السيد حسن نصرالله: حركة السيدة زينب في الثورة الحسينية حركة استشهادية
كلمة أمين عام حزب الله السيد حسن نصر الله في احتفال تكريم السيدات بمناسبة مولد السيدة زينب(ع) جمادى1 1415هـ.
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع الشهداء والمجاهدين في سبيل الله منذ آدم إلى قيام يوم الدين.
السلام عليكم جميعاً ورحمة الله وبركاته...
إنّ انتخاب هذه المناسبة وهذا التوقيت لتكريم أخوات كنّ أسيرات وأُطلق سراحهن، هو وبلا شك اختيارٌ موفّق لعظيم الصلة بل لكامل الصلة بين صاحبة المناسبة وبين العنوان والصفة، اكتسبتها هذه المجموعة من الأخوات؛ أعني بين السيدة زينب(ع) سلام الله عليها في ذكرى ولادتها الشريفة وبين عنوان الأخوات الأسيرات اللاتي أُطلق سراحهن، واللاتي نجتمع هنا لتكريمهنّ وأداء جزء بسيط ومتواضع من حقّهن على مسيرتنا وجهادنا وحركتنا وأمتنا.
أُؤكّد أنّ هذا الاختيار كان اختياراً صحيحاً وموفّقاً. في أيّ حركة جهاديّة، وبالنسبة لأي شعب يتّخذ قراره بالجهاد والمقاومة، ومواجهة الظالمين والطواغيت سواء كان هؤلاء الطواغيت يحملون صفة المحتل والغازي فنقاوم محتلاً لأرضنا، أو كان هذا الطاغوت يمثّل النظام الظالم المفسد الذي ينشر الفساد في مجتمعنا، وفي أرضنا، ويحكم الناس بالظلم والقهر والقمع، ويحارب الإسلام كرسالة إلهية، في كلا الحالتين عندما نخوض جهاداً أو ثورة ومقاومة فلنسمّها بأي اسم كان. بهذا الجهاد ولهذه الثورة ولهذه المقاومة ثمن.[...]
عندما نريد أن نتكلم مع بعضنا نقول أن هذا طبيعي في هذا الطريق ولو لم يكن هذا الطريق محفوفاً بالمشكلات، والمكاره، والصعوبات، والآلام، والمعاناة، والجراح لما سُمّيَ جهاداً، لسُمّيَ مثلاً سياحة "شم هواء"، رحلة تقطيع وقت، لسُمّيَ عرفاً لهواً أو أي شيء آخر.
لكن عندما يسمى عمل ما باسم الجهاد وباسم المقاومة، فطبيعي أن نفترض مسبقاً بأننا عندما نحمل هذا العنوان ونخوض في هذه الساحة، علينا أن لا نتفاجأ بل من الطبيعي جداً أن تواجهنا صعوبات، شدائد، حصار، ضغط، إرهاب، تهويل وتهديد في مراحل الطريق، جرحى هنا، شهداء هناك، وأسرى هنا، وأسيرات هناك... وأيضاً من الطبيعي جداً ونحن نعيش في هذا الطريق أن يتخلى البعض، أن ينحرف البعض، أن يسقط البعض وأن يستمّر البعض الآخر. لا توجد مسيرة جهاديّة أو حركة جهاديّة في التاريخ إلا وعايشت أو واجهت مثل هذه الظواهر التي تعتبر ظواهر طبيعيّة، وعاديّة في الحركة الجهادية.
في الحركة الجهادية من الطبيعي أن يسقط جرحى، فنحن لا نلعب، لا نلهو، من الطبيعي أن يسقط شهداء، من الطبيعي أن يقع أسرى، من الطبيعي أن تُسبى نساء مجاهدات... هذه من اللوازم الطبيعية والعادية للعمل الجهادي وليست استثناء، ليست أمراً طارئاً، إنها من مستلزمات، بل من مضامين العمل الجهادي والحركة الجهادية؛ عندما نواجه عدونا يجب أن نتوقع كل شيء، عندما نأخذ قرار المواجهة يجب أن نتحمّل كل المعاناة المترتبة على آثار هذه المواجهة، ويجب أن نكون مستعدّين أيضاً لأن ندفع ثمن هذه المواجهة بكل إخلاص وبكل صدق، ويجب أن لا نتفاجأ بأية مصيبة أو أية كارثة، أو ضغط، أو أحياناً شكل من أشكال الهزائم، لأنّ الحرب والجهاد والمقاومة هي سلسلة من الهزائم والانتصارات التي يجب أن تنتهي حتماً بالانتصار الإلهي الموعود بحسب الوعد الإلهي.
