مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

لماذا يجب التركيز على الآخرة في التربية؟

لماذا يجب التركيز على الآخرة في التربية؟

لماذا يجب التركيز على الآخرة في التربية؟


لكل إنسان سير وتحوّل وتطوّر يحصل في نفسه. ولهذا السير الأنفسي بداية هي نقطة ظهور الإرادة والوعي فيه ونهاية حتمية لا مفر منها، وهي التي يُعبّر عنها بلقاء الله تعالى كما قال عز وجل: {يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى‏ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقيه[1] ‏وفي هذا السفر لا بد للإنسان من الاختيار بين اثنتين، فإمّا الجنّة والرضوان، وإمّا جهنّم والهجران. لأجل ذلك، تكون المهمّة الأساسية للتربية العمل على تعميق حالة الاختيار هذا، ودوره في تحديد المصير، وذلك عبر ترسيخ الرابطة السببية بين أفعالنا في الدنيا ونتائجها في الآخرة. 
وفي هذه القضية سيتّضح أنّه لا يوجد غاية أو هدف في هذه الحياة يمكن أن يضاهي المصير الأبديّ أو يكون بديلًا عنه، وكيف يكون كذلك، والأبديّ اللامتناهي لا يقارَن بالمحدود المقطوع.
يحكم العقل بأنّ أي نوع من المقارنة بين المطلق والمتناهي ليس سوى حماقة وسفاهة. فالمحدود الزائل هو كلا شيء أمام المطلق الدائم. ومن هنا كان المحور الأول للتربية العقلية عبارة عن ترسيخ حضور الجنة والنار كغايتين حتميتين لحياة الإنسان وسلوكه، مع ما يعنيه من مسؤوليات وروابط مباشرة.
ولا شك بأنّ لكل غاية طريقًا يوصل إليها؛ وقد تبيّن هنا الرشد من الغي بأوضح ما يكون، وعُرف صراط الهداية من طريق الغواية. فمعالم الصراط المستقيم بيّنة واضحة، وقد ألهم الله تعالى كل نفس هداها. ولأنّ العقل هو مصباح كشف الحقّ من الباطل والخير من الشر، فقد عُرّف في كلام رسول الله (صلى الله عليه وآله) بأنّه: "ما عُبد به الرحمن واكتُسب به الجنان".
إنّ الدور الأكبر للعقل هو الدلالة على الخير وتمييزه من الشر. وكل خير حقيقي هو ما يدلّ على الخير المطلق ويوصل إليه، والخير المطلق هو الجنّة. وكل شر واقعي هو ما ينتهي إلى الشرّ المطلق وينتهي عنده، وهو جهنّم. وقد قال أمير المؤمنين (عليه السلام): "مَا شَرٌّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الْجَنَّةُ، وَمَا خَيْرٌ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النَّارُ".[2]
المرض شر، لأنّه نقص في الصحّة والسلامة؛ لكن إن كان وسيلة أو سببًا للاقتراب من الجنة، فلن يكون شرًّا. وكثرة المال خير، لكن إن كانت سببًا للدنوّ من النار فهي ليست خيرًا. وإنّما تنتصر التربية وتنجح حين ترسخ هذه العقلانية في نفوس المتربّين، فتصبح منطلق قراراتهم ومواقفهم في هذه الحياة وقاعدتها الأساسية. وهذه هي ملّة أبينا إبراهيم (عليه السلام) التي قال الله عنها:{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ‏}.[3]
