مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

ما الذي نحتاج إليه لتربية أبنائنا؟

ما الذي نحتاج إليه لتربية أبنائنا؟

ما الذي نحتاج إليه لتربية أبنائنا؟

إنّ التربية عملية متّصلة ومترابطة ومهمّة دقيقة ومتشعّبة.. ولكي نؤدّي هذه المهمّة على أحسن وجه، نحتاج إلى هداية خاصّة من الله تعالى. ولأجل ذلك، فإنّ الله عزّ وجل يفيض على كلّ مربٍّ حريص كل ما يلزم لكي يقوم بدوره ويكون معذورًا عنده يوم الحساب.
إنّ التربية هي مزيج علم وعاطفة ونباهة وصبر ومصابرة. وحين يرتبط العلم بحقائق الحياة ومواضع الأشياء ومقاديرها وأحجامها ومآلها يصبح حكمة، ولا يمكن تطبيقها إلّا بامتلاك الصبر والرحمة. ولا بأس أن نتوقّف قليلًا عند أهم احتياجات التربية لكي نتعرّف إلى مصادرها وكيفيّة تحصيلها.


1.الحكمة
إنّ الأصول والمبادئ الحاكمة على العملية التربوية هي مبادئ الحكمة، والتي تمثّل مرجعية أساسية عند مواجهة أيّ قضيّة أو موضوع تربويّ. وهذا ما يميز المربي الذي يعتمد المنهاج الإسلامي عن ذاك الذي يعمل بحسب مصالحه وأهوائه. 
أجل، لا أحد يدّعي أنّ النتيجة ستكون مضمونة دومًا لكل حكيم. وإلّا لما ظهر أبناء وأولاد مثل قابيل بن آدم، وابن نوح النبي عليه السلام وغيره؛ وذلك لدخول عدّة عوامل يمكن أن تخرّب على العملية التربويّة، يرجع أكثرها إلى اختيار المتربّي نفسه. أمّا الظروف والبيئة التي لا تتناسب مع التربية السليمة، ووجود مشاركين للأهل في التربية من الذين لا ينسجمون معهم، أو ضغط العوامل الوراثية السلبية، فإنّ هذه ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في برامج التربية نفسها؛ حيث ترفدنا الحكمة بكل ما نحتاج إليه للتغلّب عليها وحتى الاستفادة منها لتحقيق الأهداف التربوية الحميدة. وفي كل الأحوال فالمطلوب أولًا الإعذار إلى الله تعالى بتحمّل المسؤولية على أتم وجه. ولا يمكننا أن نؤدّي ما علينا في هذا المجال إلا من خلال الاعتصام بحبل الحكمة.
الحكمة هي معرفة قواعد التربية التي تتناسب مع الأوضاع والإمكانات والظروف. ولا يؤتى الحكمة إلا من عرف ماهية المخلوق أو الكائن الذي يتولّى تربيته. ولا تُعرف ماهية أي مخلوق إلا في ظلّ معرفة ارتباطه بالله تعالى وانتسابه إليه. لهذا، فإنّنا لا نلجأ إلى أي شخص لمجرّد أنّه حائز على شهادات عليا أو لأنّه مشهور على مواقع التواصل الاجتماعيّ، بل نتأكّد قبل أي شيء من كونه حكيمًا يرتوي من مصادر الحكمة الواقعية.
الحكمة هي سبيل النجاة، وهي التي تدل على كل خير وصلاح. والمربّي الواقعيّ هو الذي يؤمن بضرورة تطبيق قواعد الحكمة دائمًا؛ فيجتنب إعمال الهوى وسلطان الغضب وكل الحسابات الدنيوية والاعتبارية. ولأنّ نيل الحكمة ليس بالأمر البسيط، فإنّنا نلجأ إلى الحكماء حين نجهل أو نحتار. ونراجع آثارهم الفكرية ومواعظهم ونصائحهم. وباختصار، نبقى على اتّصال دائم بمصادر الحكمة طالما أنّنا نربّي ونتعامل مع قضية حساسة كالتربية.