طوال التاريخ كان الأمر كذلك مع رسول الله(ص)، منذ بداية الدعوة كانت الكلمات تمتزج بالدماء، حتى ولو لم يكن قد أُذن للمسلمين الأوائل بأن يحملوا السيف في مكة، إلّا أنه كان هناك شهداء في مكة، كان هناك سجناء في مكة، كان هناك مهجرون ومشردون من مكة، هناك بيوت هُدّمت وأُحرقت في مكة، ومع كل هذا كان رسول الله(ص) لا يأذن لأصحابه بخوض قتال، كان ينتظر الأمر الإلهي، التوقيت الإلهي، التشخيص الإلهي للمصلحة. وكان المسلمون والمسلمات يتحملون كل هذه الأعباء، ومنذ البداية كان معروفاً أنّ الانتساب إلى الشهادتين، إلى الإسلام، والتخلي عن آلهة قريش ومكة يعني الاستعداد لمواجهة كل هذه النتائج. ومنذ البداية عندما نتحدث عن الشهادة أو نتحدث عن الجراح، أو نتحدث عن الأسر والسبي أو نتحدث عن الآلام أو المعاناة كانت المرأة المسلمة جنباً إلى جنب مع الرجل المسلم في كل مراحل الجهاد وفي كل نتائج الجهاد وفي كل تحمل تبعات وآثار الجهاد.
ليس من الصدفة أن يكون أول شهيد في الإسلام امرأة
في إحدى المناسبات -أنا قلت- أذكر لعله في أيام عاشوراء أو قبلها -لا أذكر- ليس من الصدفة -أيتها الأخوات- أن يكون أوّل دم يُسفك في سبيل الله والإسلام، وليس من الصدفة أن يكون أول شهيد يُقتل تحت راية رسول الله(ص) الأعظم وخاتم الأنبياء والرسل محمد بن عبد الله(ص) أن تكون امرأة، هذا ليس صدفة كلكم تعرفون -والتاريخ يُسجّل هذه الحقيقة- أول شهيد في الإسلام "سُميّة"، هل هذا صدفة، هكذا بشكل عشوائي حدث هذا الأمر؟ لا أبداً ليس هناك صدفة في هذا الشأن، هناك اختيار إلهي مُتعمّد ومقصود وكل ما يجري في هذا الكون يجري تحت عين الله وبمشيئته وإرادته واختياره. وأقول أنه إذا أُجري التدقيق في هذا الأمر فهذا ينعكس حتى على فهم الإسلام لدور المرأة، وعلى نظرة الإسلام، وعلى التقييم الخاص الذي يعطيه الإسلام الإلهي لهذا الصنف من البشر.
يجب الوقوف عند هذه الملاحظة وهي أنّ هذا الأمر لم يحدث بالصدفة. أنّ القرآن الكريم كما تعرفون يضرب مثلاً للذين آمنوا من الرجال والنساء امرأة فرعون.
