المرأة واشكاليات الانتاج العلمي: الجدل الفكري بين العلماء والمفكرين
خضع موضوع المرأة لتجاذبات حادة في القرون الاخيرة، وخلص الغرب بعمومه نسبيا الى تصور خاص مكتمل لهذا المفهوم، واختار لنفسه طريقا محددا وشاملا نسبيا على هذا الصعيد، على الرغم مما مرت به هذه المقولة من مراحل وخلافات وما دخلته من ارهاصات ومخاضات، لكن القرن العشرين كان بمثابة نوع من اكتمال الصورة غربيا لهذه الاشكالية التي بلغت الغاية في التعقيد.
لكن القرن العشرين نفسه كان، على صعيد العالم الاسلامي، مختلفا جدا، ذلك انه - ولاسباب لا تعنينا فعلا شكل قرن تفجر الجدل حول هذه المقولة الشائكة، وخلقت نتيجة ذلك اتجاهات وآراء ومدارس كثيرة ومتنوعة، بلغت درجة التباين الحاد، وما ميزنا عن الغرب - اي غرب القرن العشرين هو اننا حتى الآن، وعلى الصعيد العام، لم نلتق على عدد كبير من المشتركات، ولم نكمل تصورا يمكن نسبته الى الامة بمجملها، خلافا لما حصل في غرب الكرة الارضية.
واذا ما حاولنا الاطلالة على المسار التاريخي للخلاف الاسلامي-الاسلامي في شأن المرأة، لربما تملكنا شعور بالاستغراب عندما نجد -مع الاحتفاظ بالفوارق- نوعا من اعادة أو تكرار أو... البحث حول موضوعات محددة من قاسم امين ومحمد عبده الى المطهري وابي زيد والسعداوي وشحرور وغيرهم، وهكذا نجد نوعا من التشابه في المواقف مابين بدايات القرن العشرين ونهاياته [...].
ان هذا الواقع الثقافي يحكي عن درجة من المراوحة، او فلنقل: أحيانا الكرّ والفرّ المحدودين، ولعل قرنا كاملا من الزمن (على أقل تقدير) ربما يعد مقطعا زمنيا كافيا لانتاج قواسم أو بلورة أوليات يفترض من الناحية التاريخية المحض تجاوزها، ومع تحقق هذا الامر الا أنّ الخلاف لا يزال حادا، والأهم بنيويا.
لكن استعراضا توصيفيا في غاية الإيجاز لمسيرة الجدل الثقافي في شأن موضوع المرأة يحكي عن نمطين من التفكيروالتعاطي:
1. نمط ما زال يحتكم الى النص، وما حصل في هذا الفريق بشقيه المختلفين هو محاولة من دعاة التغيير، أو التجديد الكلامي والفقهي، لكسر حصار النص من خلال آليتين:
إحداهما: آلية الحفر خلف الجانب الصدوري للنصوص، وهو أمر يتسنى في السنة الشريفة، ويصعب، بل يستحيل عمليا، في القرآن الكريم. إنّ هذا الحفر الذي يهدف إلى تقويض النص من خلال نفي صدوره، وجد لنفسه فرصة ملائمة جدا، والسبب في ذلك هو ان مجموعة تصورات اجتماعية عن المراة لم يعمد المتكلمون والفقهاء المسلمون السابقون الى تحقيقها اتكالا على الوضوح العام في الوعي والعقل الجمعي المسبب عن بنينة خاصة للمجتمع القديم. وقد سعى الحفارون هنا الى هدم النصوص التي تبنت هذه المفاهيم الكلية عن المرأة، والتي من أبرزها مفهوم نقصان عقل المراة، لأن عدم بحث السلف فيها ادى تدريجيا الى حالة من التغاضي الذي يراكم عيوب النص لتاتي عملية الحفر اللاحقة فتكشفها دفعة واحدة خالقة اشكالية متعددة الاطراف والجبهات، اما لو كان هناك تعامل سابق مع هذه النصوص فان التمادي التاريخي يمكنه أن يخفض أحيانا من حدة بعض هذه الاشكالات.
