كيف نصون عقول أبنائنا؟ أفضل أساليب تقوية العقل
كيف نصون عقول أبنائنا؟
أفضل أساليب تقوية العقل
منذ اللحظة الأولى التي التقت عيونكما، وأنت تحلم بأن يصبح ابنك عالمًا عقليًّا مضاهيًا للعالم العيني بكماله وتمامه. أجل، فبإمكان أي إنسان أن يبلغ في العقل مرتبةً يدرك معها جميع حقائق العالم، بحيث تكون السماوات والأرض وما فيهنّ عالمًا كيانيًّا كبيرًا، ويكون ولدك عالمًا عقليًّا صغيرًا ينطوي فيه العالم الأكبر. ولكن تسأل نفسك: ما هو المنهج أو الأسلوب التربويّ الذي يعينني على وضع ابني على سكّة الوصول إلى هذا الهدف العظيم؟
العقل فيضٌ إلهيّ رحمانيّ، وفيض الله تعالى لا حدّ له، لأنّه تعالى الكريم المطلق الباسط يديه بالعطية. وكل محدودية فينا فهي ترجع إلينا ونحن سببها؛ فنحن الذين نضيق أوعيتنا، بدل أن تتّسع. ولكن ما الذي يحصل حتى تضيق وتتقيّد؟ وهل هناك طرق تجعلنا لائقين ومؤهّلين لاستقبال المطلق من فيض العقل؟
يوجد سرّ صغير هنا، وهو أنّ أي درجة من العقل قد تستقبلها النفس قابلة للاتّساع والزيادة بشرط السماح لها بالفاعلية والنشاط بحسب دورها الذي خُلقت لأجله. فإن لم نفعل ذلك، نخسر هذه الدرجة ونُحرم منها. ففي كلام أمير المؤمنين (عليه السلام): "مَا مَزَحَ امْرُؤٌ مَزْحَةً إِلَّا مَجَّ مِنْ عَقْلِهِ مَجَّة".[1] إشارة إلى العلاقة بين الحياة العبثية أو السلوك الفارغ وبين خفّة العقل. والمزاح هنا هو الخفّة والفكاهة أو الكلام الذي لا طائل وراءه. أمّا الدعابة واللطافة فهي ما يدخل السرور في القلوب ويبعث على الضحك، لما فيه من حكمة.
إنّ أجمل ما نورثه أبناءنا هو إعانتهم على سلوك طريق التكامل العقليّ وطي مراحله؛ ويبدأ ذلك قبل أي شيء بترسيخ قيمة العقل واحترام دوره في حياتهم وفي تصرّفاتهم. ولكي يحترموا عقولهم يجب علينا كمربّين أن نحترمها ونقدّرها أوّلًا. ولأنّ الغالب على الأطفال الطباع والشهوات والأهواء، فمن الطبيعي أن يصدر منهم في هذه المرحلة العمرية الكثير ممّا يمكن أن يكون مخالفًا للعقل؛ فنجدهم منساقين وراء أمور تضرّهم، ولا يلتزمون بأبسط ما ينفعهم. وقد نتشدّد معهم في مثل هذه المواقف إلى الدرجة التي نوحي لهم بأنّهم لا يمتلكون من العقل شيئًا. هذا في حين إذا أردنا تقوية عقولهم يجب أن نشعرهم بأهمية ما لديهم من عقل عبر الإشادة بتلك المواقف التي تنسجم معه، وإن كانت قليلة أو نادرة.
إنّ أطفالنا بأمسّ الحاجة إلى اكتشاف هذه القوّة العظيمة التي وهبها الله لهم، خصوصًا في الأوقات التي تكون تلك العوامل السلبية غالبة على شخصيّتهم ونفوسهم. فإن لم نثق بقدرة الطفل على التفكير وتمييز الحقّ من الباطل والحسن من القبح، فقد يظن أنّه عاجزٌ ولا يمتلك من العقل شيئًا. وشيئًا فشيئًا قد يصبح هذا الظن قناعة راسخة وإن لم يعترف بذلك.
فما أكثر الشباب الذين لا يستعملون هذه الطاقة الإلهية لأنّهم لا يثقون بها! وما أكثر هذه الحالات التي نشأت من تلك المواقف الهدامة للأهل والمربّين!
فالخطوة الأولى في طريق التربية العقلية تتطلّب منّا الإشادة المستمرة بالعقل وتمجيده بما هو عقل؛ بمعزل عن مقدار ما يتمتّع به ابننا منه. وبهذه الطريقة قد نتمكّن من ترسيخ أهمية العقل ودوره المحوريّ والمصيريّ في الحياة وجميع شؤونها وتفاصيلها.