أوّل شهيد في الإسلام امرأة وهذا برسم الذين يعتبرون أنّ المرأة غير معنيّة بالمساهمة والحضور والمشاركة الجادّة والفعّالة في مسيرة الجهاد والثورة والمقاومة، وفي صفوف الحركة الإسلاميّة. هذا الجواب على كلّ الإشكالات التي يمكن أن يطرحوها، أنا لا أقول أنَّ هذا يعني أنّ على المرأة أن تحمل السلاح لتقاتل في الصفوف الأماميّة، ولكن هذا يعني أنّه ليس صحيحاً أنّ المرأة موقعها في هذه المعركة وفي هذه الحركة حيادي وسلبي وثانوي وإنّما موقعها ودورها أساسي ورئيسي، وهناك نوع من الأدوار لا يمكن في الحركة الإسلاميّة إلّا أن تقوم به امرأة، هناك نوع من المهام، نوع من الوظائف، نوع من الأدوار لا يمكن إلّا أن تقوم به امرأة في ظروف محدّدة، وهناك نوع من المهام ومن الوظائف يمكن أن تقوم به امرأة ويمكن أن يقوم به رجل ولكن المرأة تكون أكفأ وأقدر بحسب تركيبتها وطبيعتها لأداء هذا الدور.
هنا سأذكر مثلين:
المثل الأوّل: في مسألة كربلاء وحادثة السيدة زينب(ع)، ونفس النموذج ينطبق في حادثة السيدة الزهراء(ع)، في الأجواء الخاصة التي تلت وفاة رسول الله(ص). لم تكن الظروف الخاصة التي عاشتها الأمّة ومجتمع المدينة، يُتيح الفرصة والمجال لرجل مهما [الأصل: أيّ] كان هذا الرجل أن يقف ليقول كلمة الحق بكل شجاعة وبكل وضوح وبكل صراحة. لم يكن هناك إمكانية، لكن الإمكانية فقط كانت متاحة لأن يقوم بهذا الدور امرأة وغير هذه المرأة لا يمكن لأحد أن يؤدّي هذا الدور، وأن يُعطيه حقّه وحجمه وأن يُسجّل هذا الموقف بشكل أبدي للتاريخ. هذا الموقف هو موقف السيدة الزهراء(ع) في خطبتها المعروفة في مسجد الرسول(ص). الكلام الذي قالته السيدة الزهراء(ع) كان لا يمكن أن يقوله رجل من أبناء هذه الأمة ومن رجال هذه الأمة أبداً. هذا الدور كان لا يمكن أن يقوم به إلّا امرأة، وبالتحديد فاطمة بنت محمد(ص).
نموذج كربلاء ومسؤولية المرأة
في نموذج كربلاء الدور الذي يُسمّيه بالزينبي يعني مسؤولية حمل رسالة هذه الدماء، حمل صوت هذه المظلوميّة لهذه الدماء التي سُفكت في كربلاء، قضية هذه الدماء رسالة، لهذه الدماء مظلوميّة خاصة، لهذه الدماء وضع خاص ووقع خاص على امتداد التاريخ، الوحيد الذي كان قادراً على أن يحمل صوت هذه الدماء، وقضية هذه الدماء، ورسالة هذه الدماء إلى كل أبناء هذه الأمة وإلى كل الأجيال الآتية في التاريخ كانت امرأة. لا يمكن لأي رجل أن يقوم بهذه المهمّة، لأنّه بعد سقوط الشهداء لو بقي رجل واحد لقُتل؛ يعني ليس هناك إمكانية تكوينية، وليس هناك إمكانية مادّية لبقائه لا يمكن أن ينجو من ساحة كربلاء رجل قادر ويملك كل الغطاء؛ الغطاء الشخصي والغطاء الاجتماعي والغطاء السياسي ثمّ يقف ليتكلم وبهذه الصراحة، كان هناك مشكلة أن يبقى على قيد الحياة. الإمام زين العابدين(ع) كان له خصوصيّة فقد كان مريضاً وهناك عناية إلهيّة خاصة، وفي حركة التبليغ لم يكن له الدور البارز ولم يكن زين العابدين(ع) في الواجهة.
من الذي كان في الواجهة؟
زينب(ع). وإلّا لو كانت حركة زين العابدين(ع) لوحدها كافية لماذا كانت تقف زينب(ع) في الكوفة، وتخطب وتقف أم كلثوم وتخطب، تقف سكينة وتخطب، وتقف نساء الحسين(ع)، أو بنات الحسين(ع)، أكثر من امرأة تقف لتخطب في أهل الكوفة هذا أمر متعمّد. المرأة، سواء كانت زينب(ع) أو أم كلثوم(ع) أو سكينة(ع) هي الأقدر على أن تحمل هذا الصوت، أن تحمل هذا الدم؛ أن تنشره في عقول، في عيون، في آذان، في قلوب، في وجدان، في ضمائر أبناء كل هذه الأمة.
