مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الزهراء (ع) في فكر القائد

الزهراء (ع) في فكر القائد: إنها نعمة إلهية عظيمة علينا الحفاظ عليها

بسم الله الرحمن الرحيم


الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا ونبيّنا وحبيب قلوبنا أبي القاسم المصطفى محمد وعلى آله الأطيبين الأطهرين المنتجبين الهداة المهديين المعصومين المكرّمين سيّما بقية الله في الأرضين.
تمرّ علينا في هذه الأيام ذكرى كريمة وهي الأيام الفاطمية، وذكرى سيّدة الكونين وسيّدة نساء العالمين من الأوّلين والآخرين السيدة فاطمة الزهراء (ع)، وهي مناسبة تدعو القلوب والعقول إلى التدبّر في الكثير من القضايا التي تواجه الأمّة الإسلامية اليوم.
هذه المناسبة إن لوحظت بعين الاعتبار لوجدت زاخرة بالعبر والدروس، فهذه المرأة العظيمة صبرت وربّت بنيها، ودافعت عن حق الولاية دفاع المستميت، وتحمّلت في ذلك كل ذلك العذاب وتلك المصائب، ثم استقبلت تلك الشهادة العظيمة بكل رحابة صدر.
- الولادة والمقام المعنوي:
ولدت بنت النبي محمد(ص) الكريمة في السنة الخامسة للبعثة طبقاً للقول المشهور، وعلى هذا فإن عمر فاطمة الزهراء(ع) حين الاستشهاد كان 18 عاماً. وقيل إنّ ولادة هذه السيّدة الكريمة كانت في السنة الثانية أو السنة الاُولى للبعثة، فيكون الحدّ الأكثر لعمرها 22 أو 23 عاماً.
ولو أخذتم جميع القيود التي يمكن أن تحيط بالمرأة -خاصّة في تلك الفترة حيث كانت القيود أكثر- فعند ذلك ترون العظمة التي أثبتتها هذه السيدة المكرّمة في تلك الظروف وخلال هذا العمر القصير، وبالطبع إنّني لا أتمكّن أن أتكلّم عن الجوانب المعنوية والروحية والإلهية لتلك السيدّة الكريمة، وحتّى لو استطاع شخص إدراك ذلك فإنّه لا يستطيع وصفها وبيانها كما هو حقّها، فتلك الجوانب المعنوية هي عالم آخر.
- "أُم أبيها".. الزهراء(ع) مع رسول الله(ص):
لاحظوا أنّ الزهراء(ع) كانت في السادسة أو في السابعة من عمرها -والتردد لاختلاف الأخبار في تاريخ ولادتها- حينما وقع حصار شِعْب أبي طالب.
وقد مرّت في الشِعْب على المسلمين فترة عصيبة من تاريخ صدر الإسلام، كابدت فيها هذه السيّدة أشد العناء حينما اُغلِقت على المسلمين وعلى الرسول(ص) منافذ العافية في شِعْب أبي طالب؛ فلم تتوفر لهم حينذاك متطلبات الحياة وأسباب العيش الكريم، وكانت فترة يسودها الاضطراب والفزع من غارات الأعداء، وتُباشر أسماعهم على الدوام الأخبار السيئة، وأصوات الأطفال وهم يتضورون جوعاً، ناهيك عن شتّى ألوان العناء والأذى وما يلقونه في ذلك الشِعْب الذي يلفّه الجفاف، حيث أُرغمت تلك المجموعة من عوائل المسلمين على المكث فيه ثلاث سنوات.
وفي تلك الظروف العصيبة والضغوط النفسية الشديدة التي كان يواجهها رسول اللّه تُوفي في أسبوع واحد كل من أبي طالب الذي كان أكبر عون وأمل له، وخديجة الكبرى(ع) التي كانت خير سند روحي ونفسي له، فكانت حادثة مريرة بقي الرسول على أثرها وحيداً فريداً.
ولكن لاحظوا دور فاطمة الزهراء في مثل تلك الظروف، وموقفها الإيجابي.. فقد كانت -في تلك الظروف- بمثابة الأم والمستشار والممرضة بالنسبة للرسول.
