مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

ثقافة الحوار وأثرها في تربية الأبناء (1)

ثقافة الحوار وأثرها في تربية الأبناء(1)

ثقافة الحوار عادة مُكتسبة تُغرس في الطفل لتكبر معه وتصبح واحدة من طباعه وعاداته وسلوكياته. فالقدرةُ على الحوار تفتح آفاقاً واسعة من الحرية والقدرة على التحليل والتفكير بطريقة منطقية، يسعى من خلالها المرء لإثبات وجوده وتثبيت خطاه.. الأمر الذي يدعو لإدخال ثقافة الحوار في مدارسنا، وبيوتنا، وفي كافة المؤسسات التربوية، والثقافية الأخرى.
                      
وثقافة الحوار هي أسلوب الحياة الذي يُفترض أن يكون سائداً في الأسرة بين الآباء والأبناء؛ ليكون عاملاً مُدعّماً للتفاهم، وركيزة أساسية للانسجام، والتعايش، والاتفاق على صيغة تَقبُّل الآخر وأفكاره وثقافته، واحترامها مهما كانت متناقضة مع أفكارنا، وصولاً إلى صيغة تقارب في الأفكار تتبلور بأن تصبح مشتركة.
ومن هذا المنطلق نرى أن ثقافة الحوار تؤسس لعلاقة حميمة ناضجة العناصر وثيقة العرى بين الآباء والأبناء، علاقة يخيم عليها التواصل والتفاهم، ويتعلم الأبناء خلالها أساليب المناقشة الهادئة المريحة البعيدة عن التزمّت والعناد، وتتعمق لديهم قناعات اجتماعية إيجابية تؤهلهم للتكيّف مع المجتمع.
وإذ تعني ثقافة الحوار احترام الرأي الآخر، فهي تعني احترام الذات الإنسانية للأبناء، فلا نفرض عليهم آراءنا بوصفنا آباء مجربين علّمتنا الحياة، وإنما نساعدهم على أن تتأصل فيهم هذه العادة الحميدة فيتمتعوا بثمار نتائجها عبر مساهماتهم في الحوار، وعندئذٍ تتحقق الصورة الجميلة التي رسمها المثل الشعبي عن مستقبل العلاقة بين الآباء وأبنائهم "إذا كبر ابنك خاويه"؛ أي اتخذه أخاً لك، وتعامل معه في إطار هذا المفهوم، فتتحول علاقة البنوة إلى علاقة صداقة تنفض عن الأولى قيود الحاجة ولكنها تسمها بطابعها الحيوي، فتنشأ علاقة دافئة بالغة الإنعاش للطرفين.(1)
بهذا السلوك نُمهّد لدخول عالم الأبناء الخاص ومعرفة احتياجاتهم فتسهل التعامل معهم، ما يساعد الآباء على تنشئة أبنائهم نشأة سوية بعيدة عن الانحراف.
وتحت مظلة الحوار تنمو شخصية الأبناء نمواً متوازناً وتتعمق ثقتهم بأنفسهم، فآراؤهم تُحترم وتُناقش باهتمام، ويتولد لديهم الدافع إلى التفكير السوي بعيداً عن التعليمات والإملاءات، فيصلون إلى أهدافهم بفطنة، ومحاكمة عقلية تختزن ثروة من التجارب والخبرات.
إلا أن توافر التقنيات الحديثة فتحت للأبناء السبيل نحو عالم آخر مهّد للتعبير عن المشاعر والتحاور مع الآخر، ولكنه انعكس سلباً على الحياة الأسرية، فكل فرد اتخذ في بيته ركناً لممارسة الحديث مع شخص وهمي تطل صورته من خلال الشاشة الصغيرة، يجيد فنون الحوار والتقارب وصولاً إلى هدفه، فاختزل الآباء الحوار مع أبنائهم في نصائح وتوجيهات ظناً منهم أنها تغني عن جلسة حوارية حميمة.
وقد أوضحت في سياق حديثي أن التقنيات الحديثة التي غزَت بيوتنا وكلَ زوايا حياتنا لها ميزاتها، ولها مخاطرها على أطفالنا وعلى حياتنا الأسريةِ والاجتماعيةِ، ولتفادي مخاطرها أرى أن نحرص على بقاء أقنية الحوار مفتوحة، وجسور التواصل ممدودة بين الآباء والأبناء، وأن أنوه بالحوار المتجدد والمتطور الذي يواكب روح العصر ومعطياته، لذا ننصح بأن يعيش الآباء عصر أبنائهم بكل معطياته وميزاته، وأن يروا زوايا الحياة بمنظار مشترك، ويناقشوا الأمور بفكر يساير معطيات العصر، ويتفاعل معها بعقل منفتح وسعي حثيث للإمساك بخيوطِ التفاهم المشترك.