العاقل الحقيقي هو الذي يتّخذ قراراته على أساس النفع والضر الواقعيّين. والنفع الواقعيّ هو الذي ينتهي إلى الجنّة، التي هي محل النعيم واللذة والخير المطلق. أمّا الضرر الواقعيّ فهو الذي يؤدّي إلى النار والعذاب الأليم. وكل هذا قد ذُكرت تفاصيله وروابطه بأروع ما يكون داخل التراث الديني وبُنيت أركان بصيرته على يد مفكّري الإسلام الكبار.
كل فعل يمكن أن نقوم به له تفسير واضح على مستوى الأثر الأخرويّ. وما علينا إلا أن نتفقّه في الدين حتى نتعرّف إلى هذه المنظومة الرائعة.
إنّ التربية على الجنة والنار ـوهي التربية العقلية الحقيقيةـ ليست بالأمر الصعب، وإن كانت تتطلّب فنًّا. فبالإضافة إلى هذا التراث الدينيّ الغنيّ الواسع، نجد أنّ كل شيء في هذه الحياة بأبعادها الاجتماعية والمكانية والزمانية، يمكن أن يساهم في تفعيل تعقّلنا لقضية الآخرة والمعاد وآثارها الكبرى. 
وأوّل شيء ينبغي أن يستمد منه المربّون من هذا التراث هو كتاب الله المجيد، الذي ورد أنّ ثلثه يتناول المعاد والحياة الآخرة والمصير بصورة مباشرة؛ وما بقي منه يرتبط بهذه القضية أيضًا. فالقرآن أعظم وسيلة لذكر الآخرة واستحضارها في كل تفاصيل الحياة؛ وكلّما اشتد حضور القرآن في حياة المتربّي قوي حضور هذه القضية الهادية وبرزت آثارها في النفس والعمل.
كما إنّ تراثنا الدينيّ المنقول عن أهل بيت العصمة والطهارة، حافلٌ بذكر المعاد ووقائعه وما يجري فيه وما يؤدّي إليه، بحيث يمكن أن يصل المرء من خلال التبحّر في هذا التراث إلى حالة من اليقين  تكاد معها تلك الحقائق الكبرى تتجسّم أمامه. 
وفي هذه الحياة سيواجه أبناؤنا قضية مهمّة ترتبط بالآخرة وتحثّهم على التفكّر فيها؛ وهي قضية الموت التي عاجلًا أو آجلًا ستحضر بفقد عزيز أو قريب أو صديق. وقد شاهدنا الكثير من الشباب ينهضون من سُبات غفلتهم ويفيقون من سكرة طيشهم في مثل هذه الحالة.
هذا، ولا ننسى أنّ كل هذا التغيّر والتحوّل المستمر الذي يجري على كل ما في هذا العالم، لا يمكن فهمه وتفسيره واستيعاب مغزاه إلا على ضوء وجود غاية حكيمة تكون أعلى وأسمى من هذا الوجود المادّي المحدود.
وباختصار، إنّ لقضية المعاد حضورًا قويًّا واسعًا في هذه الحياة. ولدى المربّي الكثير ممّا يمكن أن يستعمله في هذه التربية العقلية. ومع ذلك يمكن أن يغفل المتربّي عن الآخرة أو يعرض عن ذكرها والاعتبار منها؛ خصوصًا إذا غلبت جهة المجهول المظلم عليها، وتصاحبت مع الشكوك والشبهات. فلماذا يجتنب الناس الحديث عن الموت وذكره ومناقشته؟ ذلك لأنهم لا يعلمون حقيقة ما ينتظرهم بعده. وإنّما يسيطر هذا الجهل حين يعجزون عن ربط حوادث الحياة المصيرية بعواقبها ونتائجها.
مرة أخرى ليست القضية في الفكر فقط
إنّ أحد أسباب الغفلة عن المعاد يرجع إلى تقديم الإنسان للّذائذ العاجلة على اللّذات الآجلة. وإنّما يحصل ذلك حين تغلب الشهوة ما لديه من عقل؛ وإنّما يسقط العقل أمام الشهوة بسبب تقييده ومحدوديته، ممّا يستوجب تقويته والعمل على تحصيل المزيد منه.
فالعقل فيض إلهي يمكن للإنسان أن يستزيد منه، مثلما أنّ أفعاله السيئة يمكن أن تُنقص منه.
