مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كيف نفعّل الذكاء اللغويّ عند أطفالنا؟

كيف نفعّل الذكاء اللغويّ عند أطفالنا؟

كيف نفعّل الذكاء اللغويّ عند أطفالنا؟
الآثار العظيمة للتربية البيانية


يولد الإنسان ويولد معه الاستعداد التام لتعلّم أي لغة وإتقانها؛ لكن، قد يتفاوت الناس فيما بينهم من ناحية سرعة اكتساب اللغة وقوّة البيان والتعبير؛ وهنا يأتي دور التربية اللغويّة.
لقد أشرنا إلى أنّ للّغة العربية نظامها الخاص الذي ينسجم مع عملية التعقّل بصورة ملفتة، وأنّ لها منطقها المميّز من حيث اكتساب المعاني والتعبير عنها. ممّا يعني شيئًا واحدًا وهو أنّنا إن عملنا وفق هذا النظام اللغويّ ومنطقه الفريد، فسوف نتمكّن من تسريع عملية بناء الفصاحة والبلاغة في شخصية أبنائنا.
الفصاحة تعني وضع الكلمة المناسبة في المكان المناسب في الجملة؛ وكلّما ازداد مخزون المفردات كثرةً وسِعةً، وأدرك المتكلّم الفوارق الدقيقة بينها، وخصوصًا فيما يتعلّق بالمفردات المتقاربة التي يعبَّر عنها بالمترادفات، واقترب من معدن الحكمة فعلم ما ينبغي أن يُقال، صار فصيحًا. فإذا علمت الفارق بين الجواد والحصان والخيل والفرس، لن تضع أي مفردة من هذه المفردات بشكلٍ عشوائيّ في الجملة لمجرد أنّك تقصد هذا الحيوان، لأنّ ذهنك منصرفٌ إلى إحدى حالاته وأوضاعه عند التعبير؛ وهكذا، ستكون أبلغ في التعبير وأعمق وأوسع.
إنّ سعة مخزونك اللغويّ من المفردات وانتظام معانيها في ذهنك، بالإضافة إلى كونهما عاملين مهمّين في منحك ميزة التعبير الدقيق وإيصال المعنى المقصود بذاته، فإنّهما يوسّعان من عالم المعاني في نفسك. ومع كل كلمة تُضاف إلى هذا المخزون، يتحصّل علمٌ جديد؛ وذلك لأنّ اللغة العربية تكاد تخلو من المترادفات. وما يراه الساذج من الألفاظ مترادفًا ومتساويًا في المعنى، يكون في أصل اللغة متميزًا بخصوصية أو حقيقة معينة. وهكذا تصبح مفردات الحصان معانٍ متعدّدة، يشير كلّ واحدٍ منها إلى خصوصية خاصّة في هذا الحيوان. وقد قيل إنّ في العربية خمسين لفظًا للأسد؛ ولو تأمّلت لوجدت كلّ واحدٍ منها يدل على خصوصية في هذا الحيوان المفترس، الأمر الذي يدل أيضًا على معارف ومعلومات متعدّدة ترتبط به.
لهذا، كلّما استطعنا أن نوسّع من هذا المخزون عند أبنائنا ـبشرط حسن تنظيمه ومنع الاعتباطية من التسلّل إليهـ نكون قد قرّبنا أبناءنا من الفصاحة.
إنّ جمالية اللغة العربية تكمن في وجود علاقات معنوية بين الكلمات المتقاربة والمتشابهة من ناحية الحروف التي تتشكل منها، (مثل ثبت وثبط حيث إنّ ثبت هو استقرار واستدامة ما كان، وثبط هو الثبوت الباطنيّ والمعنويّ والفكريّ). وبالإضافة إلى تسهيل وتسريع عملية اكتساب اللغة (وهذه ميزة غاية في الأهمية)، فإنّ هذه العلاقات تشير إلى نظام خاص في الوجود الخارجي أيضًا. وكأنّ اللغة تصبح بهذه الكيفية مرآة مناسبة لمعرفة الوجود. ولعلّه لا يوجد في لغات العالم مثل هذا الشيء الذي يعبّر عنه بالاشتقاقات كما هو موجود في اللغة العربية؛ فلفظ الجلالة الله، وإن كان مختصًّا بذات الخالق تعالى، لكنّه مشتقٌّ من لفظ ألِه، الذي يشير إلى جانب التولّه والتحيّر. ولهذا قيل إنّ ذات الله تعالى حيّرت العقول عن إدراك كنه حقيقتها.
أمّا البلاغة، فهي حسن تنظيم الكلمات في الجملة، بأخصر وأيسر طريقة، لإيصال المعنى المقصود. فالبليغ من يوصل ما يقصده للسامع أو القارئ في خمس كلمات، لكن الأبلغ منه من يوصل هذا المقصود نفسه في ثلاث كلمات. 