2.الرّحمة والمحبة
الرحمة هي هداية الموجود الناقص إلى كماله. والمحبة والعطف واللطف من تجلياتها. ولأنّ الإنسان بالمحبة قد خُلق، فبالمحبة يُقاد نحو كماله. ولهذا قيل أنّه لو لم يكن الشيء محبوبًا عند الله لما خلقه الله. وقد أودع الله تعالى في الأمّهات والآباء مقدارًا عظيمًا من العطف والحنان تجاه الأبناء، نظرًا لضرورة هذه المشاعر ودورها المحوريّ في التربية.. فما لم تمتزج التربية بالرحمة والمودة، فمن الصعب، بل من المستحيل أن تؤتي ثمارها الطيبة. وهذا قانون عام يرتبط بالتربية في كل مراحلها وحالاتها، حتى لو كانت تربية شعب أو أمّة بأسرها. ولهذا أوصى أمير المؤمنين(ع) مالكًا الأشتر حين ولّاه مصرًا بضرورة التعامل مع شعبها انطلاقًا من الرحمة، فقال: "وأشعر قلبك الرحمة للرعيّة والمحبّة لهم". 
وحين تخلو التربية من هذا العنصر، فإنّ ما سيتحقق هو عكس الغرض المطلوب منها. فيتحوّل التنظيم إلى فوضى، والصدق إلى كذب، والالتزام إلى خيانة؛ وهكذا، تنقلب كل القيم الجميلة في نفس المتربي إلى أضدادها. فالنفوس البشرية مجبولة على الجمال، وهي لا ترى الحق والقيمة إلا في قالب الحُسن والجمال.
إذا كنّا نريد لأبنائنا أن يلتزموا الصلاة والعبادة فينبغي أن تكون الدعوة إليها مشفوعة بالرحمة ومقرونة بالنموذج الجميل. وحين لا يرى أبناؤنا في صلاتنا أي أثر طيب في حياتنا وسلوكنا، فكيف يمكن أن يحبوا الصلاة ويتوجّهوا إليها بمواعظنا وأوامرنا؟
ولا يعني هذا أنّ علينا أن نلتزم دومًا بالجانب اللطيف والعاطفيّ في كل طلب أو إرشاد. فقد نضطر أحيانا إلى المعاقبة أو يستلزم الموقف بعض الشدّة والزجر؛ إلا أنّ ذلك كلّه ينبغي أن يكون تحت مظلة الرحمة الواسعة، ونابعًا من الحرص والمحبة.
إنّ عقابنا إنّما يكون مفيدًا وتربويًّا حين يرى أبناؤنا أنّه صادرٌ من قلبٍ رؤوف ومحب. لذلك، فإنّ الأصل العام في التربية هو تثبيت هذا النوع من العلاقة وجعلها مهيمنة على كل تصرّفاتنا وتعاملاتنا مع أبنائنا. وكل عقاب أو تأديب يصدر منّا ولا يراه الأبناء منطلقًا من هذا الأصل، فلنعلم أنّه لن يؤدّي إلى النتيجة المطلوبة.
حين نعاقب أو نضبط أو ننظّم، علينا أن نتأكّد من فهم أبنائنا وإدراكهم التام بأنّ هذه الأمور ليست ناشئة من حالة غضب أو انفعال. ويجب أن نحرص على أن يلتفتوا إلى أنّ ما نقوم به هو لمصلحتهم فقط، وأنّنا بذلك ننشد صلاحهم وخيرهم وسعادتهم.
ولو اقتضى هذا الأمر الكثير من الجهد والعناء، فليكن. فهو علّة نجاح التربية. ولأجل ذلك نجد الكثير من جهود المعلّمين والمربّين في المدارس تذهب سدًى حين لا يرى التلامذة في تصرّفاتهم وتعاطيهم إلا الحدّة والشدّة. 
إنّ الكثير من المعلّمين لا يبذلون أدنى جهد لأجل تثبيت هذا الأصل التربويّ الأساسيّ، فيتعاملون مع قضية الانضباط والالتزام بالقوانين كقضية حاكمة على كل القضايا، ولا يكون همّهم سوى تطبيق القانون وفرض الاحترام وأداء الفروض والواجبات التعلّمية؛ في حين أنّ كل القوانين والأنظمة المدرسية، وحتى التعليم نفسه، إنّما كان وشُرّع لأجل تحقيق أهداف التربية التي تتمثّل في إيصال الطالب إلى كماله.
ما الذي يعجز المعلّم عن أن يثبت لتلامذته أنّه لا يريد سوى الكمال والتقدّم والتعالي لهم، فهل هو شيء غير ضيق القلب وصغره؟ ولماذا يعجز أبناؤنا عن ملاحظة الرحمة في بعض مواقفنا تجاههم؟ هل هو سوء الاستعداد الموجود فيهم؟
علينا أن نحرص حرصًا شديدًا على التأكّد من أنّ أبناءنا مؤمنون وملتفتون إلى أنّ ما نقوم به نابعٌ من حبّنا لهم، فيما لو أردنا لمواقفنا التربويّة أن تنجح وتثمر. لهذا، فمثلما أنّنا نعاقب ونؤدّب، ينبغي أن نثيب ونلاطف؛ بل يجب أن يغلب الثواب واللطف على مواقفنا وسلوكنا، مهما كانت شخصية هذا الطفل الذي نتعاهد تربيته معوجّة ومنحرفة.
وفي هذا المجال، يتجلّى الموقع الحسّاس للأم التي جعلها الله تعالى أبرز مظهر لرحمته في هذا العالم. فالأم بالحنان تربّي، وبالمودّة وقوّة العطف تؤثّر. ولولا هذا الملجأ، لانهارت أعمدة الأُسر ولتبدّل البشر إلى غير البشر.
شاء الله أن يجعلنا رحماء؛ لأنّنا بالرحمة نتعاضد ونتكافل ونتعاون. وشاء الله أن يرينا رحمته قبل أن ننطق بكلمة أو نعرف شيئًا، فأودعنا أرحام الأمهات. ففي رحم الرحمة تشكّلنا ومنه ينبغي أن ننطلق في آفاق الحياة.