وأضف إلى ذلك، في مثل هذه المأساة، مَن الأقدر عاطفياً على أن يُعطي للمأساة بُعدها العاطفي؛ الرجل أو المرأة؟ -بمعزل عن المحذور الأوّل الذي يمكن أن نسميه محذور أمني- مَن الذي يمكن أن يُعطي لهذه المأساة بُعدها، عمقها الطبيعي العاطفي الكبير، بالتأكيد عندما تقف امرأة للتتظلّم، لتتحدث عن مأساة، قدرة المرأة على تصوير موقف مأساوي وعاطفي أكبر بكثير من قدرة الرجل أحياناً، وخصوصاً إذا كانت هذه المرأة قد عاشت المأساة لحظة بلحظة بكل مشاعرها، بكل عواطفها، هذا مثل.
حركة السيدة زينب في الثورة الحسينية هي حركة استشهادية:
إذاً نعم هناك أدوار في الحركة الجهادية، طوال التاريخ، لا يمكن أن يقوم بها رجل، تحتاج إلى امرأة وإلى امرأة من النوع المسؤول، من النوع الشجاع، من النوع الواعي، من النوع الاستشهادي.
حركة زينب(ع) هي حركة استشهادية، في الحسابات المادية بالكامل. إنّ كل كلمة كانت تقولها زينب(ع) في الكوفة، في المحفل العام أو في مجلس عبيد الله بن زياد، أو في الشام في المحفل العام أو في مجلس يزيد بن معاوية. كل كلمة كانت كافية لأن تُعرّض زينب(ع) للقتل، أو للشهادة، وهي كانت مستعدة لهذا كلّه، وهي التي أيضاً ينقل لنا التاريخ أنّه كلما قام رجال الأمويين لينتفضوا على زين العابدين(ع) لقتله كانت ترمي بنفسها عليه لتحميه، وتقول اقتلوني دونه –يعني روحيّة استشهاديّة حاضرة في كل لحظة وفي كل دقيقة وفي قمة الوعي وليس في لحظة عاطفية غير عاقلة.
دور المرأة في تثبيت العزائم مهمة رئيسية
هناك أدوار قد يقوم بها غير المرأة ولكن بلا شك إنّ المرأة في الحركة الجهادية قد تكون أقدر على القيام بمهمة من هذا النوع، وأذكر كعنوان؛ مهمة تثبيت العزائم، رفع المعنويات، شحذ الهمم، البعض يتصور أنّ هذه عناوين بسيطة أو عادية أو ثانوية في الحركة الجهادية، لا، في الحركة الجهادية تُعدّ القاعدة العقائديّة والإيمانيّة قبل السلاح، قبل التدريب على السلاح، قبل التعلم على فنون القتال، قبل الحديث عن الكفاءة العسكريّة والقتاليّة، قبل الحديث عن الإمكانيات الماديّة، البحث الأوّل هو بحث معنويات أبناء الحركة الإسلاميّة والجهاديّة، معنوياتهم، عزيمتهم، تصميمهم، ثباتهم... هذه المسألة رئيسية، الله سبحانه وتعالى في القرآن عندما جعل المسلم يوازي عشرة من الذين كفروا طبعاً ليس بالوزن ولا بالعدّة ولا بالعتاد، ولا حتى بالخبرة العسكريّة، طوال التاريخ كان الذين كفروا أكثر خبرة على المستوى التقني والفني القتالي من المسلمين، وإنّما المائز هو في عزيمة هذا المسلم، في ثباته، في استعداده للشهادة، في قدرته المعنوية العالية، لا يفرّ من الزحف، لا يخاف من الموت، لا يجبن في المواجهة، لا يتردّد على الإقدام، هذه مميزات الإنسان المجاهد إن كان رجلاً أو امرأة.