متى يبدأ الحوار؟
في سن الثالثة يبدأ الصراع من أجل الاستقلال عندما يبدأ الصغير بالتعبير عن رغبته في ارتداء نوع معين من الملابس أو طريقة تناوله لطعامه.. وهنا يبدأ نوع من الحوار الذي لابد للأب والأم من إتقانه.
فالحوار، كما وضحنا، عادة مُكتسبة يؤدي الأهل دوراً في ترسيخها وبلورتها عندما يتقبلون آراء أبنائهم ويناقشونها، ويردون على أسئلتهم بأجوبة صريحة وبسيطة تتناسب مع عمر الطفل وقدرته على الاستيعاب.
"رولا" أم لابنة عمرها ثلاث سنوات تقول:
"معروف أن أسئلة الطفل حول الأشياء وماهيتها تكثر في هذا العمر؛ لذا أحاول دائماً أن أظهر بأنني الأم التي تستمع لما يشغل طفلتها دون ملل. وبرأيي أن هذا التصرف سيثمر في المستقبل عندما تكبر بحيث تتطور بيننا لغة الحوار، وتصارحني بكل ما يراودها لنناقشه معاً بصراحة بعيداً عن التكلف لأنني عندها لن أستخدم سلطتي كأم، بل سأكون الصديقة المخلصة لابنتي."
وفي مرحلة المراهقة: هذه المرحلة الخطيرة التي يسعى الشاب خلالها دائماً إلى تمرُّد على المحيط وانتقاد العادات وتحطيم القيود لإثبات وجوده والتعبير عن نفسه.
وللحوار أساليب وطرق تختلف باختلاف من نتعامل معه ونحاوره ومكانته، وهذا الأمر الذي يجب أن يعيه المراهق والمحيطون به.
فالبداية من الأسرة, وخاصة الوالدان اللذان لابد أن يكونا صديقين من نوع خاص، بالنسبة للمراهق، لبعث الطمأنينة في قلبه، وليشعر بأنه مهما قال.. ومهما فعل لا يُحاسب الحساب العسير(2).
وللأسف فإن أغلب الآباء يسعون دائماً لقمع المراهق والسيطرة على رأيه وتقييد تصرفاته خوفاً عليه من الانحراف ناسين أن هذا الأسلوب هو الذي يؤدي إلى انحرافه وسعيه دائماً إلى الرفض ولكن بأساليبه الخاصة.
"رنا" 15 سنة تقول:
"أشعر بالضيق كُلما فتحت حديثاً مع أمي، فكل طلباتي تقابل بالرفض دون أن تكلف أمي نفسها بتبرير موقفها أو إقناعي بسبب قرارها؛ لذلك وجدت نفسي بعيدة عنها وأتصرف كما يحلو لي دون الرجوع إليها أو أخذ الإذن منها".
"رهف" 18 سنة تقول:
"أثق بكل ما يقوله والدايّ، وأنا أسألهما عن كل كبيرة وصغيرة حول تفاصيل حياتي، وهما يتقبلان كل آرائي ويفسحان المجال للمناقشة والحوار، وبالنسبة إليّ فأنا أخاطبهما بكل احترام مع مراعاة الأسلوب المهذب في العرض والطلب، كما أبوح لهما عن كل ما يشغل تفكيري".
"رائد" أب لثلاثة شباب في عمر المراهقة (13، 16، 18 سنة) يقول:
"هناك أمور لا تحتمل النقاش مع الأولاد، فمهما كبروا يظلوا في النهاية صغاراً، ونظرتهم قاصرة في الحياة وتقديرهم للأمور دون المطلوب، ومع ذلك أنا مع فتح باب الحوار في بعض المواقف والمواضيع"(3)
عن هذا الحوار تُحدثنا "د. ولاء عبد الصاحب" (علم اجتماع) قائلة: "في هذا السن تبدأ المواجهة الأولى. فالابن الذي كانت حركاته وتصرفاته تتم وفق سيطرتنا أخذ يعلن العصيان والتفرُّد بتصرفاته وآرائه، وهنا لابد من أن نختار أيّ نوع من الحوار الذي سنبدأ به مواجهتنا مع أبنائنا، ولابد أن نكون حذرين في الكلام الذي نحاور به الأبناء الذين كانوا حتى هذا السن في دور التلقي والتقليد، فأي شدّ زائد في الحديث يمكن أن يؤدي مستقبلاً إلى فقدان حالة الثبات والعزم المطلوبين، خاصة في مرحلة المراهقة، وتكرار المشادات الحوارية تؤدي إلى استنزاف الحالتين لديه بحيث يصبح غير قادر على الاستماع إلى النصائح، كما أن أي تهاون في الحديث قد يؤدي إلى الانفلات مما يدفعه إلى التفرد بآرائه، فعلينا الانتباه إلى أسلوب الحوار الذي نحاور به أبناءنا حتى لا يأتي بنتائج معكوسة. إن الحوار في غاية الأهمية ولكن أسلوب الحوار هو الأهم، وعليه يتوقف تفكير الأبناء مستقبلاً".