أمّا الخطوة الثانية، فتتطلّب ترسيخ الاعتقاد بأنّ العقل فيضٌ إلهيّ، يمكن لنا أن نستدرّه ونستفيضه بواسطة الأفعال الاختيارية، فنحن الذين نحدّد مستوى حياتنا وطاقاتنا العقلية.
ليس العقل في القدرة على حلّ التمارين الحسابية والهندسية، وإن كان ذلك يساعد؛ وليس العقل في المكر والخداع والاحتيال؛ ولا حتى في الذكاء الذي ينشأ من شدّة توجّه النفس واهتمامها؛ بل العقل عبارة عن قدرة التمييز بين النقص والكمال في أي شيء أو موضوع؛ وهذا ما يرتبط باكتشاف كمال الشيء أولًا، حيث يتبعه اكتشاف النقص بحسبه.
إن كان لديك شيء يمكن أن يكتمل، كرابطة بين شخصين أو مشروع معيّن أو علم بشيء أو موجود ينمو، فالعقل مصباحٌ سيضيء عليه، ليعرّفك على ما نقص منه. وكلّما زادت قوّة ضياء المصباح، تمكّنت معها من تحديد ما خفي من نقص بعد أن اكتملت الصورة في ذهنك.
إن كنت تعلم إلى أين يمكن أن تصل الأخوّة أو العلاقة الزوجية أو هذا الجسم أو تلك الروح، فستعرف ما ينقصها إن كانت ناقصة.
ولأنّ حُسن أي شيء وجماله يكون في كماله وتمامه، ولأنّ قبح أي شيء يكون من جهة النقص فيه، فإنّ تمييز الحُسن من القبح في أي موضوع سيتبع إدراكنا لكماله. ومن لم يعرف كمال الشيء لا يمكن أن يدرك حسنه أو قبحه أو يميّز بينهما.
فهل تعلم ما هو كمال الحياة الاقتصادية أو المعيشية، حتى يكون لك قدرة تحديد ما هو مضر وخاسر فيها؟ وهل تعلم ما هو كمال التجارة واستعمال المال، حتى تدرك قبح الربا وشناعته؟
فإن كنّا نريد للعقل أن ينمو ويزدهر ويضيء دربنا في أي قضية أو موقف ويدلّنا على الحكمة فيها، فلا مناص من معرفة كمال موضوعها.
فالعقل يبدأ من إدراك كمال الأشياء. وكمال العالم وكائناته هو الله سبحانه وتعالى، لأنّه المقصد الأعلى لكل سائر متحرّك. فمن لم يعرف الله عزّ وجل ولم يتعرّف إلى معنى الألوهية وحقيقتها وموقعها في عالم الوجود ونسبة الأشياء إليها، لا يمكن أن يدرك الكمال الواقعيّ لهذه الأشياء؛ فبمعرفة الله المتعال تتشعشع أنوار العقل في النفس وتشرق في القلب، ويصبح العارف قادرًا على معرفة النقص في أي شيء. ومن هنا نفهم لماذا فرح رسول الله (صلى الله عليه وآله) بقول لبيد الشاعر: "ألا كل ما خلا الله باطل"، فقال عليه السلام هذا أصدق ما قالته العرب.
إنّ المسافة التي تفصل أي ناقص في هذا العالم عن كماله النهائيّ قد تكون أبعد بكثير من تصوّراتنا ومفاهيمنا؛ لكن هذا الكمال النهائيّ هو غاية الغايات، وبواسطة التأمّل فيه يمكن لنا أن نحدّد النقص الذي يفصله عنه.
ولأجل تسهيل هذه المهمّة على الإنسان، جعل الله عوالم الكائنات درجات ومراتب. فيُقال أنّ كمال الجماد هو النبات، وكمال النبات هو الحيوان، والكامل في الحيوان هو الإنسان، وفي الإنسان يوجد مراتب من الكمال تنتهي عند الإنسان الكامل.
ومن رحمة الله بعباده إظهار بعض الكاملين من أوليائه للناس في هذه الأرض (كالأنبياء والرسل)، وفتح أبواب العلم لمعرفتهم. والإنسان الكامل والوليّ الحقيقيّ هو الذي تتجلّى فيه صفات الله وأسماؤه؛ لهذا الأمر بالتحديد كان هذا الإنسان غاية سير وتكامل كل ما عداه من خلق الله.
