المرأة والاصلاح السياسي
«وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ * وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ » (التوبة 71-72).
هذه الآيات قد تكون من أهم الآيات الصريحة الواضحة التي تحدد دور المرأة المؤمنة في الحياة الاجتماعية كلها، وإذا سلمنا نحن باعتبار أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من المسؤوليات الجسام في الاسلام والتي يتضح فيها الأمر الإلهي بالاستمرار فيها باعتبار صيغة الحال التي جاءت بها الكلمات المباركة (يأمرون- ينهون) فإن الآية تبين بوضوح وبدون أي ضباب أن هناك دوراً مطلوباً من المرأة لكنه أيضاً ليس دوراً متميزاً بل هو دور مماثل لدور الرجل، فالآية لم تعزل الاثنين عن بعضهما في نصرة أحدهما الآخر أو في القيام بالأدوار المهمة منهما بل جعلت بين الطائفتين تعاضد وتعاون ورسمت لهما هدفاً واحداً في الحياة هو ردم السلبيات التي سماها القرآن الكريم بالمنكر وبناء الايجابيات وهو (المعروف) وبهذا حدّد الإسلام للمرأة مسؤولياتها الانسانية التي تطال الحياة العامة أنه يدعوها وبكل صراحة إلى المشاركة في التغيير.
ويحصر البعض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في إطار الأسرة الضيق، وهذا وإن كان أحد مساحات هذا الركن المهم لكنه ليس كله بل هو جزء يسير منه وإلاّ فلم الحاجة إلى دعوة المؤمنين أيضاً إلى النصرة والتعاون مع النصف الآخر؟
الآية هنا توضح أن النهضة الاجتماعية لا يمكن أن تحصل بتعطيل نصف المجتمع عن فهم الدور المناط به وإلغائه، حينئذٍ حتى لو أراد أي مجتمع النهوض فإنّه سينهض بساق مبتورة، وسيتلكّأ عند مواصلة السير برجل عرجاء ولو لاحظنا الأدوار التاريخية للمرأة لوجدنا أنها ساهمت في عملية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بأشكال وصور متعددة بل كانت هناك مشاركات واضحة للنساء المسلمات في مواقع لم يكن فيها الرجال أو كانوا بعيدين عن ذلك وأبسط مثال على هذا الأمر هو وقائع الوافدات على معاوية وجرأة الواحدة منهن في رد المنكر ودعم المعروف.
وإذا قلنا نحن أن أبشع أنواع المنكر هو الحاكم الظالم والقانون الفاسد لتبين لنا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يتطلب مشاركة النساء بوضوح في هذا الأمر وكلنا نرى أن التغيير الاجتماعي يسير أوضح وأسرع إذا رافقه تغيير القوانين السياسية الحاكمة في بلد أو إزالة الحاكم الظالم الذي اصطلح عليه القرآن باسم الطاغوت وأبرز صورة له في القرن الماضي في الاستعمار الذي استوطن البلاد الإسلامية، وأمور الزواج والطلاق والحضانة وعمل المرأة كلها أمور اجتماعية ولكن حينما يكون القانون المتصدي لهذه الأمور نازلاً من فوق، من القوة السياسية الحاكمة فإنه يكون أمراً إلزامياً على الجميع وسيكون حجة تجعل المتخلف عنه عرضة للعقاب. فالمسألة الاجتماعية وكذلك الثقافية في كل المجالات ومناهج التدريس وكذلك الأخلاقية في الإباحية والمجون أو التطرف، هذه كلها أمور اجتماعية تحتاج إلى ركائز عليا. هنا تظهر أهمية الاصلاح السياسي وخاصة في إصدار قوانين الأحوال الشخصية التي بدأت في البداية شيء من ركام الاستعمار ثمّ سارت معه نحو العلمانية بعيداً عن شريعة الإسلام ودستوره الواضح في القرآن الكريم، وإذا كان الاصلاح فسنقول حينئذٍ أن الاصلاح السياسي هو نفسه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وللمرأة دور لا يقل أبداً عن دور الرجل منه.
في هذا النص المهم قرر القرآن أن المرأة مسؤولة مع الرجل عن إصلاح الواقع وعمارة الأرض، فالرجال والنساء فيه أولياء بعضهم ليسوا ذكراً أو أنثى ولا سيداً أو مسوداً ولا جنساً أعلى وآخر أدنى ولكن كلاً منهما معين للآخر وناصره في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أي أنهم جميعاً مسؤولون عن إصلاح المجتمع وتقويمه ومن ثمّ عن تقدمه والنهوض به الأمر الذي يستلزم انتشاراً واسعاً متكافئاً في كافة ميادين التربية والتنمية والتوجيه، ولكي تنهض المرأة بواجبها في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا بد أن تتسلح بما تقتضيه تلك المسؤولية الكبرى من علم وخبرة ليس ذلك فحسب وإنما لا بد لها أن تكون هناك في قلب موقع الاصلاح وشريكة في اتخاذ القرار.
