مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

طريق

طريق "موكب السبايا" مشاهد حسينية بين كربلاء والشام

6. مشهد حماه: وفيها مشهد للرأس أيضاً، في حي من أحياء المدينة بالقرب من قلعتها. والملاحظ أن هذا أول مشهد داخل تجمع سكاني كبير بحجم مدينة في ذلك الأوان. الأمر الذي كان قادة الركب يتجنبونه، خشية اتصال الناس ببعض من كان في الركب، مما قد يترتب عليه معرفة الهوية الحقيقية لأصحاب الرؤوس وللسبايا.
والذي يبدو أن العلة في هذه الخصوصية هي وجود القلعة، التي يبدو أن قادة الركب نزلوها بمن معهم من نسوة أهل البيت عليهم السلام، بحيث لم يكونوا مضطرين إلى نزول مكان منعزل، لأن نزولهم داخل القلعة يمنع اتصال الناس بهم.
إن أول ذكر لهذا المشهد نجده لدى ابن شهر آشوب المازندراني صاحب المناقب والذي عاش السنوات الأخيرة من عمره في حلب، وفيها دُفن كما مرّ في كلام المحدث القمي.
والمشهد اليوم غدا مسجد اسمه "مسجد الحسنين"، وذلك بعد أن جدّده محمود بن زنكي، ونزع عنه صفة المشهد _فُعل نظيره بمشهد بعلبك_ وسُجل ذلك (التجديد) على رقم حجري في المدخل الخارجي.
ومع ذلك فإن هذا التزييف لصفة المشهد الأساسية لم يؤدّ إلى نسيانها، فبعد ستة قرون من زمان تجديد ابن زنكي له جُدد أيضاً على يد أحد رجال الدولة العثمانية، الذي سجل رقيماً آخراً على المدخل نفسه، قال فيه:
"جدّد المشهد الشهير برأس الحسين "..." أحمد آغا المعروف بابن الشر ابدار "..." 1023 هـ".
كما ورد ذكره بالصفة نفسها في قصيدة نوري باشا الكيلاني على التُرب والقامات الموجودة في "حماة"، ومطلعها:
دار السعادة هذه وحماها    فالدار أين غدت وأين حماها
إلى أن يقول:
وبتاج فخري من له ختم العبا  مَن جدُّه أسنى الخلائق جاها
أعني الحسين وذاك موضع رأسه   لما به قصدوا يزيد سفاها
قسماً لحتّى الآن مسكٌ عابقٌ    بمكانه فينا يؤجّج آها
وفي (نفس المهموم): في بعض الكتب (رياض الأحزان للمولى حسن القزويني) نقلاً عن بعض أرباب المقاتل أنه قال: لما سافرت غلى الحج فوصلت إلى حماه رأيت بين بساتينها مسجدا ًيسمى مسجد الحسين عليه السلام. قال: فدخلت المسجد فرأيت في بعض عماراته ستراً مسبلاً من جدار، فرفعته ورأيت حجراً منصوباً في جدار، وكان الحجر مؤرّباً فيه موضع عنق رأس اثر فيه، وكان عليه دم متجمد، فسألت من بعض خدّام المسجد ما هذا الحجر والأثر والدم؟ فقال لي: هذا الحجر موضع رأس الحسين عليه السلام، وضعه القوم الذين ساروا به إلى دمشق، إلخ.
7. مشهد حمص: أول من أشار إلى وجود مشهد للإمام الحسين عليه السلام فيها هو ابن شهر آشوب المازندراني أيضاً. مكان المشهد اليوم في شارع أبي الهول بالمدينة القديمة. عُرف لمدة ب"الزاوية الحسنوية"، وهي عبارة عن قطعة من أرض موقوفة.
والأمر الذي كان معروفاً بين أهل المدينة حتى وقت غير بعيد أن الزاوية الحسنوية كانت من قبل مشهد للإمام الحسين عليه السلام، ثم عرف المكان باسم "جامع علي والحسين"، ثم جُعل زاوية، وانتهى قطعة بور، محمية لما لها من صفة وقفية.
