مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

واقعة السبي سطرت نهاية البيت السفياني

واقعة السبي سطرت نهاية البيت السفياني

تناول هذا الحوار مع العلامة الشيخ جعفر المهاجر جملة عناوين على ضوء كتابه موكب الأحزان الذي يرسم خارطة طريق موكب السبايا من كربلاء إلى دمشق:
• ما هو مفهوم السبي تاريخياً، وكيف ترونه من حيث التخطيط الأموي، في حادثة سبي عيال الإمام الحسين عليه السلام؟
بسم الله الرحمان الرحيم، ترجع فكرة السبي إلى ما قبل الإسلام حيث كان من المعمول به على صعيد المعارك التي تجري في شبه الجزيرة، أن من ينتصر في المعركة يكون من جملة نتائج انتصاره أن يستولي على النسوة والأطفال.
لكن التخطيط الأموي كان مختلفاً، العمل الذي قام به عبيد الله بن زياد بعد يوم كربلاء كان أمراً له مقاصده السياسية، ولم يكن المطلوب منه أو المقصود منه أن تكون النساء مملوكات. لذلك أنا أتحفظ على لفظ السبايا، كان هناك عمل سياسي ومقاصده سياسية.
• ما هي هذه المقاصد السياسية؟
لقد حقق عبيد الله بن زياد الهدف السياسي من المعركة، ذلك أنه نجح في أن يدفع الكوفة التي كانت في ذلك الأوان المدينة الوحيدة المناجزة _المعارضة_ للحكم الأموي، أن تقتل الخصم الأساسي لهذا النظام، يعني استخدم عدوّه في قتل عدوّه، وهذه هي الحقيقة. ولو أنه توقف عند هذا الحد لكان انتصاراً باهراً، ولكنه أقدم على عملين مستهجنين وغير مسبوقين.
العمل الأول: هو أنه أمر برضّ الجسد الطاهر للإمام الحسين عليه السلام.
العمل الثاني: أنه جمع النساء والأطفال وكوّن منهم موكباّ، وتحرك هذا الموكب من ساحة كربلاء إلى الكوفة ومنها إلى الشام.
هذان العاملان كانا غير مسبوقين، الثقافة العربية حتى قبل الإسلام لديها حُرمة للمرأة، وأن الميت لا يُهان، لا يُمثّل به، المرأة أيضاً تُسبى ولكن لا يُشّهر بها.
حين أمر عبيد الله بدوس الجسد الطاهر للإمام الحسين عليه السلام، وحين أمر بتكوين هذا الموكب وتوظيفه بالشكل الذي نعرفه، إنتهك حرمتين أساسيتين عند الإنسان العربي في الجاهلية وفي الإسلام.
المقصود السياسي لابن زياد من هذين العملين هو خلق نوع من القمع الداخلي عند الناس، بحيث لا يفكرون بعمل اعتراضي ضد السلطة الأموية، أراد التهديد بما هو أبعد من القتل والموت، الرسالة كانت أن من يعارض السلطة يُعاقب بالقتل والتمثيل بجسده وسبي عياله وأطفاله.
• متى خرج موكب السبايا من الكوفة باتجاه الشام؟
نحن نملك تاريخاً دقيقاً لدخول موكب السبايا إلى الكوفة لأنهم دخلوا علناً. فبعد ظهيرة يوم عاشوراء بات النسوة والأطفال في ساحة المعركة، وفي اليوم التالي بدأ تحرك الموكب من ساحة المعركة إلى الكوفة. وفي مساء اليوم الحادي عشر، وصلوا إلى المكان المعروف الآن في النجف بإسم "مسجد الحنّانة".
لكن عبيد الله ابن زياد أراد أن يكون دخولهم بشكل علني، وأراده استعراضاً لغطرسة القوة، فأجّل دخولهم إلى المدينة إلى اليوم التالي. لذا من المؤكد أن الموكب دخل إلى الكوفة في اليوم الثاني عشر من محرّم.