غالباً في الحروب، المسألة المعنوية هي التي تحسم نتيجة المعركة، وهذا ما يُسمّى حالياً بالحرب النفسيّة، اليوم أيّ جيش بالتشكيل العسكري، عادة يؤلفون ما يُسمّى بلجنة خاصة أو يجعلون غرفة خاصة للحرب النفسيّة؛ لها اختصاصيّون وكليّات وغالباً ما تهزم دولةٌ دولةً أو يهزم جيشٌ جيشاً بالحرب النفسية، في الوقت الذي يكون الجيش المهزوم أقوى عُدةً وعدداً من الجيش المنتصر. هذا الجانب كان بارزاً بشكل كبير في جهاد أمير المؤمنين(ع) فإنّ العدو عندما يعرف أنه مقابل أمير المؤمنين(ع) فإنّه ينهار وينهزم، فأمير المؤمنين(ع) كان يهزم منافسه معنويّاً ونفسيّاً قبل أن تبدأ المواجهة الفنيّة الماديّة، المسألة بالدرجة الأولى مسألة معنويّات.
اليوم ما يميز المواجهة مع إسرائيل سواء في الساحة اللبنانيّة على أيدي مجاهدي المقاومة الإسلاميّة، أو في الساحة الفلسطينيّة على أيدي المجاهدين الإسلاميين، بالتحديد العنصر الجديد والمهم في هذه المواجهة هو أنّ النوعيّة التي تقاتل إسرائيل اليوم، نوعيّة تعشق الشهادة، نوعيّة لا تخاف، لا تجبن، نوعيّة لها رؤيا خاصّة، نظرة خاصّة، فهم خاص للدنيا، فهم خاص للآخرة، نوعيّة تملك من العزم والشجاعة، والحماس، والثبات، والقوة النفسيّة والروحيّة ما لا يملكه أيّ إنسان آخر. هذا المائز الأساسي والمميّز الرئيسي الذي يتوفّر الآن في ساحة المواجهة. الإسرائيلي، اليوم، أمام قوم لا يرعبهم أيّ تهديد أو تهويل مهما كان حجم هذا التهديد والتهويل. أنا قلت أيضاً في أكثر من مناسبة خلال اثنتي عشر سنة وخلال السنوات الأخيرة لم تبق كلمة في قاموس التهديد والتهويل ولم يبقَ شكل من أشكال الحرب النفسيّة التي يتقنها العدو الإسرائيلي وأتقنها خلال عشرات السنين إلا واستُخدمت في مواجهة حزب الله والمقاومة الإسلاميّة، ولكن لم يتمكن العدو الإسرائيلي على الإطلاق أن ينال من عزيمة ومن إرادة ومن عزم وحماس المجاهدين والمجاهدات. وحتى في المواجهة الميدانيّة، شيء طبيعي جداً أن تأتي طائرات العدو وتقصف منزلاً في جبشيت ومنزلاً في عين التينة وتسقط هذا المنزل على رؤوس أصحابه الزوج والزوجة والأطفال، أن تترك هذه الجريمة آثاراً معنوية ونفسية سلبية جداً على مستوى شعبنا ومجاهدينا، وأهلنا، أو بالحد الأدنى لا أريد أن أتكلم عن الشعب كلّه، أتكلم عن البيوت التي يسكنها مجاهدون مع زوجاتهم وأولادهم؛ وكل أخ مجاهد في الجنوب وفي البقاع الغربي. هذه الساحة هي خط أمامي يُسكن في بيت ما عائلته (أي المجاهد) وهو معرّض في كل لحظة، لأن يواجه المصير الذي واجهه الشهيد ياسر مثلاً في جبشيت، أو الشهيد حسن هاشم في عين التينة.