ويجدر هنا الإلفات إلى التغيرات الجذرية التي نزلت بالمدينة بعد أن حال أمر التشيّع في شمال ووسط سوريا ومنها حمص، على يد العناصر العسكرية القادمة من أطراف العالم الإسلامي، على موجة جهاد الصليبيين. وكان من آثاره أن بدّل صفة الكثير من معالمها، وهذا منها.
8. مشهد بعلبك: وفيها مسجد قديم خرب، موقعه إلى جانب البركة المتكوّنة من نبع رأس العين المعروف. وما بقي منه يدل على ما كان عليه في الماضي من عظمة وجلال.
والمتداول بين أهل المدينة أن أصله مشهد أُنشئ في المكان الذي نزله موكب السبايا القادم من حمص في طريقه إلى دمشق. ومن الثابت المؤكد أن الركب مرّ بـ بعلبك ونزلها، والمكان الذي يتوفر فيه الشرط الذي يطلبه قادة الركب بكونه بعيدا ًعن البلد بحيث يمتنع أو يصعب على أهلها الاتصال بالسبايا، وبالتالي معرفة هويتهم الحقيقية.
الإسم المتداول على ألسنة الناس لهذا المكان هو "مسجد/ مشهد رأس الإمام الحسين عليه السلام" ولكن الإسم المدوّن في سجلات مديرية الآثار اللبنانية هو "مسجد الظاهر بيبرس"، نسبة إلى الظاهر بيبرس المملوكي البندقداري (حكم:658_676 هـ). لكن الذي يؤخذ من الأدلة والوثائق أن بيبرس هذا لا شأن له ببناء المشهد من قريب أو بعيد، وإنما جرى تجديده بأمر منه، يؤيد ذلك المؤرخ المعاصر عز الدين بن شداد (ت: 684 هـ) في الجزء الثاني من كتابه (الأعلاق الأخيرة).
ويُستفاد من نصّي رقيمَين أحدهما موجود حتى اليوم على بعض جدران المسجد، والآخر منقول نقلاً موثقاً أن أعمال التجديد الأولى بدأت في العام نفسه الذي مات فيه بيبرس، ومن ثم تابعها ابنه الملك السعيد، غايتهما من ذلك كله نزع صفة المشهدية الأصلية من خلال إضافة المحراب الذي يشهد بروزه عن جسم البناء أنه مضاف على هندسته الأصلية. وكذا المنبر الذي ما يزال أساسه ظاهراً إلى يمين المحراب.
إلا أن الملاحظة الأبرز هي انعدام أثر المئذنة في خرائب هذا المسجد، مع أن جسمها من الأجزاء الأساسية في أي مسجد، كما أن أساسها تكون أمتن وأوثق بنياناً، وبالتالي أقدر على مقاومة عوامل الخراب المختلفة، لأنها تحمل ثقلا ًهائلاً  على مساحة ضيّقة نسبياً. فعدم وجود أي أثر لمئذنة دليل على أنها لم تكن أصلاً.
فهذه أدلة على صحة الاسم المتداول على ألسنة الناس وهو "مسجد/ مشهد رأس الحسين عليه السلام". يُضاف إلى هذا الأدلة على أنه من المستبعد جداً ومن غير المألوف أن يُشاد مسجد خارج البلد، كان يبعد عن سورها الجنوبي مسافة كيلومتر تقريباً.
هذا، ولقد انبعثت الهمم قبل عد سنوات إلى تجديد بنائه، والأمل بعون الله تعالى في زوال العقبات التي تحول دون ذلك.
9. مشهدا دمشق:
1. مشهد الرأس: وهو في بناء مستقل، ملاصق للجامع الأموي من شرقيه، وقد بُني مؤخراً متقناً وزُيّن من الداخل بهندسة إسلامية جميلة، وهو اليوم من المزارات المعروفة المقصودة. ذكره ابن عساكر في (تاريخ دمشق)، قال: "يُقال إن رأس الحسين بن علي عليه السلام وُضع حين أتي به إلى دمشق"، وذكره الهروي في (الإشارات) وسمّاه "مشهد الحسين وزين العابدين" فزاوج بينه وبين المشهد الآتي ذكره.