لكن نلاحظ أن المؤرخين لا يذكرون إطلاقاً تاريخاً لخروج الموكب من الكوفة، مما يدل على أن خروج الموكب كان سرياً، بينما الدخول كان علنياً، ولنا أن نتساءل عن السبب.
كان هناك مسألة تأمين الأمور اللوجستية لهذا الركب الذي سيقطع المسافة من الكوفة إلى دمشق. هذا يحتاج إلى تحضير التموين والرجال الذين سيرافقون هذا الركب، لأن هناك خشية أن تحصل ردة فعل، فلا بد أن يكون هناك تدبير أمني في مقابل هذا الاحتمال، لذلك تقول بعض المصادر أن عدد الذين رافقوا هذا الركب كان في حدود 1500 جندي.
هذا الركب بكامل تشكيلته من جنود، ومن خدم، ومن حاملي التموين، إلى آخره، فإما أن تجمّعه، داخل الكوفة كان أمراً عسيراً يحتاج إلى مكان واسع، وإما أنه كان المقصود أن يكون خروجه سرياً لأنه سيقطع مسافة طويلة داخل العراق حيث الناس يعرفون من هؤلاء، وبالتالي كان هناك احتمال بأن تحدث ردّات فعل على هذا الركب ومن معه، لذلك أنا أجد أنه من المقنع جداً أن نقول أن خروجه كان سريّاً حتى لا يتوقع الناس مروره بينهم، وبالتالي قد تحدث بعض الأمور التي تشكل اعتراضاً أو عملاً عدوانياً ضد هذا الموكب، (أي ضد العساكر الأمويين)، لذلك نقول أنه ليس هناك تاريخ دقيق لخروج موكب الأحزان من الكوفة.
• ما هي المسيرة التي استغرقها مسير الركب من الكوفة إلى الشام؟
أيضاً نحن لا نملك مصادر مؤكدة أبداً، لماذا؟ لأن الموكب لم يفز باهتمام المؤرخين أو رواة الأخبار، ذلك أن فكرة التاريخ المكتوب نشأت بعد قرنين أو ثلاثة.
هذا التاريخ المكتوب يعتمد على الإخباريين، أي تناقل الأحداث شفوياً، والثروة الشفوية عندنا _سواء في تاريخ الأدب أو تاريخ الأيام والأحداث التي جرت_ هي التي استفاد منها المؤرخون فيما بعد ودوّنوها.
لاحظ معي أن الذين حفظوا لنا من أدبيات الحدث في كربلاء هم أناس عادييون. مثلاً "عقبة بن سمعان" _الذي كان مع الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء، ولم يُقتل_ صادف أنه سُئل عن أدبيات الأحداث، فسُجلت أقواله ووصلتنا إلى اليوم.
لكن الناس الآخرين الذين شاهدوا الموكب لم يكترثوا بأن يحفظوا، أو يسجلوا، أو يتذكروا، أو يتذاكروا بين بعضهم البعض، بحيث يوثقوا الخبر شفوياً. بل تم التعامل مع الحدث أنه عبارة عن قضية بسيطة؛ مجرد موكب مار في طريقه إلى عاصمة الدولة، ليس أكثر. ولولا ما حصل فيما بعد من استفاقة الناس على الحقيقة، واكتشافهم الخديعة التي مارستها السلطة عليهم، فعمدوا إلى تشييد المشاهد على طول طريق الموكب، لما وصلنا شيء.
نحن مدينون للجمهور هنا. لسنا مدينين لمؤرخين ولا لرواة الأخبار، بل نحن مدينون للجمهور الذي استيقظ من الخديعة الكبيرة التي مارستها عليه السلطة الأموية، فعمد إلى إقامة المشاهد التي كانت في البداية كومة أحجار، لنعرف بأن الركب نزل هَهنا، لذلك نرى عدداً كبيراً منها على طول الطريق، وهي سبيلنا الوحيد لمعرفة المسار الذي سلكه هذا الموكب.