أجل، إنّ البلاغة ترتبط بالاختصار وبتقليل الجهد. ولا ينبغي أن يُستهان بهذا الأمر، خصوصًا في عصر السرعة الذي نعيش فيه. فالبليغ يساعدك على فهم المقصود بكتابٍ لا يزيد عدد صفحاته عن مئة صفحة، في الوقت الذي ستعاني وتكابد مع كاتبٍ آخر يضطرّك لقراءة خمسمئة صفحة لإدراك المسائل نفسها. وهكذا تزداد سرعة وصولك ووصول الآخرين إلى المعاني والمعارف بفضل هذه البلاغة. ومن أراد أن يتعرّف إلى ملك البلاغة وسيّدها فليقرأ كتاب "نهج البلاغة" الذي جمع فيه الشريف الرضي باقة رائعة من خطب أمير المؤمنين (عليه السلام) وكلماته، وخصوصًا القسم المتعلّق بأبواب الحكم وقصار الكلمات.
حين نعمل على تربية القدرات البيانيّة عند أبنائنا، لا ينبغي أن نستهين بالكتابة والقلم؛ فالله تعالى يدلّنا على العلاقة بين التعلّم وهذه الوسيلة، كما في قوله تعالى: {الَّذي عَلَّمَ بِالْقَلَم‏ * عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَم‏}.[1] ويُقال إنّ سعي الإنسان للتعبير بالكتابة من شأنه أن يثبّت المعاني في النفس؛ كما يُقال إنّ الإنسان يستلهم المعاني بواسطة القلم ويستنزلها، ولذلك كانت الكتابة أفضل وسيلة لتثبيت الفهم، حتى ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله): "أَمَا إِنَّكُمْ لَنْ تَحْفَظُوا حَتَّى تَكْتُبُوا[2] وفي حديثٍ آخر: "قيّدوا العلم بالكتابة".[3]
إنّ بداية انبعاث الذكاء اللغويّ هو في اقتناع الطفل وإيمانه بدور الألفاظ والكلمات في التعبير عن حاجاته والحصول عليها. وهو أمرٌ يمكن للآباء والأمّهات أن يحقّقوه ويثبّتوه من خلال الإصرار عليه كوسيلة أساسية للتواصل وتأمين الحاجات.
صحيح أنّ على الأم أن تلبّي حاجات وليدها قبل أن يعلو صراخه بالبكاء، ولكن لا ينبغي للصراخ والبكاء أن يصبحا الوسيلة الوحيدة للتعبير؛ فمع مرور الأشهر الأولى ينبغي البدء بتلقين الطفل مجموعة من الكلمات المرتبطة بحاجاته الأساسية؛ وشيئًا فشيئًا يجب الإصرار على اقتران تأمين هذه الحاجة بلفظٍ ما؛ إلى أن يصل الطفل إلى مرحلة لا يريد ولا يطلب شيئًا إلا بواسطة الكلام.
لقد لاحظتُ وجود علاقة واضحة بين التأخّر في التعبير عند الأطفال وسرعة تأمين حاجاتهم؛ في حين أنّ على الأمّهات والآباء أن يتّخذوا من احتياج الطفل وسيلة لتسريع عملية اكتساب اللغة؛ فلا يملّون بسرعة ويعطون الطفل ما يحتاج إليه لمعرفتهم بحاجته مسبقًا أو بواسطة الإشارة والهمهمة، بل عليهم أن يصبروا ويتحمّلوا انزعاجه وبكاءه، ويكرّروا النطق باللفظ المرتبط بالحاجة المحتملة، ليحصل الاقتران وتترسّخ العلاقة بين اللفظ والحاجة.
وأهمية هذه الحالة والنتيجة لا تكمن في تأمين حاجات الطفل بصورة أفضل وأسرع فحسب، بل ترتبط بشيء آخر سيحتاج إليه المربّون على مدى الأيام أكثر من أيّ شيءٍ آخر؛ وهو ما يتعلّق بضرورة استخراج الحاجات والمشاعر الكامنة من قلب الطفل حين لا يكون مدركًا تمامًا وواعيًا لها. ولعلّ هذا هو العنصر الأهم في التربية اللغوية المرتبطة بالمرحلة العمرية الأولى؛ وهو ما أطلقنا عليه عنوان الوعي الذاتي.
إنّ التعبير عن مكنونات النفس في سنٍّ مبكرة هو أفضل وسيلة لتحقيق هذا الهدف الذي يُعدّ أصل أصول جميع الأهداف التربوية الأخرى. فكل نتيجة طيبة وثمرة مفيدة للتربية موقوفة على وجود وعي وإدراك مباشر لمكنونات النفس عند صاحبها؛ كأن يعلم الطفل ما هو التعلّم وكيف يحصل في نفسه وهل يحصل الآن حقًّا. فإن هو أدرك كيفية حصول التعلّم في نفسه، أمسك بحبل التعلّم الأمتن. وإذا صار الطفل شديد الإدراك لما يؤلمه أو يحزنه أو يزعجه، نجا من أهم أسباب انعقاد العقد السلبية في باطنه. 