ومن هنا أُطلق عليها "أُم أبيها"، وهذه الصفة تتعلّق بتلك الفترة التي تكون فيها صبية عمرها ست أو سبع سنوات على هذا النحو.
- عبوديتها:
يجب علينا الاهتداء بها إلى الله وإلى طريق العبودية، وإلى الصراط المستقيم؛ فالزهراء(ع) قد سلكت هذا الطريق فأصبحت الزهراء، وإن رأيتم أن الله قد جعل طينتها طينة متعالية؛ لأنه كان يعلم أنها تخرج مرفوعة الرأس من الامتحان في عالم المادة والناسوت [الطبيعة الإنسانية]، "امتحنك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة".
إنّ قيمة فاطمة الزهراء(ع) تكمن في عبوديتها لله، ولولا عبوديتها لَما اتّصفت بالصدّيقة الكبرى، فالصدّيق هو الشخص الذي يظهر ما يعتقده ويقوله على سلوكه وفعله، وكلما كان هذا الصدّيق أكبر، كانت قيمة الإنسان أكثر، فيكون صدّيقاً، كما قال تعالى: «فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ» (الشورى: 23) حيث جاء ذكر الصدّيقين بعد النبيين، فكانت هذه العظيمة صدّيقة كبرى، أي أفضل صدّيقة، وكانت صدّيقيّتها بعبادتها لله، فالأساس هو عبادة الله.
وكانت عبادة فاطمة الزهراء(ع) عبادة نموذجية، يقول الحسن البصري حول فاطمة الزهراء(ع): "إنّ بنت النبي عبدت اللّه ووقفت في محراب العبادة إلى درجة (تورّمت قدماها)".
- زهدها:
عندما بدأت مرحلة الفتوحات والغنائم لم تأخذ بنت النبي ذرّة من لذائذ الدّنيا وزخرفها ومظاهر الزينة، والأُمور التي تميل لها قلوب الشابّات والنساء.
- مع الفقراء:
أرسل النبي(ص) رجلاً عجوزاً فقيراً إلى بيت أمير المؤمنين(ع) وقال له أن يطلب حاجته منهم، فأعطته فاطمة الزهراء(ع) جلداً كان ينام عليه الحسن والحسين حيث لم يكن عندها شيئاً غيره، وقالت له أن يأخذه ويبيعه ويستفيد من نقوده.
- حياتها الزوجية مع أمير المؤمنين وأبنائها(ع):
كذلك على صعيد واجباتها كإمرأة، وكزوجة، وواجباتها كأم في تربية الأبناء ورعايتهم، والعطف على الزوج، كانت على هذا الصعيد أيضاً إمرأة نموذجية. ما ينقل في مخاطبتها للإمام أمير المؤمنين(ع) فيه الكثير من الخشوع والخضوع والطاعة والتسليم حيال الإمام علي(ع)، ثم هناك تربية هؤلاء الأبناء.. أبناء نظير الإمام الحسن(ع)، والإمام الحسين(ع)، وزينب الكبرى(ع)، هذا كله يدل على آية عظمى وعليا للمرأة المثالية النموذجية في أدائها لواجباتها كامرأة على مستوى التربية و العاطفة و المحبة التي تختص بالمرأة. وكل هذه الكنوز القيمة الفذة وهي في عمر الثامنة عشرة. فتاة في الثامنة عشرة أو التاسعة عشرة ولها كل هذه المقامات المعنوية والأخلاقية والسجايا السلوكية. إن وجود مثل هذه الشخصية في أي مجتمع وفي أي تاريخ وفي أي شعب إنما هو مبعث فخر، وليس لدينا نظير لهذه الإنسانة العظيمة.
- عظمة الزهراء(ع):
فاطمة الزهراء(ع) شخصية عظيمة من المرتبة الأولى في الإسلام، بل من المرتبة الأسمى على مدى التاريخ، كما نقل عن رسول اللّه(ص) أنه قال لها: "أما تحبي أن تكوني سيّدة نساء العالمين؟" فسألته سلام اللّه عليها: "فكيف مريم؟" وقد قال القرآن أنها سيّدة النساء، فقال لها: "إنّ مريم كانت سيّدة نساء زمانها، وأنتِ سيّدة نساء الأولين والآخرين".
