفل والشاب تفاعلًا إيجابيًّا حيويًّا مع هذه الآيات.
يُبتلى بعض الناس بآفة كبرى (وإن كانت بفعلهم وإرادتهم)، عبّر عنها القرآن الكريم بقوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُون‏}.[1] وقد أصبح الإعراض عن الحياة الجدية والتفكّر العميق سمة هذا العصر وظاهرة بارزة في شخصية الشباب خصوصًا. فما إن يواجه الشاب قضيّة تتّسم بنوعٍ من الجدية، تتطلّب منه بذل جهد إضافي في التفكير، حتى يعرض عنها ويظهر انزعاجه وتململه، لماذا يحدث هذا الأمر؟ وما الذي يمكن للمربين أن يفعلوه حتى يتجاوزوا هذه المعضلة؟
يُقال أنّ هناك ما يمكن أن يقتل تلك الفطرة التي تجعل الإنسان (والطفل بالخصوص) منشدًّا إلى الغرائب والعجائب ومندفعًا نحو كشف المجهولات. شيءٌ ما يحدث هنا ويسلب الأطفال أهم ما يميّزهم، وهو حبّ الاستطلاع والاكتشاف والتساؤل. وأغلب الظن أنّ هناك ثمنًا باهظًا يدفعه هؤلاء الأطفال على مدى الزمن وفي مكانٍ ما، لقاء التساؤل والفضولية، ممّا يجعلهم ينكصون ويتراجعون عن ذلك. ولا نحتاج إلى كثرة بحث حتى نكتشف السبب وراء ذلك كلّه. ففي المدرسة، تحدث أكبر عملية قطيعة بين الإنسان وعجائب الحياة والوجود.
ها هي المدرسة اليوم تواجه معضلات جديدة لم تكن مهيّئة لها؛ وها هي المدرسة اليوم تبذل كل ما يمكن من أجل استعادة سيادتها وهيبتها؛ كل ذلك ينبغي أن يتحقّق عبر إخضاع الإنسان التلميذ لنظامها التعليميّ ومناهجها وقوانينها؛ هذا في عصر تنبعث فيه الدوافع الذاتية للانعتاق والتحرّر وتقوى عند الأطفال أكثر فأكثر.
إنّ ما يجري اليوم من صراعٍ خفيّ بين إرادتين (إرادة المدرسة وإرادة التلميذ) غالبًا ما ينتهي إلى تلك النتيجة الوخيمة. فمدارسنا ليست معدّة ـسواء من ناحية متطلّبات المنهج أو مستلزمات الإدارةـ للتعامل مع التحوّلات النفسية التي شهدتها العقود الأخيرة ـسواء على مستوى علاقة الأهل مع الأبناء أو على مستوى انفتاح الأطفال على عوالم كثيرة خارج المدرسةـ والتي نتج عنها شعورٌ قويّ بالحرية أو الرغبة المتزايدة بالتحرّر من القوانين؛ وهو أمرٌ يتناقض مع كيان المدرسة التقليديّ.
إنّ الكثير من أولياء الأمور باتوا اليوم يتجنّبون الضغط على أبنائهم أو ممارسة أي نوع من القمع النفسيّ، الذي كان سائدًا في الماضي، ويحصل من خلاله انخراطٌ قهريّ في متطلّبات المدرسة؛ وذلك لأنّ الأهل أصبحوا أكثر إدراكًا للآثار السلبية لهذا الضغط على مستوى علاقة أبنائهم بهم. 