2. مشهد زين العابدين: ومكانه ما بين المسجد الأموي و"مشهد الرأس"، وله ذكر عريض في تواريخ دمشق، وقد يُسمى في بعضه القليل "مشهد علي بن الحسين عليه السلام". والظاهر أن تخصيص المشهد باسمه عليه السلام لأنه كان يُشاهد فيه وهو يُصلي أو يجلس، أثناء المدة التي قضاها في دمشق، فكان أن أطلق أهل المدينة اسمه على المكان بعد أن غادرها. ودلالة ذلك تُدهش المتأمل، إذ أنها تكشف عن موّدة مضمرة تجاه أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قلب عاصمة الأمويين.
10. مشهد عسقلان: وأما مشهد عسقلان الذي ذكره ابن شهر آشوب، فقد ورد ذكره أيضا ًفي تاريخ ابن خلكان، وأيّده ابن بطوطة فذكره في رحلتيه، وقال: "مسجد عظيم سامي العلو"، مشيراً إلى أن الرأس الشريف دُفن فيه قبل نقله إلى القاهرة (على الرواية التي تقول بذلك)، وكذا قال الهروي في (الإشارات)، وأن الرأس الشريف نُقل إلى القاهرة عندما استولى الفرنجة على عسقلان سنة 549 للهجرة.
موكب السبي النبوي في الشام:
قال الشيخ إبراهيم الكفعمي في (المصباح) والشيخ البهائي في (توضيح المقاصد) وغيرهما أن دخول السبايا إلى دمشق كان في غرّة صفر، وفي (كامل البهائي) أنه كان يوم الأربعاء السادس عشر من ربيع الأول سنة 61 للهجرة.
قال السيد ابن طاووس قده في (اللهوف): وسار القوم برأس الحسين عليه السلام والأسراء من رجاله، فلمّا قربوا من دمشق دنت أم كلثوم من شمر وكان من جملتهم، فقالت له: لي إليك حاجة. فقال: ما حاجتك؟ قالت: إذا دخلت بنا إلى البلد فاحملنا في درب قليلة النّظّارة (النّظّارة: القوم ينظرون إلى الشيء)، وتقدّم إليهم أن يخرجوا هذه الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل وينحوّنا عنها، فقد خُزينا من كثرة النظر إلينا ونحن في هذه الحال. فأمر في جواب سؤالها أن تُجعل الرؤوس على الرماح في أوساط المحامل بغياً منه وكفراً، وسلك بهم بين النّظّارة على تلك الصفة حتى أتى بهم باب دمشق، فوقفوا على درج باب المسجد الجامع حيث يُقام السبي.
وفي (آمالي) الصدوق، أن الرأس الشريف نُصب على باب مسجد دمشق.
وفي (الكامل البهائي) عن سهل بن سعد _أدرك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سمع حديثه، وكان في الشام يوم وصلها موكب السبايا فشاهد مظاهر الفرح_ أنه قال: وا عجباً يُهدى رأس الحسين عليه السلام والناس يفرحون. (ثم قال): من أي باب يدخل؟ فأشاروا إلى باب يقال له باب الساعات "..." (أضاف سهل): ورأيت الرؤوس على الرماح ويقدمهم رأس العباس بن علي عليه السلام. ورأس الإمام عليه السلام كان وراء الرؤوس أمام المخدّرات، وللرأس الشريف مهابة عظيمة ويُشرق منه النور، بلحية مدوّرة قد خالطها الشيب وقد خُضبت بالوسمة، "..." مبتسماً إلى السماء شاخصاً ببصره نحو الأفق، والريح تلعب بلحيته يميناً وشمالاً كأنه أمير المؤمنين عليه السلام.

المصدر: تحقيق أحمد الحسيني: مجلة شعائر، العدد الحادي والعشرون.

التعليقات (0)

اترك تعليق