والمرحلة التمهيدية التي قامت بها حركة التغيير، على هذا الصعيد، تمثلت في نسف مقولتي الاجماع والشهرة على الصعيد الشيعي، ومقولتي السلف الصالح وصحة الكتب الستة السنية على الصعيد السني، وهو أمر لم يكن بالامكان تحقيق خطوات ملحوظة لهذا التيار من دون تأمينه.
ثانيتهما: آلية تكوين قراءة جديدة للنص، تدخله في الحساب التاريخي، والمكسب الذي سيتحقق حينئذ يقوم على محاولة عزل النص عن الواقع الاجتماعي الحالي من خلال وصله ببنى وهيكليات اجتماعية - سياسية سابقة لم يعد بالامكان تحققها اليوم.
هذه التاريخانية لم تتمكن من النفوذ الى معاقل التيارات المدرسية في الفكر الديني خلافا لمسالة التشكيك في أسانيد الحديث ومصادره، ولهذا نجد نوعا من المحدودية في حضور التاريخانية للنص في هذا الوسط قياسا بالاوساط الأخرى في الساحة الاسلامية، والسبب في ذلك يعود الى نوع من إحساس التنافي بين هذا النوع من القراءة وبين الاوليات الكلامية والأصولية-الفقهية القاضية بثبات النص ومفاده، أما على صعيد التشكيكات الصدورية للنصوص الدينية فكان أمرا أخف وطاة، لأن الاتجاه المدرسي كان قد الف هذا النمط من التعاط ي عموما على صعيد علمي الرجال والحديث.
وقد شكل الوضع الاجتماعي-السياسي السابق للمرأة أساسا أوليا لدعاة التاريخانية، وعلى سبيل المثال ربطت مسالة الارث باقتصاد الاسرة الذي كان قائما على العنصر الذكوري، ووصلت قضية السلطة بتركيبة الدولة ما قبل الحديثة، وأنشات الجسور ايضا ما بين التخلف العلمي والثقافي والاجتماعي للمرأة وما بين موضوع الطلاق وهكذا...
2. وعلى خلاف هذا النمط من التعاطي مع موضوع المرأة، والذي شعرت الاتجاهات المدرسية بامكانية التفاهم معه الى حد معين، كان هناك نمط آخر قرأ المرأة من زاوية عقلانية، رافضا وبدرجة كبيرة نسبيا مرجعية النص، ولو تاثرا بتاريخانية قراءة النصوص.
وقد اعتقد هذا الاتجاه، ولا يزال، بخطأ افتراض مرجعية نصوصية لقضية المرأة، وكان يرى أن من الشطط خوض الجدل مع الاتجاه المدرسي على أساس النص، لأن النص يصعب التعامل معه في موضوع كهذا، وبالتالي فأي اعتراف -ولو جدلي- بمرجعية كهذه معناه التورط في مرحلة لا نهاية لها من الممكن أن ينتصر فيها المدرسيون وانصارهم.
وقد حاول بعض انصار هذا الاتجاه تخفيف حدة النزعة العقلانية الرافضة للنص عنده، من خلال التخلي عن النصوص الجزئية الواردة في القرآن والسنة حول المراة، ومحاولة خلع لباس المقاصدية والخطوط الكلية على قراءتهم انطلاقا من عناوين العدل والاحسان والحق والمعروف و... وهي عناوين عقلانية جاءت تأييدات عامة لها في النص الديني.