إنّها المرأة التي بلغت في عمرها القصير مراتب معنوية وعلمية توازي مراتب الأنبياء والأولياء.
والواقع أنّ فاطمة فجر ساطع انبلجت من جنبة شمس الإمامة والولاية والنبوّة، وهي سماء عُليا ضمّت بين جوانحها كواكب الولاية الوضّاءة.
وكان الأئمة(ع) بأجمعهم يولونها تكريماً واحتراماً قلّما كانوا يولونه لشخص آخر".
- الزهراء(ع) معجزة الإسلام:
إنّ الإنسان كلّما فكّر وتدبّر أكثر في أحوال الزهراء الطاهرة(ع) يحتار أكثر، وحيرة الإنسان ليست ناجمة عن كيفية تمكّن هذا الكائن الإنساني من نيل هذه الرتبة من الكمالات المعنوية والمادّية في سني الشباب -وهي بالطبع حقيقة تثير الحيرة أيضاً- بل من القدرة العجيبة التي استطاع الإسلام بها أن يبلغ بتربيته الرفيعة إلى درجة تُمكّن امرأة شابّة كسب هذه المنزلة العالية في تلك الظروف الصعبة.
فعظمة هذا الكائن وهذا الإنسان الرفيع تثير العجب والحيرة، وكذلك عظمة الرسالة التي أظهرت هذا الكائن عظيم القدر وجليل المنزلة.
إنها لمعجزة الإسلام، وإنها فاطمة الزهراء(ع) التي نالت مقاماً رفيعاً وباتت سيدة نساء العالمين رغم سنوات عمرها القصيرة، وفاقت جميع النساء عظمة وقدسية في تاريخ الإنسانية. فما هي تلك الطاقة، وما هي تلك القوة الباطنية العميقة التي استطاعت خلال مدة قصيرة أن تجعل من هذا الإنسان محيطاً لا حدود له من المعرفة والعبودية والقداسة والكمال المعنوي؟.
إنّ هذه بحد ذاتها هي معجزة الإسلام.
- أهمية العلاقة العاطفية مع الزهراء(ع):
الإطلاع على هذه المعارف يعرّف المرء على سجايا هذه العظيمة، و لكن من دون الرابطة العاطفية و المحبة و من دون نيران الشوق و الوجد التي تجري الدموع من أعين الإنسان -سواء حينما يسمع المرء مصيبتها و محنتها، أو حينما يسمع مناقبها- لن يصل المرء إلى نتيجة. هذا شيء آخر.. هذا هو الرباط العاطفي والمعنوي والروحي الذي ينبغي الحفاظ عليه.
لقد كان هذا التيار العاطفي عنصراً أصلياً وأساسياً في التشيع ومسيرة الشيعة منذ بداية تاريخ التشيع وإلى اليوم. طبعاً العاطفة هنا هي العاطفة المعتمدة على المنطق والمستندة إلى الحقيقة، و ليس العاطفة الفارغة. لذلك تلاحظون في القرآن أيضاً أن أجر الرسالة إنما هو في محبة ذوي القربى ومودّتهم. "قل لا أسألكم عليه من أجر إلا المودة في القربى".
النيل من هذه المحبة بأي شكل من الأشكال خيانة للتيار الهائل لمحبة أهل البيت واتباعهم، ينبغي المحافظة على هذه المحبة. لذلك تلاحظون في فترة الأئمة(ع) وجود كل هؤلاء المحدثين وكل هؤلاء التلامذة الواعين والفقهاء العظام في محضر الإمام الصادق(ع) والإمام الباقر(ع) والأئمة الآخرين، كانوا يروون المعارف والأحكام والشرائع والأخلاق، وسمعوا ورووا وسجلوا، ولكن إلى جانب كل هذا، حينما يعود وينظر الإنسان بدقة يرى نظرةً إيجابية لدعبل الخزاعي، وللسيد الحميري، وللكميت بن زيد الأسدي، والحال أن أمثال زرارة ومحمد بن مسلم وشخصيات كبيرة من هذا القبيل كانوا موجودين في منظومة الأئمة(ع)، ومع هذا يحنو الإمام الرضا(ع) على دعبل، ويهتم الإمام الصادق(ع) بالسيد الحميري ويودّه. السبب هو وجود الجانب العاطفي في شعر الشعراء ومدح المداحين على أتم وأوفى نحو وبشكل غير متوفر في مواطن أخرى، أو إذا كان موجوداً فبنحو ضعيف، أو لنقل إن تأثيره ضعيف. الشعر والمدح وذكر المناقب له مثل هذا الدور في تاريخ التشيع.