وإنّ ما يُتاح اليوم لكلّ طفل من معارف ومعلومات وتجارب حسّيّة وذهنية خارج المدرسة (وبواسطة الإنترنت خصوصًا) يجعل الكثير ممّا تقدّمه المدرسة يبدو مملًّا. فكيف إذا أخذنا بعين الاعتبار التشويق والالتذاذ والمتعة التي تحصل جرّاء تلك التجارب، وقارنّاها بالضغوط والقمع والقيود المدرسية المتزايدة. فلا شك بأنّ مدارس اليوم تجد نفسها أمام معضلة حقيقية متفاقمة ترتبط بالتعامل مع الطالب "المتفلت" والمتململ، ما يدفعها إلى ابتكار كل الأساليب الممكنة لإخضاعه؛ الأمر الذي يُترجم في الغالب بالمزيد من الضغط والقمع غير المباشر. أمّا الضحية الأولى من وراء ذلك فهو العلم نفسه.
حين يضطر التلميذ للاستسلام لضغوط المدرسة، سرعان ما يتحوّل إلى شخصٍ سلبيّ مقابل أهم ما تقدّمه المدرسة؛ فهو يدرس لأجل أن يخفّف الأعباء والأثقال والضغوط، لا لأجل أن يتعلّم. وهكذا تصبح العلاقة بين التلميذ والمدرسة علاقة وظيفية، يسودها الاحترام والهناء بمقدار ما يلتزم فيها بالقوانين والأنظمة. وفي الوقت الذي يُفترض أن تكون هذه المرحلة العمرية أفضل فرصة لاكتشاف متعة العلم ولذّة البحث والسؤال والتحليل والتفكّر والكتاب والدراسة، تسود قيمة واحدة وهي تحقيق النجاح وكسب الدرجات وجمع النقاط.
انظر إلى طلّاب السنوات المدرسية التي تخضع لامتحانات حكومية (حيث يزداد الضغط المدرسيّ بصورة ملحوظة)، فسوف تجدهم منذ بداية العام الدراسي منخرطين بالدراسة وفق معايير المدرسة المرتبطة بنسبة النجاح المئة بالمئة. وبدل أن ترتبط الدراسة والجهد التحصيليّ بتفعيل حبّ العلم ومتعة المعرفة ولذّة المطالعة، يختبر طلّاب هذه المراحل أسوأ أو أمرّ التجارب في العلم والتعلّم. إنّ عليهم هنا أن ينجحوا، ولا ينبغي أن يضيّعوا أي وقت في أي نشاط لا علاقة له بالامتحانات الرسمية. وحتى لو وُجد الكثير من وقت الفراغ، فإنّه سيكون بالنسبة لهم حقًّا طبيعيًّا للاستراحة من عناء الدراسة وضغوطها؛ فأي مطالعة خارج المنهاج ستشعرهم بالذنب لأنّهم يخونون ثقة المدرسة ومعلّميها وإدراتها التي تبذل كل جهد ممكن ليعبروا الامتحانات بنجاح، وأي مطالعة إضافية ستكون بالنسبة لهم عاملًا للتشتّت والابتعاد عن التركيز اللازم على المنهاج الدراسيّ المكثّف.
فإذا كان لنا أن نختصر المدرسة اليوم، فإنّنا نعبّر عنها بجملة واحدة وهي: تحقيق النجاح في الامتحانات. أمّا العلم والسؤال والبحث والتفكّر فهي قيم باتت مضرّة أو غير مناسبة. 
هكذا يتم قتل جوهر الإنسانية بحجّة صناعة إنسانٍ ناجح!
وهكذا تواجه تربية اليوم مثل هذه المشكلة التي تضرب صميم الروح التي يُفترض أن تكون وسيلة الإنسان للعلم والمعرفة والإيمان. 
وشباب اليوم باتوا يقولون لنا (بطريقة غير مباشرة) احصدوا ما زرعتم فينا؛ فنحن لم يعد لدينا الطاقة للاستماع إلى مواعظكم وإرشاداتكم أو الاهتمام بأي شيء آخر غير المدرسة. فكيف يمكن لنا أن نعيد شحن بطارياتهم ليعودوا إلى حيوية الأطفال وفطرتهم القوية؟

 

______________________ 
[1]. سورة يوسف، الآية 105.

 

 

المصدر: مركز باء للدراسات.

السيد عباس نورالدين

التعليقات (0)

اترك تعليق