لكن، وفي قبال هذه الحركة المتعددة الاشكال والمناهج، كانت هناك تيارات رافضة ذات مظاهر مختلفة ايضا في ساحة الفكر، يمكن القول انها تختصر في اتجاهين:
أ- الاتجاه السلفي الماضوي: وهو اتجاه اعتقد برفض شامل وكامل لأي حديث عن المرأة اكتفاء بالنتاج الفكري القديم وبالوضع الاجتماعي-السياسي السابق لها، وقد انطلق أنصار هذا الاتجاه من سلسلة مترابطة من القناعات تبدأ-نظريا- من كلاميات وفقهيات -وعمليا- من تجربة سابقة يرون فيها افضل انموذج لحفظ الاسرة وتماسكها، وللتخفيف من الفساد الاخلاقي والاجتماعي، وخفض معدلات الجريمة.
ب- الاتجاه المدرسي العقلاني: وهو اتجاه برزت فيه شخصيات كبيرة في القرن العشرين، وقد ركز هذا الاتجاه نشاطه على صعيدين:
احدهما: يمثل تقديم صياغة علمية داخلية لموضوعات المرأة غلبت عليها سمة اعادة انتاج من دون تغيير في النتائج، اي اعادة صياغة وتشكيل للنظم المفاهيمية مع الأخذ بعين الاعتبار ثبات النتائج.
ثانيهما: تقديم تفسيرات عصرية للنتائج المفروغ منها يمكنها عقلنة معطيات النصوص، أي تقديم تفسيرات لقضايا الحجاب وعلاقته بالحرية، وتعدد الزوجات وعلاقته بالحقوق و... وقد ساعدت التركيبة الذهنية-الاجتماعية، في المجتمعات الاسلامية، على نجاح هذه التفسيرات ومعقوليتها لدى الراي العام، وهو ما قد ينذر بفشل الديمومة، نتيجة التغيرات التي طرأت في العقدين الأخيرين -سيما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي- على العقل الجمعي ككل، ومن هنا يلاحظ أن مواصلة هذا الطريق في الاونة الاخيرة عانت من بعض المشاكل نتيجة ربما الاعتماد على منهج التسويغ السابق الذي سبق التحولات الثقافية الاخيرة في المجتمع الاسلامي.
وأمام تنوع الآراء والمواقف الى حد التباين ما بين الاتجاهات جميعا ربما يحق لقلم ان يسجل الملاحظات الآتية:
الملاحظة الأولى: لعل من أبرز الاشكاليات التي عانت منها الاتجاهات كافة هي مرجعية الغربي، أي أن فريقا كان يرى الأمثولة في الانموذج الغربي فكانت الرؤى والقراءات تصاحب هذه الامثولة على الدوام أو غالبا، لكن فريقا آخر كان يتموضع في مكانه، والمرجعية العكسية التي تدفعه الى هذا التموضع هي الغرب نفسه.
لا يمكن فصل الغرب عن أي مشروع فكري عالمي، لكن الاسلامي الذي يريد تقديم صياغة متكاملة لموضوع المرأة لايحق له من ناحية منهجية ايبستمية أن يتماهى والغربي في مشروعه، حتى لو كان مشروعه أسلم المشروعات، وهو أمر مع الاعتراف بعولمة بعض فروع الثقافة اليوم يؤول، في ما يؤول، الى الخصوصيات الثقافية للحضارات والأمم.
الملاحظة الثانية: ما نحتاجه اليوم هو القيام بانتاجين متوازيين لموضوع المرأة، انتاج داخلي يعيد قراءة الموضوع بطريقة أكاديمية تقليدية أو غير تقليدية من دون الاخذ بنظر الاعتبار مصادرات مسبقة، وانتاج عقلاني لا يحاول عقلنة مفردات الجدل حول المرأة هذه المرة -وان كان أمرا مطلوبا بل يحاول عقلنة القراءة الوجودية الشاملة لهذا العنصر الاجتماعي، أي يحاول فلسفة الموضوع لا تبرير المفردة، لان البقاء في تسويغ المفردات من دون المكون التحتي لفلسفة الموضوع، سيفقدنا تكامل الصورة من جهة، ويغرقنا في دوامات تعاني من أزمة تخاطب من جهة ثانية.
مأخذ: موقع مجلة المنهاج عدد 25- حيدر حب الله
اترك تعليق