3.الانطلاق من استعدادات الأبناء ومواهبهم
  لمّا كانت التربية عبارة عن تفعيل الاستعدادات الكامنة وتنمية المواهب المكتسبة، فإنّنا كمربين بأمسّ الحاجة لمعرفة استعدادات أبنائنا في المراحل العمرية المبكرة. ولأنّ الأطفال يعجزون عن التعبير المباشر عن رغباتهم وتوجّهاتهم، فعلينا أن نكون شديدي الانتباه والملاحظة، حتّى لا نقتل أي استعداد أو نخنقه في مهده.
تكون الاستعدادات والطاقات الكامنة في البداية حسّاسة جدًّا، بحيث إنّ أي موقف مهما كان صغيرًا قد يكون عاملًا حاسمًا في بعثها وتنميتها أو وأدها والقضاء عليها.
إنّ هذه الاستعدادات الكامنة هي بمنزلة الخيوط التي ينبغي البدء منها في عملية التربية؛ إنّها وسيلة اتّصالنا بأبنائنا؛ فالحذر الحذر من قطع هذه الخيوط، لأنّ عواقب ذلك ستكون أسوأ بكثير ممّا نتصوّر. إنّها تلك النداءات الخفية التي يطلقها الأطفال لأجل أن نأخذ بأيديهم من ظلمات لا يعلمها إلا الله تعالى. وحين نعجز عن الاستجابة لهذه النداءات، فإنّنا نكون كمن ترك طفلًا صغيرًا في صحراءٍ مظلمة وسط بحرٍ كبيرٍ من الذئاب. غاية الأمر أنّ هذه الذئاب حين تنهش بروح الطفل لا تترك أثرًا مباشرًا ولا تُسمع معها صرخات النجدة.
لأجل ذلك يجب أن نعمّق فهمنا ومعرفتنا بالمواهب والطاقات البشرية، التي قد يُطلق عليها عنوان الذكاء. ويُقال بأنّ لكلّ طفلٍ نوعًا محدّدًا من الذكاء (بالحد الأدنى) وهو ينعكس ـعلى مدى الأيامـ في اهتمامٍ خاصّ في واحدٍ من مظاهر الحياة الكثيرة، كاللغة والعاطفة والحياة والمنطق والفطرة والنشاط الحسّي وغيره. ولهذا ينصح المربّون بالعمل على اكتشاف الذكاء الخاصّ، الذي يميز كل طفل، للانطلاق منه في عملية التواصل الفعّال؛ فهو اللغة الواقعية التي يفهمها الأطفال أكثر من أي شيء، ويمكنهم من خلالها أن يعبّروا بأفضل طريقة عن مكنوناتهم وحاجاتهم المختلفة.
عند تشخيص نوع الذكاء والاستعداد يجب إعطاء الأمر حقّه من الوقت
 الأطفال ليسوا سواسية من ناحية وقت تفتّح الطاقات وبروز الاستعدادات، وإن اشتركوا في معظم الحاجات الأساسيّة. ففي بعض الحالات قد يتطلّب اكتشاف نوع الذكاء الذي يميز طفلنا، الصبر والتأمّل والملاحظة لأكثر من أربع سنوات. في حين أنّ بعض الأطفال، قد تظهر ملامح ذكائهم وعلاماته منذ الأشهر الأولى.
إذا استثنينا حالات النقص البنيويّ ـكإصابة الطفل بخللٍ عضويّ يستلزم تدخل "التربية المختصّة"ـ فإنّ روح كل طفل ونفسه تحتوي على جميع الطاقات والإمكانات التي تكون كامنة في المراحل العمرية الأولى وهي تنتظر من يكتشفها ويساعدها.. إلّا أنّ تفتّح هذه الطاقة أو ذاك الاستعداد قد يتأثّر أو يخضع لظروف خارجة عن الإرادة، كالوراثة والبيئة الأسرية والمحيط الاجتماعي.. ولأجل ذلك ينبغي أن نقدّر تأثير هذه العوامل على صعيد بروز نوع الذكاء، حتى لا نتعجّل الحكم على هذا الطفل أو نعتبره ناقص الاستعداد؛ وقد يسوء الأمر كثيرًا حين نلجأ إلى بعض المعايير المرتبطة باكتشاف مستوى الذكاء، والتي أثبتت التجارب التاريخية الطويلة أنها كانت سببًا للكثير من الانحرافات السلوكية والتعامل الظالم مع استعدادات الأطفال.
إنّ صبرنا على أبنائنا قد يتطلّب منّا انتظار بروز هذا الاستعداد أو ظهور هذا الذكاء لسنوات، تتجاوز أحيانًا ما يمكن أن تتحمّله المدرسة؛ ممّا يتطلب منّا التعامل بحكمة مع الآثار السلبية للتصنيفات التي تعتمدها هذه المؤسّسات التعليمية.
 
