مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

آمنة بنت الشريد

آمنة بنت الشريد: كلمة حق قالتها أمام سلطان جائر

آمنة بنت الشرّيد *
زوجة عمرو بن الحمق الخزاعي، وهو من أصحاب علي عليه السلام ومن شرطة الخميس(1).
كانت ذات فصاحة وبلاغة. من شيعة علي بن أبي طالب عليه السلام ومناصريه، أسْمَعَتْ معاوية بن أبي سفيان في محاورتها معه كلاماً قارصاً وجواباً لاذعاً. وذلك  لما قُتل علي بن أبي طالب عليه السلام، بعث معاوية في طلب شيعته، فكان في مَنْ طَلَبَ عمرو بن الحمق الخزاعي، فراغ منه، فأرسل إلى امرأته آمنة بنت الشريد فحبسها في سجن دمشق سنتين، ثم أنّ عبد الرحمن بن الحكم ظفر بعمرو بن الحمق في بعض الجزيرة فقتله، وبعث برأسه إلى معاوية، وهو أوّل رأسٍ حُملَ في الإسلام.
 فلمّا أتى معاوية الرسول بالرأس، بعث به إلى آمنة في السجن وقال للحرسي: احفظ ما تتكلّم بهِ حتى تؤديه إليَّ. واطرح الرأس في حجرها. ففعل هذا، فارتاعت له ساعة، ثم وضعت يدها على رأسها وقالت: واحزناه لِصغره في دار هوان، وضيق من ضيمة سلطان، نفيتموه عني طويلا، وأهديتموه إليَّ قتيلاً، فأهلاً وسهلاً بمن كُنتُ له غير قالية، وأنا له اليوم غير ناسية، إرجع به أيها الرسول إلى معاوية فقل له ولا تطوه دونه: أيْتَمَ الله وِلْدَكَ، وأوحش منكَ أهلكَ، ولا غفرَ لكَ ذنبكَ.
فرجع الرسول إلى معاوية فأخبره بما قالت، فأرسل إليها فأتته وعنده نفر فيهم إياس بن حسل أخو مالك بن حسل، وكان في شدقيه نتوء عن فيه؛ لعظمٍ كان في لسانه وثقل إذا تكلّم.
فقال لها معاوية: أأنتِ يا عدوّة الله صاحبة الكلام الذي بلغني به؟
قالت: نعم، غير مُنازعة عنه، ولا مُعتذرة منه، ولا مُنكرة له، فلعمري لقد اجتهدتُ في الدعاء إن نفعَ الاجتهاد، وأنّ الحقّ لمن وراء العباد، وما بلغت شيئاً من جزائك، وإنّ الله بالنقمة من ورائك.
فأعرض عنها معاوية، فقال إياس: اُقتل هذه يا أميرالمؤمنين، فوالله ما كان زوجها أحقّ بالقتل منها.
فالتفتت إليه، فلما رأته ناتىء الشدقين ثقيل اللسان، قالت: تباً لك، ويلك بين لحيتيك كجثمان الضفدع، ثم أنتَ تدعوه إلى قتلي كما قتلَ زوجي بالأمس،» إنْ تُرِيدُ إلاّ أنْ تَكُونَ جَبّارَاً في الأَرْضِ، وَمَا تُرِيدُ أنْ تَكُونَ مِنَ المُصْلِحِين»(2).
فضحكَ معاوية ثم قال: لله دَركِ اُخرجي، ثم لا أسمع بكِ في شيء من الشام.
فقالت: وأبي لأخرجنّ، ثم لا تسمع لي في شيء من الشام، فما الشام لي بحبيب، ولا أعرج فيها على حميم، وما هي لي بوطن، ولا أحنّ فيها إلى سَكن. ولقد عظم فيها دَيني، وما قرّت فيها عيني، وما أنا فيها إليكَ بعائدة، ولا حيث كنتُ بحامدة.
فأشار إليها ببنانه أخرجي، فخرجت وهي تقول: واعجبي لمعاوية يكف عنّي لسانه، ويشير إلى الخروج ببنانه، أما والله ليعارضنه عمرو بكلامٍ مؤيّد سديد أوجع من نوافذ الحديد أو ما أنا بابنة الشريد.
فخرجت وتلقّاها الأسود الهلالي، وكان رجلاً أسودَ أصلعَ أسْلَعِ(3) أصْعَلَ(4)، فسمعها وهي تقول ما تقول، فقال: لمن تعني هذه؟ ألأمير المؤمنين تعني، عليها لعنة الله!.
فالتفتت إليه، فلما رأته قالت: خزياً لك وجدعاً، أتلعنني واللعنة بين جنبيك، وما بين قرنيك إلى قدميك، إخسأ يا هامة الصعل، ووجه الجعل، فاذلل بكَ نصيراً، واقلل بكَ ظهيرا.
فبهتَ الأسلع ينظر إليها، ثم سأل عنها فاُخبر، فأقبل إليها مُعتذراً خوفاً من لسانها.
فقالت: قد قبلتُ عذركَ، وإن تعد أعد، ثم لا أستقبل ولا اُراقب فيك.
فبلغ ذلك معاوية، فقال: زعمتَ يا أسلع أنّك لا تواقف مَنْ يغلبك، أما علمتَ أنّ حرارة المتبول ليست بمخالسة نوافذ الكلام عند مواقف الخصام، أفلا تركتَ كلامها قبل البصبصة منها والاعتذر إليها.
قال: إي والله يا أمير المؤمنين، لم أكن أرى شيئاً من النساء يبلغ معاضيل الكلام ما بلغت هذه المرأة، حالستها فإذا هي تحمل قلباً شديدا، ولساناً حديداً، وجواباً عتيداً، وهالتني رعباً وأوسعتني سبّا.
ثم التفت معاوية إلى عبيد بن أوس فقال: إبعث لها ما تقطع به عنها لسانها، وتقضي به ما ذكرت مِنْ دَينها، وتخفّ به إلى بلادها، وقال: اللهم اكفني شرّ لسانها.
فلمّا أتاها الرسول بما أمر به معاوية قالت: يا عجبي لمعاوية، يقتل زوجي، ويبعث إليّ بالجوائز، فليتَ أبي كرب سدّ عني حرة صلة، خذ من الرضعة ما عليها(5). فأخذت ذلك وخرجت تُريد الجزيرة، فمرّتْ بحمصٍ فقتلها الطاعون، فبلغ ذلك الأسلع، فأقبل إلى معاوية كالمبشّر له، فقال له: أفرغ روعك يا أميرالمؤمنين، قد استجيبت دعوتك في ابنة الشريد، وقد كُفيتَ شرَّ لسانها.
قال: وكيفَ ذلك؟ قال: مَرّتْ بحمصٍ فقتلها الطاعون.
فقال له معاوية: فنفسكَ فبشّر بما أحببت، فإنّ موتها لم يكن على أحد أروح منه عليك، ولعمري ما انتصفتَ منها حين أفرغت عليك شؤبوباً(6) وبيلاً.
فقال الأسلع: ما أصابني من حرارة لسانها شيء إلاّ وقد أصابكَ مثله، أو أشدّ منه(7).
بعث معاوية بن أبي سفيان برأس عمرو بن الحمق إلى امرأته فوضع في حجرها، فقالت: سترتموه عني طويلاً، وأهديتموه إليّ قتيلا، فأهلاً وسهلاً من هدية غير قالية ولا مقلية. بلّغ أيها الرسول عني معاوية ما أقول: طلب الله بدمه، وعجّل الوبيل من نقمه، فقد أتى أمراً فريّا، وقتلَ باراً تقيّاً، فأبلغ أيها الرسول معاوية ما قلت.
فبلّغ الرسول ما قالت، فبعث إليها فقال لها: أنتِ القائلة ما قلتِ؟
قالت: نعم غير ناكلة عنه، ولا مُعتذرة منه.
قال لها: اُخرجي من بلادي.
قالت: أفعل والله ما هو لي بوطن، ولا أحنّ فيها إلى سجن، ولقد طال بها سهري، واشتد بها عبري، وكثر فيها دَيني من غير ما قرّت به عيني.
فقال عبد لله بن أبي سرح الكاتب: يا أميرالمؤمنين إنّها منافقة فألحقها بزوجها.
فنظرت إليه فقالت: يا من بين لحيتيه كجثمان الضفدع، ألا قلتَ من أنعمك خلعاً، واصفاك كساءً؟ إنّما المارق المنافق من قال بغير الصواب، واتخذ العباد كالأرباب، فأنزلَ كفره في الكتاب.
فأومأ معاوية إلى الحاجب باخراجها، فقالت: واعجباه من ابن هند يشير إليّ ببنانه، ويمنعني نوافذ لسانه، أما والله لأبقرنّه بكلام عتيد كنوافذ الحديد أو ما أنا بنت الشريد(9).