هنا يأتي دور اللغة، بشرط وجود تفهّم وتواصل فعّال من الطرف الآخر. وعلى كل حال، يندر أن نجد مربّيًا يهتم بتربية البعد البياني في الطفل، من دون أن يكون متفهّمًا، يمتلك الحكمة اللازمة لمعرفة مكنونات الطفل، والقدرة على تحليلها ومعرفة أسبابها ومآلاتها.
إنّ اهتمامنا وحرصنا الشديد على تربية أبنائنا بعيدًا عن العقد التي تنشأ من ضغوط الحياة والمحيط والأقران والمدرسة والمقارنة والفقر والحرمان والحوادث الغريبة المبهمة (بالنسبة للطفل)، يُلزمنا بضرورة تنمية القدرات البيانية بأسرع وقتٍ ممكن؛ فكلّما عبّر الطفل عمّا يؤلمه كان أبعد عن الابتلاء بعقدة نفسية مزمنة.
وإنّما سُمّيت العقد بالعقد لأنّ المُبتلى بها يتصرّف على أساسها من دون أن يشعر؛ وليس هذا سوى نتيجة الانفصال والبعد بينه وبين عمق نفسه ومشاعره. ولا يحدث هذا الانفصال إلا نتيجة عدم وجود تواصل فعّال بينه وبين حكماء يكترثون لأمره ويرشدونه. وغالبًا ما يكون ذلك بسبب عدم قدرة الطفل على التعبير عن مشاعره لمن يهتم لأمره ويهبّ لمساعدته ونجدته.
تمرين سهل: احمل طفلك أثناء انشغاله باللعب بعيدًا عن ألعابه حتى يبكي ويصر على الرجوع إليها. لا تنزله من يديك حتى يعبّر عن ذلك بلفظٍ مناسب تلقّنه إياه، ولو لم يكن صحيحًا تمامًا. كرّر ذلك عدّة مرّات ولو علا صراخه. لا تستسلم له، حتى يصبح التعبير اللفظيّ عنده الوسيلة الوحيدة للرجوع إلى ما يحب. كرّر ذلك في أمور أخرى، كالشرب والأكل والنوم و...
يواجه الأطفال العديد من المواقف المزعجة التي تضغط على نفوسهم الرقيقة الضعيفة. ومن الممكن أن تترك هذه المواقف آثارًا عميقةً في نفوسهم، خصوصًا إذا تكرّرت ولم يجدوا تفسيرًا واضحًا لها. إنّ الهدف الأساس من اللغة والتواصل اللفظيّ هو الحصول على تفسيرٍ واضح، يزيل عن كاهل نفوس الأطفال ثقل هذه الضغوط والمواقف المزعجة والمؤلمة.
وأكثر هذه الحالات يحصل جرّاء تعرّض الأطفال لنوعٍ من التنمّر والاستهزاء من قبل الأقران. ومنها ما ينشأ من عملية المقارنة غير الواعية بينهم وبين غيرهم، كما يحصل في حالات الحرمان، حيث يعجز الطفل عن فهم أسباب عدم امتلاكه للشيء الذي يمتلكه زميله وقريبه، ممّا يترك في أعماقه ندوبًا لا تزول بسهولة، بل ربما تتحوّل إلى عقد مزمنة تبقى على مدى الحياة. وهكذا تجد ولدك في شبابه وكبره حريصًا على المال جمعًا أو إنفاقًا، وهو يسعى فوق طاقته لكيلا يحرم أبناءه من كل ما حُرم منه في طفولته، من دون أن يلتفت إلى جانب الحكمة والمصلحة في ذلك.
وقد يبدأ الأمر في استهزاء زملائه من قصره أو هزال جسمه، ولأنّه يعجز عن فهم طبيعة الهزال في الطفولة، وسهولة التعويض عنه وإصلاحه مع الوقت، فإنّ هذا الإبهام والحيرة الممتزجة بلوعة الآلام الحادّة تؤدّي إلى عقدة النقص والحقارة؛ ثمّ نجد هذه العقدة لا تزال تحرّكه وتدفعه على مدى العمر نحو المبالغة في الاهتمام بالجسد وطوله وعرضه وعضلاته.
إنّ ما ينبغي تحقيقه في التربية البيانية هو تشجيع الطفل على التعبير عن كل هذه الإبهامات، بصورة مباشرة وصريحة، من أجل أن يحصل على التفسير الواضح والمقنع لها؛ وذلك قبل أن تتحوّل إلى عقد لا يعي وجودها. وإنّما يتحقق هذا الوعي من خلال الجُرأة على التعبير عن مكنونات النفس. ولا يمتلك الطفل مثل هذه الجرأة إلا إذا كان المربّي مشجّعًا له على ذلك. ولا يحصل التشجيع ولا التواصل إلا بواسطة اللغة والبيان.
 

 

_______________________
[1]. سورة العلق، الآيات 4 - 5.
[2]. مستدرك الوسائل، ج7، ص 50.
[3]. بحار الأنوار، ج58، ص 124.

 

 

المصدر: مركز باء للدراسات.

السيد عباس نورالدين

التعليقات (0)

اترك تعليق