كيف يمارس الآباء الحوار مع أبنائهم؟
حبُ الأب والأم لأبنائهما فطريّ غريزي، لكن مع هذا قد يفشل الأهل في التقرُب من أبنائهم بعض الأحيان، وقد يصل الأمر ببعض الأبناء إلى رفع أصواتهم بأن آباءهم لا يفهمونهم؟ فهل ذلك يعني عدم مقدرة الأهل على الحديث أم جهلهم بأسلوب الحوار؟
هناك أساليب للحوار قد يجهل الآباء والأمهات ممارستها.. فالحبّ للأبناء قبل كل شيء لابدّ من أن يكون مطلقاً دون شروط، وإذا ما وعينا هذه الحقيقة فإننا سنمنح أبناءنا كل ما عندنا من محبة، ولا أظن أن هناك من يفتقر إلى عبارات الحب التي نرطّب بها مسامع أولادنا مستخدمين العبارات الوديّة التي تنعش المشاعر، وتقوي أواصر المحبة، وتشد خيوط التواصل بين الآباء والأبناء.
وهذا الحوار لا بد من أن يكون فطرياً يناسب الحب الفطريّ الذي منَّ الله على البشرية به، لكن الكثيرين يتغاضون عن أهميته، وإذا ما أدركنا أهمية هذا الحوار فعلينا أن نتخيّر الحوار فنغمة الصوت لها تأثير ويجب أن تتناسب مع نوع الحوار ومستوى الصوت له تأثير هو الآخر كأن يكون الصوت عالياً أو منخفضاً، فنبرة الصوت العالية قد يفهمها الأبناء على أنها تعنيف ولذلك علينا الابتعاد عنها واللجوء إلى أسلوب الحوار الهادئ حتى وإن كان الموضوع يستحق الانفعال لأن الصوت العالي قد يؤذي مشاعر الأبناء ويزيد الموقف حدّةً.
بعض الآباء يجد في أسلوب الحوار الصارم المبنيّ على القسوة الطريقة المثلى التي تحيطهم بهالة من الهيبة والتقدير اللّذين يرغبون بالظهور بهما أمام أبنائهم وهذا في الواقع يُحدث خللاً في علاقة الآباء بالأبناء، فهم يدفعون بالحوار إلى أن يكون من طرف واحد، الأب يتكلم بينما ينصت الجميع، وهذا ما يؤدي إلى فقدان العلاقة الطيبة التي يجب أن تكون مبنية على الصداقة.. ونجد بعض الآباء ينعزلون في حياتهم حينما يكون الأبناء صغاراً، ولا يقيمون وزناً للحوار معهم على ذلك حينما يكبرون.
يشكو كثير من الأبناء من انعدام لغة الحوار مع آبائهم وتشير"د. ولاء عبد الصاحب" إلى ذلك بقولها:" لقد لمست من خلال عملي، أن مهارة الحوار المطلوبة لفهم الأم لابنتها تكاد تكون معدومة في أغلب الأحيان وكذلك بين الأب وابنه بينما يكون الأبناء في سن معينة بحاجة لمدّ جسور الحوار مع آبائهم، وعندما نسأل الأهل عن سبب ذلك يرجعونه لانشغالهم المستمر بأمور الحياة ومتاعبها، والأوْلى بهم أن يكون الأبناء همُّهم الأول للوقوف على ما يعانونه من مشاكل لغرض خلق جوّ من الود والألفة مبني على التفاهم داخل الأسرة..
وإنني لأعجب من بعض الأسر التي يُعتبر الأب والأم فيها من المثقفين ولا يسعون إلى إيجاد وقت للحوار يستقطعونه من وقت عملهم يجلسون فيه مع أبنائهم ويحاورونهم في مواضيع مختلفة ويناقشونهم في أمور تهمهم ولها علاقة بحياتهم ليكونوا مثالاً للأسرة الموحدة التي هي أساس المجتمع "(4)

الهوامش:
1- مواقفنا من أولادنا: امتلاك أو إطلاق، تأليف كوستي بندلي، جروس برس، طرابلس لبنان، 1994م، صفحة 40.
2- ثقافة الحوار الأسري، د/ جاسم المطوع، مقال على موقعه.
3- ثقافة الحوار عادة مكتسبة منذ الصغر بدعامة أسرية. مقال على موقع صافيتا كلوب.
4- حوار الأبناء كيف نجعله بناء؟ -د/ ولاء عبد الصاحب- مقال على موقع منتديات مهارتي.

المصدر: مجلة الباحثون، عدد: 56.

الآراء الواردة في هذا المقال لا تُعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع

التعليقات (0)

اترك تعليق