بقاء هؤلاء المجاهدين، بقاء زوجات هؤلاء المجاهدين، بقاء آباء هؤلاء المجاهدين في بيوتهم بحد ذاته تحدٍّ وتعبير عن أنّ هذا الشكل لم يستطع أن يهزم عزيمة هؤلاء المجاهدين. عندما يأتي سلاح الجو الإسرائيلي، وبهذا الشكل ليقصف موكب الشهيد السيد عباس فيقتل السيد مع زوجته، مع طفله، وبشكل الأجساد المحترمة بعد الحادثة... أي قوم عندما يقتل سيدهم أو قائدهم من الطبيعي جداً أن يتزلزلوا، أن يتعبوا، أن يشعروا بالوهن يتسرب إلى أعصابهم. من الطبيعي جداً عندما يأتي العدو الإسرائيلي من قلب فلسطين إلى نقطة في البقاع ليخطف الحاج الأخ مصطفى الديراني، من الطبيعي جداً أنّ رفاق وأخوة وأبناء هذه الحركة الجهادية التي ينتمي إليها الحاج أن يشعروا بشيء من الهزيمة، الضعف، الوهن، الذل، لكن هذا لم يحصل خلال اثنتي عشر سنة، سواء تحدثنا عن الأسرى والمخطوفين وفي مقدمهم شيخ الأسرى الشيخ عبد الكريم عبيد، أو عن الشهداء وفي مقدمهم السيد عباس والشيخ راغب حرب، أو عن الجرحى، أو عن تعب ومعاناة الجهاد خلال اثنتي عشر سنة. أبداً، لا الحرب النفسية في أشكالها الإعلامية ولا في أشكالها العسكرية وفي أشكالها الأمنية، أي شكل من أشكال هذه الحرب النفسية لم تتمكن من أن تهزم حركتنا الجهادية.
هنا قيمة هذه الحركة، معنويات، عزم يعود إلى العنوان الذي أتكلم به، من أقدر على صنع المعنويات وتثبيت العزائم؟ كلكم تعرفون أنّ الرجال لديهم هذه القدرة في مجتمع ما، في قرية ما أن يقف رجل ليقول للناس اثبتوا، اصبروا، احمدوا الله، هذا طبيعي لكن لو وقفت امرأة في هذه القرية مكان هذا الرجل لتقول للناس اصبروا، اثبتوا، لكان هناك قدرة تأثير أكبر بكثير.
حتى على المستوى الفردي أيهما أعظم وأقوى وأشد تأثيراً أن يأتي الأب لابنه فيلبسه لامَةَ الحرب ويرسله للمشاركة في المقاومة، أو أن تفعل ذلك أمه نحن نعرف أنّ الأم أقدر وأشد تأثيراً في روحيّة وفي نفسيّة وفي عزيمة هذا الإبن إذا فعلت ذلك.
في الحركة العامة حتى في الثورة الإسلامية في إيران معروف فالإمام(قده) عندما يشهد لنساء إيران في فضلهن الكبير على الثورة الإسلاميّة، فهو لا يجاملهن لأنّ الإمام(قده) عندما يمدح جهة فهو لا يجاملها، وإنّه في الحقيقة في بعض الحالات الصعبة والقاسية عندما كان الشاه يفرض أحكام طوارئ شديدة، ويمنع أيّ شكل من أشكال التجول، كان البادئ في كسر هذه الحالة هم النساء قبل الرجال، وعندما كانت النساء تخرج إلى الشارع، يجد الرجال أنفسهم أمام خيار وحيد وهو الخروج إلى الشارع، فهل من المعقول أن تكون زوجة أحدهم في الشارع وهو في البيت؟ أي رجل لا يمكن أن يطيق هذا الأمر على الإطلاق.