4.معرفة كيفية مواجهة عوائق التربية
إنّنا نعيش في عالمٍ، أقل ما يمكن أن يُقال عنه أنّه أوجد نظامًا مخالفًا للفطرة الإلهية المودعة في الإنسان. هذه الفطرة التي تكون مسؤولة عن كل خير وجمال وكمال فيه.
إنّ عالم اليوم مليء بالعوامل التي تعمل على تثبيط كل الميول الطيبة والدوافع الإيجابية التي تسمو بالإنسان إلى أعلى مراتب الكمال الروحيّ والمعنويّ. 
في عالمنا هذا، يتم التشجيع على القيم القبيحة والطبائع المنحطّة والسلوكيات المنحرفة؛ ويتم اعتبار الحيرة والعبثية واللاأدرية أمورًا حسنة. وفي هذا العالم يتم تسليط الخيال على العقل وتضمحل الحدود الفاصلة بين الوهم والحقيقة.
وتخلو البيئات المدرسية من التوجيه الصحيح نحو الأهداف السامية وتفتقد مناهجها للرؤية السليمة والعقلانية للحياة والحاجات الواقعية للمجتمعات والإنسانية. كما تغزو الجريمة والجنس والمخدرات والعصابات القرى النائية، كما غزت الأحياء الفقيرة في المدن. ويواجه أطفالنا الكثير من مشاهد العنف والإباحية والشذوذ قبل امتلاك القدرة الذهنية المناسبة لفهمها ومعرفة حقيقتها.
كما أنّ أبناءنا سيواجهون في المستقبل القريب بيئات لا تحترم إبداعهم ولا تتحمّل أخطاءهم، ممّا يدفعهم للهجرة والفرار.
وهكذا قد يجد أبناؤنا أنفسهم في بيئة لا يمتلكون إلا القليل من المعارف والمهارات للتعامل معها، وهم بأمسّ الحاجة إلى النصح والإرشاد والمساعدة. 
لأجل ذلك، نحتاج إلى معرفة عمق هذه الموانع بمعرفة مناشئها ودلالاتها وآثارها وعدم الاكتفاء بالتعامل الشرعيّ بأسلوب التحريم والمنع.