ويقول حسن جابر:
(إذا كانت المسألة تطال المناخ السياسي والفكري العام فالمرأة بإمكانها لعب دور ما في بلورة الحركة السياسية وإطلاقها والضغط عليها لمصلحة الموقف الإسلامي).
ولما كانت سبل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعددة، فإن هذا الأمر سوف يتيح للمرأة المؤمنة المشاركة الأوسع لأنها تستطيع أن تستفيد من الفرص المتاحة لها بما يتناسب مع قدرتها، وبهذا سيكون لها وجوداً متنوعاً تستطيع من خلاله دعم الإيجابيات وردم السلبيات.
ولما كانت الحياة الإسلامية في المجتمع حياة موجهة فإن الجميع يشارك نحو هدف واحد هو التوجيه نحو العقيدة الإلهية وتحكيم مبدأ الخلافة في الأرض، والمرأة غير مستثناة أبداً فقد ألغت الآية كل أسباب التفاوت على أساس الجنس ووحدت الجميع للسعي نحو عمل واحد ليدل بذلك على أنهم مع كثرتهم وتفرقتهم من حيث العدد ومن حيث الذكورة والأنوثة ذو كينونة واحدة متفقة لا تشعّب فيها ولذلك يتولى بعضهم أمر بعض.
لقد استطاع الإيمان في مضمونه أن يركز المجتمع المؤمن من النساء والرجال الذين حملوا مسؤولية العقيدة على أكتافهم وتحملوا كلّ نتائجها على صعيد الواقع بكل هدوء واطمئنان. وذلك هو ما يريده الله أن يثيره في أجواء المؤمنين والمؤمنات على مدى الزمن فيما يستقبلهم من أجواء وأوضاع فقد ينبغي لهم أن يعيشوا مثل هذه الولاية القائمة على أساس متين من الخط المستقيم والهدف الواضح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
وفي وقتنا الحاضر نرى تكالب الشرق والغرب وتظافر الجهود واتحادها من أجل دحر الإسلام والترويج للمنكر في مجتمعاته وإزاحة المعروف أو قوقعته أو نعته بشعارات شتى، نجد أهمية التكاثف الجماعي الذي يظهر قوة المسلمين ويسمو بهم نحو الأهداف العامة، لقد رسم الإسلام (للمؤمنين والمؤمنات) على حد سواء طريقة التحرك الاجتماعي عبر (غض البصر – الحجاب - لا يخضعن بالقول... لا يخلو الرجل بامرأة أجنبية) وغيرها الكثير وبذلك تتجلى صورة المجتمع الفاضل الذي يسمو بالإنسان نحو إنسانيته بعيداًَ عن الصورة الغربية التي جعلت الانسان لا ينظر إلاّ إلى الجنسية المقابلة ولهذا تجد للمرأة أدواراً يندى لها الجبين في الهيئات السياسية العلمانية والغربية مثلاً عبر الإباحية والجنس والإثارة للحصول على الأسرار أو أداء العمليات الموكل إليها، دور هامشي وأنوثة مسحوقة، في دائرة الشيطان القاعد على الصراط المستقيم.
ولا أدري هل وصلنا إلى يقين بأهمية حضور المرأة ومشاركتها في هذه العملية الجسمية التي لا تستطيع التغاضي عنها أو التقاعس عنها باعتبارها من فروع الدين كالصلاة والصوم؟ أم أننا ما زلنا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعضه؟
وقد يقول قائل أن الأمومة هي الدور الرئيسي للمرأة في بناء الإنسانية؟ والذي نقوله أن لا تعارض بين الدورين، فها هي الأم الفلسطينية تهب الحياة أجيالاً تلو أجيال من الفدائيين والثائرين الرافضين لوجود إسرائيل وترى انتفاضة القدس يتسابق فيها الصغار والفتيان؛ أمة جديدة تصنع نصراً جديداً يجلعها في موقف الإجلال الذي ما حظى به كبار الناس وسادتهم. أليست هذه هي الأمومة المرتجاة في ظل العقيدة السمحاء؟ ثمّ من قال أن المطلوب (استقالة المرأة) عن دورها الأمومي الذي هيأ الله تعالى له أسباب الوجود لكي تكون هي صانعة الشعوب؟ ولن يضر المرأة إسهامها بشيء من وقتها لدعم المستضعفين في الأرض ونصرة المظلومين وإثارة الأجواء السياسية في وجه الظالمين.
وفي نهاية الآية نجد المساواة في الأجر: «وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ»
فلما كانت المسؤولية الدينية واحدة فلم يكون الأجر متفاوتاً؟ هذا الأمر الواضح في التشكيلات والهيئات المعاصرة ولكنه لن يجد موضعاً في عدالة الله المطلقة، إنه يمنحها من الأجر ما يمنحه للرجل دون فرق على حساب الجنس ما دام الاثنين قد أدوا أعمالهم وفروضهم ولم يتقاعسوا عنها وكم كان من المجحف حقاً أن يكون للمرأة دور واضح في حركة التحرر العربية ولكنها همشت بعد انتهاء الحاجة إليها ووضعت أدوارها السابقة في خبر كان.
* مصدر: المرأة والعمل السياسي-كفاح حداد
اترك تعليق