للمرأة المسلمة في الحركة الجهادية موقعها الأساسي
الخلاصة التي أريد أن أصل إليها، من التاريخ، من حركة زينب(ع)، من المؤكّد ومن الواضح أنّ للمرأة المسلمة في الحركة الإسلاميّة الجهاديّة موقعها الأساسي والهام، والمتقدّم، ولذلك أيضاً من الطبيعي في لبنان أن يكون في صفوفنا أسيرات، كالأخوات اللواتي نكرمهن الآن، أن يكون في صفوفنا شهيدات، أن يكون في صفوفنا جريحات، أن يكون في صفوفنا صابرات، اليوم زوجات الشهداء وزوجات الأسرى، هذا طبيعي لأنّ حركتنا تنتمي في جذورها العقائديّة، والروحيّة، والنفسيّة، والوجدانيّة، والفقهيّة والشرعيّة، أي تلك الحركة التي أطلقها رسول الله(ص) منذ أن وقف في شعاب مكة، وخاطب بكل شجاعة وجرأة جاهليي قريش وقال لهم قولوا لا إله إلا الله تفلحوا، امتداداً إلى كربلاء، وصولاً إلى ساحة جهادنا الحالية، هذا طبيعي بالانتماء، بالتوجه، بالحركة، بالوظيفة، بالمهمة هذا طبيعي. كل ما نحتاجه فقط أن نكون دقيقين في تشخيص الدور والمهمة التي يجب أن تقوم بها أختنا المسلمة سواء كانت أمّاً أو زوجة أو أختاً أو ابنة. هنا يختلف الناس، هنا يشتبه الناس، هنا قد يخطئ الناس، قد يضع البعض المرأة في مكان ليس مناسب لها، ولا لدورها، ولا لطاقتها، بينما لو وضعناها في مكان آخر لاستطاعت أن تستنفد كل طاقاتها وجهودها الكبيرة في خدمة هذه المسيرة الإسلاميّة الجهاديّة، وهذا يحتاج في الحقيقة إلى وعي، وإلى حكمة، وإلى دقّة، ويحتاج في المقابل إلى أن تتحمّل أخواتنا العزيزات على امتداد الساحة اللبنانية، وعلى امتداد الأمّة الإسلامية مسؤوليّات هامّة وخطيرة، أن يعشن الإحساس بالمسؤولية تجاه المعركة التي تُخاض الآن. اليوم الإسلام هو عنوان معركة الإسلاميون، هم طليعة هذه المواجهة بشهدائهم، بتضحياتهم بأسراهم، الأمة تعيش مرحلة مصيرية، هذه السنوات القليلة الآتية ستحدد معالم المستقبل لعقود من الزمن، لعشرات السنين، بقدر ما نكون حاضرين بالفعل، جادّين إلى أبعد الحدود، نخلص في العمل لله عز وجل، نتجاوز حساباتنا الشخصية، ذواتنا، أنانياتنا، شهواتنا، ونُخلص العمل والجهاد لله عز وجل، بقدر ما نكون إن شاء الله على مقربة من الانتصار الإلهي الموعود.
الأسر من أشدّ الأمور التي يمكن أن يواجهها أسير أو أسيرة
في هذه المناسبة الطيبة، كلمات التكريم والتبجّل ليست بشيء أمام الأخوات الأسيرات، أمام جهادهن وتضحياتهن وعطاءاتهن، وأحب أن أزيدكم أنّ موضوع الأسر –في الحقيقة- في نتائج العمل الجهادي، لعلّه من أشد الأمور التي يمكن أن يواجهها مجاهد ومجاهدة، الجريح في ناهية المطاف يعرف أمره فهو جريح في المنزل يحاول أن يتغلب على جراحه بين عائلته وأبيه وأمه ورفاقه وأخواته، هناك من يؤنس وحشته، هناك من يضمّد جرحه، هناك من يخفّف ألمه، هناك من يعتني به يمكن أن يجد له أيضاً مساحة ودوراً في استمرار هذه الحياة، في استمرار هذه الحركة الجهادية.
أمّا الشهيد فهنيئاً له، بالنسبة للشهيد فهذا سهل لأن الشهيد قد انتقل هذه الدار الفانية، دار الآلام والعذاب والامتحان والمحن والمصائب، وتحمّل المسؤوليات الصعبة إلى تلك الدار؛ فالشهداء سعداء الآن، أليس هذا ما يقوله الإمام الحسين(ع) لولده علي الأكبر "أما أنت يا بني فقد استرحت من همّ الدنيا وغمها وبقي أبوك".