لأجل ذلك يجب العمل على تنمية العقل وتقوية حضوره إلى الدرجة التي يستطيع معها أن يجسّم العواقب والنتائج  الحاصلة للأفعال الاختيارية، بحيث تقوى على الأثر النفسي للالتذاذ بالشر وتتغلّب عليه. فالفكرة الجميلة لوحدها لا يمكنها أن تقاوم اللذة الخيالية؛ بل تحتاج إلى عنصرٍ نفسيّ قويّ أيضًا يرتبط بهذا العالم الخياليّ الوهميّ، وهذا ما يمكن أن يحقّقه العقل في درجاته العليا. وذلك لأنّ لاختيار الجنة على النار، وسلوك صراط الخير، واجتناب طريق الشر، مستلزمات عملية وسلوكية كبيرة، تجعل الإنسان في مواجهة ضارية مع شهواته وأهوائه وسطوة أنانيته. ولا يقدر على الفوز في هذه المواجهة إلا من تسلّح بتلك المرتبة من العقل الفعّال. 
لكن ما يهوّن الخطب هو أن هذه المواجهة لا تتم دفعة واحدة، بل تحصل بصورة تدريجية من المرتبة الضعيفة إلى القوية؛ ومعها يكون للإنسان فرصة التدرّج في تقوية عقله ونفسه للمواجهة الشديدة. وهنا يأتي دور التربية أيضًا. فمن المهم أن نواكب أبناءنا منذ بداية هذه المواجهة بين العقل والشهوة والهوى، ونستفيد من هذا التدرّج لتدريب نفوسهم وترويضها. فإذا كان لتأجّج شهوة البطن أكبر الأثر في مجموعة كبيرة من الاختيارات السلبية في الحياة المقبلة، فلماذا لا نبدأ مع أبنائنا منذ الطفولة في تمرينهم على السيطرة على هذه الشهوة وضبطها. وكل نتيجة تتحقّق في الطفولة سيكون لها آثار عميقة وراسخة على مدى العمر.
فإذا كان لشهوة السلطة والرئاسة والجاه وحبّ البروز أثرًا كبيرًا في مجموعة من الاختيارات المهلكة والجهنمية في المستقبل، فلماذا لا نبدأ مع أبنائنا في سنٍّ مبكرة بعملية تكشف هُراء وسخافة هذه الأمور ونعمل بالتالي على إسقاط لذّاتها الوهمية.
أجل، ستكون التربية على موعدٍ مع مواجهة شرسة، ليس فقط مع شهوات النفس، بل مع محيطٍ كبير وشديد الإغراء والحضور والنفوذ، وهو هذه البيئة المادية المستفحلة والمتسلّلة إلى كل تفاصيل الحياة، بإعلامها وأدبياتها وفنونها ونمط عيشها؛ لكن الخطر عظيم ولا يجوز الاستسلام أبدًا.
يحتاج المربّون إلى الاطّلاع على التراث الأخلاقيّ المعنويّ الإسلاميّ الذي يتجسّد أيضًا في شخصيات عظيمة تصلح لتكون أفضل قدوة وأسوة لأبنائنا في مجال الآخرة والعقل والمصير.. ففي معركة المقارنة بين زعماء الجاه والشهوة والشهرة والمجد المادي وبين أولياء الروحانية والزهد والتواضع سيكون الفارق النوعيّ بارزًا جدًّا، ولن نحتاج إلى جهدٍ كبير لكي نظهره ونكشفه لأبنائنا. فلطالما اعتبرتُ من مصير أولئك المشاهير في السياسة والفن والعلوم والثروة، ووجدت في حياتهم وعاقبة أمرهم الكثير من الدروس الواعظة، فنفرت نفسي من طريقة عيشهم وأسلوب حياتهم وعاداتهم وأفكارهم. مثلما أنّني أُخذت بروعة الشخصيات الروحية العظيمة وحياتهم المفعمة بالحب والطمأنينة والكمال والحكمة والمجد والإنتاجية و.. فصارت حياتهم قدوة لي وأسوة.
 

 

_____________________
[1]. سورة الانشقاق، الآية 6.
[2]. الكافي، ج8، ص 24.
[3]. سورة البقرة، الآية 130.

 

المصدر: مركز باء للدراسات.

السيد عباس نورالدين

التعليقات (0)

اترك تعليق