• لماذا اختار النظام هذا الطريق الطويل لإرسال الموكب إلى الشام؟ كعمل استعراضي أم لإرهاب الآخرين؟
كلاهما، لكن فعل إرهاب الناس لا يتحقق إلا إذا عرف الناس هوية الركب، في حين أن مصلحة ابن زياد كانت في أن يُخفي حقيقة من هم في عِداده. لذلك نعتقد أن قصده الأساسي كان أن يقدم نفسه للسفيانيّين _الأسرة الحاكمة في دمشق، والتي يعتبر ابن زياد أنه منها، لأن معاوية قد استلحق أباه بأبي سفيان_ أنه الرجل الذي حقق لهم هذا النصر وهذا الانجاز السياسي.
لم يبق بعد الإمام الحسين عليه السلام وحادثة كربلاء من يمكن أن تقول عنه أنه عدو للسلطة الأموية، أو أنه عدو يُخشى خطرُه. لكن جريمة الأمويين في سبي العيال ورض الجسم الشريف، قلبت "نصرهم" إلى هزيمة. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين الأنفال: 30.
• ما هي التداعيات السياسية على مستوى البيت الأموي، نتيجة إقدامهم على سبي حُرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟
مما لا ريب فيه أن ما أراده ابن زياد استعراضاً لغطرسته ووسيلة إلى قمع الناس قمعاً داخلياً وإرهابها، أدى إلى عكس المقصود فقضى عليه تماماً. ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين الأنفال: 30.
سُرّ يزيد بادئ الأمر بهذا الانتصار المزيف، وتمثل بأبيات شعرية تنمّ عن تشفيه وزهوه، لكن وجهة الأحداث سرعان ما تبدلت، بعد دخول السبايا إلى الشام. حينها اضطر يزيد إلى منح الإمام زين العابدين عليه السلام شيئاً من الحرية لامتصاص النقمة الجماهيرية، وقال فيما قال: كنت أرضى من طاعتكم دون قتل الحسين، وأخذ يُعيّر ابن زياد بأمه، ويُحمله مسؤولية ما جرى.
وبديهي أن الأمر لم يكن عن صحوة ضمير، وإنما هاله تغيّر الناس عليه، وهو ما عبّر عنه صراحة بقوله: "فبغّضني _ابن زياد_ إلى قلوب المسلمين، وزرع لي في قلوبهم العداوة، فبغضني البر والفاجر".
تتحدث النصوص التاريخية عن حالة تشبه الانفجار، فقد بدأت تترامى إلى مسامع يزيد عبارات شتمه في أرجاء الأمصار الإسلامية، وحتى في دمشق العاصمة حيث بات لعنه علنياً من غير مواربة.
ومن التداعيات الكبرى، الاضطراب الذي حصل داخل البيت الأموي، وأدى إلى انتقال السلطة من البيت السفياني إلى البيت المرواني، ومن ثم إلى الزبيريين، الذين لولا أخطاؤهم السياسية الفظيعة، لما رجع الملك إلى الأمويين، الذين تراجع سلطانهم فبات محصوراً بتلال "البلقاء"، أي موقع مدينة عمّان اليوم في الأردن.
بل إن هناك من تداعيات الحدث ما يدل بشكل واضح جداً على أنه نشأت حالة من الصراع الشرس داخل البيت الأموي، الذي لمس التفاعل الهائل عند الجماهير فحمّل يزيد ما آلت إليه الأمور. نتلمس ذلك من خلال مقتل ثلاثة من الخلفاء _يزيد ومعاوية ابنه ومروان بن الحكم الذي غمّته زوجته بوسادة_ في غضون أربع سنوات وبطريقة غامضة، مبالغ في غموضها، ما يؤكد على أن القتلة كانوا من داخل البيت الأموي.

حاوره: د. محمد أمين كوراني: مجلة شعائر، العدد الحادي والعشرون.

التعليقات (0)

اترك تعليق