في الحقيقة إذا كنا نريد أن نبكي ليس من باب الأدبيات أن نقول أنّنا لا نبكي للراحلين نبكي للباقين- لا نبكي للشهداء، هؤلاء الشهداء مضوا، الشهداء صدقوا ما عاهدوا الله عليه؛ نبكي لأنفسنا نحن أصحاب المصير المجهول لا ندري نحن إلى أين نصير، هل يُختم لنا بالشهادة أو لا؟ هل يُختم لنا بالعاقبة الحسنة أو لا؟ هل ننحرف كما انحرف كبار المجاهدين في التاريخ أم نبقى على الصراط المستقيم؟ هؤلاء الشهداء الذين فرّق بيننا وبينهم الموت، هل سيجمع بيننا وبينهم العمل الصالح والشهادة الحمراء، والعاقبة الحسنة، أم سيُفرّق بيننا الموت، فهم شهداء وأمراء أهل الجنة وأما نحن قد يُختم لنا بسوء والعياذ بالله، نكون من أهل النار، ويفرّق بيننا وبين هؤلاء الذين نحبهم ونودّهم ونعشقهم، الشهداء انتهت قصتهم ليست مشكلة. من جميع هؤلاء الذين يعانون، المجاهد، المقاوم، المرابط هو يعيش في صحة كاملة، معنويات عالية بين إخوانه، بين عائلته، وفي ساحة الجهاد يتعب، يتألم، ولكنه في نهاية المطاف هناك أبواب كبيرة وكثيرة جداً؛ منها أن يخرج وأن ينزع عنه كل آثار التعب، لتتجدد فيه روح النشاط والجديّة والحيويّة والجهاد والأمل.
أما مشكلة الأسير فهي مشكلة خاصة، فهو بعيد عن الأهل، عن العيال، عن الأحبّاء، عن الرفاق، بعض الأخوة كما تعرفون يواجهون مشكلة الزنازين الإفرادية، وللأسر حساباته الخاصة، مشكلاته الخاصة، عذاباته الخاصة، ولكن ما يهوّن الخطب "أنّ الأجر على قدر المشقّة"، ودرجات المجاهدين على قدر جهاد هؤلاء المجاهدين، المجاهدون درجات كالأنبياء، درجات كالرسل، درجات كالعلماء، درجات كالأتقياء، إذن المجاهدون أيضاً درجات، ومن يتحمل منهم مستوى أعلى وأكبر وأشد من المشقة والجهد، درجته عند الله تعالى وثوابه عند الله تعالى أعظم وأكبر.
نسأل الله عز وجل أن يعطي لأخواتنا اللاتي أُطلق سراحهن خير ثواب وأجر الأسرى المجاهدين المخلصين، وأن يحفظ هذا الأجر وهذا الثواب في كتاب أعمالهن، وأن يعصمهن من كل سوء أو إثم، أو معصية، لأنّ السيئات يُذهبن بالحسنات، وأن يوفقهنّ لكل خير وصلاح وطاعة وجهاد، ليرتقين أكثر في درجات القرب من الله عز وجل.
نسأل الله بحق زينب(ع)، بحق دموعها وآلامها ومعاناتها وصوتها الذي كان يتجلجل في كل الصحراء، ويخترق أعماق التاريخ ليصل إلى قلوب الأجيال، نسأل الله برأس أبي عبد الله الحسين(ع)، بدماء أبي عبد الله الحسين(ع)، بعطش أبي عبد الله(ع)، بغربة ومظلومية أبي عبد الله الحسين(ع)، أن يفك أسرانا ومعتقلينا جميعاً، وأن يعيدهم إلينا سالمين غانمين في أقرب فرصة، إن شاء الله، أن يمكّن عباده المجاهدين من تحرير أسراهم، أن يوفقهم للثأر ممن ظلموا واعتدوا واغتصبوا هذه الأرض وهذه المقدّرات وألحقوا بنا كل هذه الآلام هذا يوم آتٍ لا محال، إن شاء الله، لكن ما نحتاجه، أن لا نقف وأن نستمر في هذا الجهاد وفي هذه المقاومة مهما كانت التضحيات وليس بعد الثورة إلا الفرج وليس بعد العسر إلا اليسر وليس بعد الصبر إلا النصر الإلهي الموعود والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر: مركز دراسات المرأة والأسرة والطفل- جمعية الرابطة اللبنانية الثقافية
اترك تعليق