5.أن نعرف أنفسنا ونقف عند حدّها
يجب أولًا أن نعترف بخطورة المهمّة التي نتولّاها. ويجب أن نعرف الحجم الواقعيّ لقدراتنا وإمكاناتنا في هذا المجال. أبناؤنا أذكى ممّا نتصوّر، وهم قادرون على ملاحظة ما نخفيه في أنفسنا، وإن كان كلامنا خلاف ذلك. فأسوأ ما نقدّمه لهم هو الادّعاء، الذي هو أحد وجوه النفاق. ولا شيء يفقد التربية أثرها مثل الادّعاء.
يجب أن نعترف بأنّ ما ندعو إليه أبناءنا هو ما نصبو إليه وننشده أيضًا. فنحن جميعًا ركّاب سفينة واحدة تسير بنا نحو هدفٍ عظيم؛ وإنّنا أفراد أسرة نسعى لنكون فريقًا واحدًا يؤدّي كلّ واحدٍ فيه دوره المكلَّف به. 
فحين يقوم الأب بدور القائد أو تقوم الأم بدور المدير، فليس ذلك إلا من جهة تحمّل المسؤولية أمام الله تعالى. ولأجل ذلك، فإنّ المرجعية الحقيقية للإدارة والقيادة والتدبير هي تلك المنظومة القيمية الإسلامية، التي يجب أن تكون حاكمة على كلّ التصرّفات والعلاقات داخل الأسرة.
التواضع أمام الحقيقة هو أفضل ما نورثه لأبنائنا. والانصياع للحقّ مهما كان مرًّا، والانقياد له مهما كان ثقيلًا، هو أعظم آداب التربية وفضائلها.

 
6.الإيمان بأصالة الطهارة والفطرة الإلهية
كل إنسان يولد على الفطرة. وهذا يعني أنّ الأصل في كل طفل هو الخير والحق والجمال. وإنّ الطباع مهما كانت سلبية وقبيحة لا يمكن أن تقضي على هذه الفطرة، لأنّها ممتزجة بخلقة الإنسان. وعلى المربّين أن يعملوا على فطر الميول الطيبة من بين رُكام العوامل الوراثية المختلفة؛ مثلما أنّهم سيعملون على مواجهة العوامل السلبية للبيئة والمدرسة والمجتمع.
إنّ الإيمان بأنّ أطفالنا مفطورون على الخير والحسن والكمال هو العنصر الأساسيّ في التربية. فنحن لا نقوم بزراعة الخير، بل نحرثه ونحصده لأنّه كامنٌ في النفس وهي مجبولة عليه.
أجل يكون الإنسان في البداية كصفحة بيضاء على صعيد المعارف والمعلومات، لكنّه ليس كذلك على صعيد الميول والدوافع. ولأجل ذلك يتجلّى العامل الأكبر للتربية في مقاومة العوامل التي تؤدي إلى حجب الفطرة.
إنّ إيماننا بطهارة أبنائنا ونقائهم يخفض من تكبّرنا واستعلائنا. فمثلما نقوم بتعليمهم وتربيتهم، نحن نتعلّم منهم أيضًا، لأنّهم أقرب إلى صفاء الفطرة من معظمنا.
إنّ الأخطاء الكثيرة التي تصدر من أبنائنا ـوالتي يكون العديد منها ناشئًا من دوافع طيبة وبريئةـ لا ينبغي أن تحجب أنظارنا عن الجمال العظيم المودع في الطفولة وفي الناشئة وحتى الشباب. وحين يصل أبناؤنا إلى سنّ التكليف وتحمّل المسؤولية، لا ينبغي أن نحصر النظر إليهم في إطار حملهم على أداء التكليف والمسؤولية. فما زال الكثير من ذلك الجمال الطفولي وبراءته موجودًا.