الهوامش:

*- أعلام النساء المؤمنات، محمد حسون وأم علي شكور، انتشارات أسوة ط1، ص89.
1- رجال البرقي:4.
2- سورة القصص:19.
3 - الأسْلَع: الأبرص. لسان العرب 8: 160 "سلع".
4-الأصْعَل: دقيق الرأس والعنق. لسان العرب11: 378 "صعل".
5- هذا الكلام عبارة عن مثلين دُمجا، ففي مجمع الأمثال 2: 194 "ليت حظي من أبي كَرِبٍ أن يَسُدّ عنّي خيره خَبلَهُ»، قيل: نزلت بقوم شدّة فقالوا لعجوزعمياء: أبشري فهذا أبو كرب قد قرب منا، فقالت هذا القول، وأبوكرب، تُبَّع من تبابعة اليمن. وقال الجوهري في الصحاح 4: 1365"رضف": الرَضْفُ: الحجارة المحماة يُوغَر بها اللبن، واحدتها: رَضْفَةٌ، وفي المثل "خُذ من الرَّضْفَة ما عليها".
6- الشؤبوب : الدفعة من المطر وغيره. لسان العرب2 :479 « شأب » .
7- بلاغات النساء: 59.
8- الاختصاص: 17. أعيان الشيعة 2: 95، رياحين الشريعة 3: 326.

التعليقات (0)

اترك تعليق