- الزهراء(ع) القدوة:
إنّ القدوة يجب أن لا يُعرّف ويُقدّم لنا كقدوة، ويقال: لنا هذا قدوتكم؛ فمثل هذا الإقتداء تعاقدي ومفروض وخالٍ من الجاذبية.
فنحن الذين يجب أن نختار قدوتنا بأنفسنا، أي أن ننظر في أُفق رؤانا ومعتقداتنا الحقّة، ونلاحظ الصورة التي نرتضيها لأنفسنا من بين تلك الصور.. هكذا تصبح تلك الصورة وتلك الشخصية قدوة لنا.
ولا أعتقد بوجود صعوبة في حصول الشاب المسلم، وخاصة الشاب المطّلع على حياة الأئمة وأهل البيت في صدر الإسلام، على قدوة له.. الأشخاص القدوة ليسوا قليلين.
أذكر بضع كلمات حول الزهراء(ع)، ولعل هذه الكلمات يمكن تعميمها في شأن الأئمة والأكابر، ويمكن لكم التأمّل في هذا المعنى.
أنتِ سيدة  تعيشين في عصر طغى عليه التطوّر العلمي والصناعي والتقني، وعالَمٍ رحب وحضارة مادية زاخرة بمختلف المظاهر الجديدة، فما هي الخصائص التي يتحقق فيها معنى الإقتداء بشخصية سبقكِ عهدها بألف وأربعمائة سنة مثلاً، هل تتوقّعين في القدوة التي تتأسين بها أن يكون لها وضع كوضعك، تقتفين أثره في حياتك الحالية، وتفترضين على سبيل المثال كيف كانت تذهب إلى الجامعة؟ أو كيف كانت تفكّر في القضايا العالمية، أو ما شابه ذلك؟ كلا، ليس الأمر كذلك، والأمور المطلوبة التي يُقتدى بها ليست هذه؟
بل هناك في شخصية كل إنسان خصائص أصيلة يجب تحديدها أولاً، ثم يُنظر إلى القدوة في ضوء تلك الخصائص والميّزات.
لنفرض على سبيل المثال كيفية التعامل مع وقائع الحياة اليومية المحيطة بالإنسان، فقد تكون هذه الوقائع متعلّقة تارة بعهد انتشار المترو والقطار والطائرة النفاثة والحاسوب، وقد تكون تارة اُخرى متعلّقة بعهد لا وجود لمثل هذه الأشياء فيه، إلاّ أنّ الإنسان لابدّ وأن يواجه وقائع وأحداث الحياة اليومية، وبإمكانه التعامل معها على نحوين متفاوتين -من دون فرق بين العهدين- فهو إما أن يتعامل معها تعاملاً مسؤولاً، وإمّا أن يقف منها موقفاً لا أُبالياً.
ويتفرّع التعامل المسؤول بدوره إلى عدّة أنواع وأقسام، فبأية روحية وبأية نظرة مستقبلية يكون التعامل؟
فالإنسان يجب أن يبحث عن تلك الخطوط العريضة والأساسية في الشخصية التي يتخذها قدوة له؛ من أجل إتبّاعها والسير على خطاها.
- الزهراء(ع) نعمة عظيمة علينا:
علينا أن نحمد الله على أننا عرفناها؛ وعلينا أن نشكر الله على توسلنا بعنايتها وأن نشكره لأنه جعلنا ممن يدرك قدر نعمة وجودها وتوسلنا بها واستلهامنا المعرفة منها وحبنا لها. إنها نعمة إلهية عظيمة وعلينا الحفاظ عليها.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

التعليقات (0)

اترك تعليق