ومن أجمل ما قرأت في التعاليم التربوية لأهل بيت النبوة (عليهم السلام) ما أوصى به الإمام الصادق بشأن تربية الفتيات حيث قال: "أَلْهِمُوهُنَّ حُبَّ عَلِيٍّ(ع) وَذَرُوهُنَّ بُلْهًا".[2] وقد فسّر الإمام معنى البله في كلام آخر بقوله: "الْعَاقِلُ فِي الْخَيْرِ الْغَافِلُ عَنِ الشَّر".[3] وللأسف يُساء استعمال هذه المفردة اليوم فتُطلق على الحمقى والمجانين.
إنّ الارتباط الحبّي القلبي بالإنسان الكامل ـالذي تكون شخصية الإمام علي أسهل وسيلة لمعرفته ومعرفة الكمال الذي يمثّلهـ يجعل القلب منجذبًا إلى الخير والكمال والحق والحُسن والجمال، بعد معرفة المصداق والأنموذج الجامع لهذه الأبعاد والكمالات في أعلى درجاتها. ففي هذه الرابطة يوجد معرفة، وبواسطتها يتجلّى الكمال الأتم ويُعرف مطلق النقص؛ وفي هذه الرابطة يوجد حبّ، وبواسطته يحصل الانجذاب والتحرّك والسير نحوه. وبعدها فلا يهم ما يفقده الإنسان، لأنّه لن يكون قد فقد شيئًا مذكورًا.
الفطرة هي المحرّك الدافع لمركبة النفس التي يُفترض أن تسلك طريق الكمال، والعقل هو المصباح الذي يكشف لها مصاديق الكمال ويميّزها عن مصاديق النقص؛ والإرادة النابعة من النفس هي التي تحدّد وجهة هذه المركبة وتسوقها؛ فإمّا أن تختار الكمال وتسلك طريقه، وإمّا أن تخالف العقل فتسقط في مهاوي النقص والحرمان.
الإنسان الكامل هو كمال كلّ شيء وغايته، لأنّه المظهر الأتم للكمال المطلق. فما من درجة من الكمال يمكن لنا أن ندركها أو نتصوّرها إلا وهي موجودة ومتحقّقة فيه.
وقد لا يصل المحب العاشق للكامل إلى هذه القدرة العقلية دفعةً واحدة، لكن لا شك بأنّ هذا الحب سيهديه إليها في نهاية المطاف. وإذا كانت أكبر المخاطر التي تسعى التربية لتجنّبها هي التي تظهر في معصية الله تعالى، فإنّ حب أولياء الله يجعل بيننا وبين المعاصي بونًا شاسعًا، لأنّ المعصية ليست سوى نوع من القطيعة بيننا وبين من نحب.
نحن نريد لأبنائنا أن ينشأوا على حبّ الكمال والسعي للاتّصاف بالفضائل المختلفة كالعلم والوفاء والحياء والإيمان والصدق؛ ولا شيء يمكن أن يحقّق هذا الهدف التربويّ مثل تعلّق قلوبهم بمن يمثل أعلى درجات هذه الفضائل. ففي ظل هذا الحب نعبر مرحلة التمييز بين الحسن والقبح والكمال والنقص بسرعة، وننتقل إلى مرحلة السير الحثيث نحو كل ما يمثل الكمال والجمال.
نريد لأبنائنا أن لا يُقبلوا على التفاهات المنتشرة هذه الأيام، ونسأل الله من أعماق قلوبنا أن لا يكون للمعاصي والقبائح نفوذًا إلى قلوبهم، ونخشى عليهم أن ينجذبوا إلى مادية الغرب المنحطّة وعبثيته البشعة، ونحب أن يكونوا قادة وقدوة في كلّ أمر جميل، من بناء الجسد وقوّة الذكاء ومهارة الحواس وحسن التدبير وطيب المعشر؛ وهذا كلّه ممكن في ظلّ اتّصال القلب برابطة الحب والعشق للكامل.
إن كنت تخشى على ولدك أن يسقط في مستنقع المخدّرات، وتعلم أنّ بداية ذلك تكمن في غلبة الشهوة وضعف النفس؛ فلا شيء يصون أبناءنا من كل أنواع الموبقات والأجواء الفاسدة مثل معرفتهم بالنموذج الأعلى للتقوى وقوّة النفس والقدرة والشجاعة والورع.
إنّ هذه المعرفة هي التي تمدّنا بالعقل الذي يضيء على تفاصيل الحياة وأنواع المواقف فيكشف العيوب والنقائص والقبائحوالمخاطر والمهالك ويصوننا من الانجراف نحوها.
______________________
[1]. نهج البلاغة، ص 555.
[2]. وسائل الشيعة، ج20، ص 177.
[3]. وسائل الشيعة، ج10، ص 426.
اترك تعليق