7.الهدفيّة والمسارعة
إنّ حقيقة التربية ترجع إلى الله تعالى. لأنّ اللهُ هو ربّ كلّ شيء بعد خلقه. وما من موجود إلا ويخضع لهذه التربية الإلهية. أمّا مهمّة المربّي البشريّ وقيمته فتكمن في إظهار هذه الحقيقة للمتربّي. وذلك يكون بأن يرى أبناؤنا صفات الله تعالى فينا.
 في الواقع ما من مخلوق إلا والله تعالى ماسك زمامه ومصيره بيده. قال الله في كتابه العزيز: {ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى‏ صِراطٍ مُسْتَقيمٍ[1] والدّابة هي كل موجود يتحرّك ويدبّ على اثنين أو أربع. فما من كائن في عالم الخلقة إلّا ولله عزّ وجل زمام تربيته، وهو يتحرّك قهرًا على صراط المشيئة الإلهيّة المستقيم، لأنّ الربّ المتعال على صراط مستقيم: {إنّ ربي على صراط مستقيم}. والصراط المستقيم هو أقصر طريق بين المبدأ والنهاية، أي الغاية التي يمكن أن يصل إليها المخلوق بحسب مقوّمات خلقته. وبناءً عليه، فالكل يسلكون طريقًا سريعًا إلى غاياتهم. 
صراط الرّب سبحانه وتعالى، يكون بالنسبة لبعض الموجودات صراطين: صراطٌ إلى الجنّة والسعادة الأبديّة، وصراطٌ إلى جهنّم والتعاسة الأبدية؛ ولكن كلًّا منهما يمثّل الصراط المستقيم الذي هو أسرع طريق إلى الغاية.. لذلك، فإنّنا حين نطلب من الله تعالى أن {اهدنا الصراط المستقيم}، نُتبعه قائلين: {صراط الذين أنعمت عليهم}، حتى لا يسرع بنا في المغضوب عليهم أو الضالين. هذا هو المنهج التربويّ الإلهيّ: {كلًّا نمد هؤلاء وهؤلاء}؛ فمتى ما قصد الإنسان شيئًا وطلبه بالحقيقة، سيرى أنّ الله تعالى يسرّع له خطواته فيه، وييسّر له سبل الوصول إليه.
إنّ حقيقة التربية وواقعها، الذي لا يشاهده إلا أهل البصيرة، هو أنّ الله تعالى هو الذي يأخذ بنواصي الموجودات إلى غاياتها بأسرع الطرق وأيسر السبل، كما قال رسول الله(ص): "كلٌّ مُيسّر لما خُلق له".[2]

ولكن كيف يكون للإنسان الخيرة والإرادة؟ وما هو دور المربّي في إعانة المتربّي على اختيار صراط الذين أنعم الله عليهم؟ 
المربّي الناجح هو الذي يأخذ بيد المتربّي على الصّراط المستقيم، وفي الحقيقة فإنّه يطلب بذلك أن يكون مظهر الإحسان الإلهيّ؛ فيستمد منه تعالى ويعلم أنّه إن كان له قيمة عند الله وكرامة، فذلك بأن يكون مظهر هذه التربية الرحيمة. وإنّما يكون كذلك حين يدلّ على أسرع السبل للوصول إلى الغاية المنشودة.
 فالسرعة أو المسارعة إلى الخيرات هي أفضل تعبير عن صراط الذين أنعم الله عليهم. وهذه هي مهمة التربية الأولى أيضًا.
 

 

____________________
[1]. سورة هود، الآية 56.
[2]. بحار الأنوار، ج4، ص 282.
 

 

المصدر: مركز باء للدراسات.

السيد عبّاس نورالدين

التعليقات (0)

اترك تعليق