مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

مقاصد الشريعة عند فاطمة الزهراء (عليها السلام)1

مقاصد الشريعة عند فاطمة الزهراء (عليها السلام)1: أقدم وثيقة في تحديد مقاصد الشريعة هي وثيقة خطبة الزهراء ع


أهم وثيقة وأقدمها في تحديد مقاصد الشريعة هي وثيقة خطبة فاطمة الزهراء (عليها السلام) بنت الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله)، وسيدة نساء العالمين، ففي هذه الخطبة تفصيل دقيق وشرح واسع للمقاصد الكليّة والأساسية التي من أجلها وضعت أحكام الشريعة، وخصوصاً أهم الأحكام التي ورد ذكرها في القرآن الكريم من صلاة، وصيام وحج وجهاد.


فلسفة الحقوق أو فلسفة الشريعة
من أهم وأخطر ما يبحثه علماء الشريعة والقانون في عصرنا اليوم [هو فلسفة الحقوق أو فلسفة الشريعة]، ذلك لأن القوانين تتحدد تفصيلاتها وكيفية تطبيقها من خلال القيم التي تسعى إلى تحقيقها في المجتمع. ونظام القيم في الشريعة هي ذاتها نظام القيم بشكل عام في أي دين أو نظام اجتماعي. وفي الإسلام سعى ـ منذ قديم الزمان ـ علماء الشريعة لاستنباط قوانين عامة للشريعة، وحاولوا الإجابة على السؤال التالي: ماذا تهدف الشريعة إلى تحقيقه؟
وللجواب على ذلك ألّفت عشرات الكتب والمصنفات، واشتهر عن (الشاطبي) أنه حدد مقاصد الشريعة في خمسة وهي: حفظ العقل، والدين، والعِرْض، والنفس، والمال.
ومع أن هذه الإجابة صحيحة ـ بلا شك إلا أنها ناقصة ومبتورةـ وتكاد تكون الإجابة تبسيطاً شديداً للقضية المطروحة، علماً بأنها لا تقوم على أي ترتيب وتفاضل بين هذه الأهداف الخمسة، فأيهما المقدم على الآخر؟ النفس أم المال؟ الدين أم العرض؟ الدين أم النفس؟
ولكي نجيب على هذا السؤال لابدّ أن نعود مرة أخرى إلى البحث في القيم الأساسية التي على أساسها يتم التفاضل بين الأهداف.
مناقشة أخرى: إن (حفظ الدين) تعميم واسع، لا يضع يدك على جدار ثابت، فما هو المقصود من الدين، أليس المحافظة على (العرض) جزءاً من الدين؟
وجاء بعد (الشاطبي) علماء ونقاد فأضافوا أهدافاً أخرى، وحددوا مقاصد ثانية، وهي على العموم ليست بعيدة عن الأهداف المذكورة.
وأحدث ما قرأته في هذا المجال ما طرحه بعض الكتّاب المعروفين من ضرورة تغيير (المنظومة الشاطبية) بمنظومة أخرى هي: (العقل، والحرية، والعدل) وبيانه كالتالي:

1ـ يتعلق المبدأ الكلي الأول بمفهوم (العقلانية) بوصفها صفة تضاد (الجاهلية) التي طرح المشروع الإسلامي نفسه بوصفه نقيضاً لها في كثير من نصوصه المعروفة جداً. وعلى عكس ما أصبح شائعاً أخيراً في بعض الكتابات من أن (الحاكمية) هي نقيض (الجاهلية) فإن نقيض الجاهلية يتحدد من خلال ملاحظة التداول الضدي بين لفظي (العقل) و(الجهل) في اللغة أولاً، وفي القرآن ثانياً.

2ـ المبدأ الكلي الثاني هو مبدأ (الحرية) نقيضاً للعبودية، وهو مبدأ شديد الالتصاق من حيث دلالته بمبدأ (العقل) ذلك أن الإنسان الحر هو الإنسان العاقل أساساً من حيث أن (العقل) هو مركز فعّالية النشاط الإنساني، إن الإنسان المتعصب تحركه مبادئ خارجية في فكره وسلوكه، مبادئ تتحكم في عقله فتمنعه من ممارسة فعالية الحرية، وهذا منشأ العبودية الحقيقية، لأن العبودية الاجتماعية منشأها نسق اجتماعي إذا تغيّر انتفت تلك العبوديّة، أمّا عبوديّة (العقل) فهي أشدّ خطراً لسيطرتها على جوهر إنسانية الإنسان.

3ـ (صفة العدل) الإلهي هي الصفة التي لا تقف دلالتها عند حدود نفي الظلم فقط، بل تمتد دلالتها إلى إقرار مبدأ (العدل) مبدأً كلياً للوجود الإنساني، إن حرص المعتزلة على تأكيد صفة العدل الإلهي هو الذي أفضى بهم إلى تأصيل صفة (التوحيد) فكرياً وفلسفياً.
هل بالغ الفقهاء الذين قالوا: حيث يوجد (العدل) توجد شريعة الله؟ وهل بالغوا كذلك حين قالوا: الحاكم العادل خير وأفضل من الحاكم الظالم، ولو كان الأوّل غير مسلم، والثاني مسلماً.
 إن هذه المبادئ الكلية المقترحة الثلاث:"العقل، والحرية، والعدل" تمثل منظومة من المفاهيم المتماسكة المترابطة من جهة، وهي تستوعب المقاصد الكلية الخمسة التي استنبطها علماء أصول الفقه من جهة أخرى، إن الحفاظ على النفس والعقل والدين والعرض والمال تبدو مبادئ جزئية بالنسبة للمبادئ الكليّة الثلاثة المقترحة.
وهذه المنظومة الجديدة ـ رغم جماليتها ـ وحسن شعاراتها إلا أنها غير وافية بالغرض تماماً إذ يرد عليها ذات الإشكالات الواردة على (منظومة الشاطبي) وأتباعه. فمن جهة يبقى السؤال أيّها أهم: العدل أم الحرية؟ ثم ماذا يقصد بـ(العقل) وأي عقل هذا الذي ينبغي المحافظة عليه وتنميته وتنظيم كل الأمور على مقاسه؟ إن شعار (العقل) يشبه شعار (العلم) الذي يدعيه الطرفان المتناقضان مدبراً معاً، فالماركسية تدّعي العلمية تماماً كما تدّعيها المذاهب المناقضة لها.
لا ننكر ـ بالطبع ـ أن (العقل) هدف وغاية ومقصد للكثير من أحكام الشريعة، كما أنه موضوع للكثير من أحكامها، كما لمترادفاتها، كالرشد مثلاً. ولكن الإطار الذي نبحث فيه هنا يختلف تماماً عن ذلك الإطار الذي شرّعت فيه بعض الأحكام المتعلقة بالعقل.
ويبدو لي أن الخلط الأساسي ناشئ من نقطة مركزيّة ـ وهي نقطة الانطلاق في طرح السؤال في هذه القضية، فما هو بالضبط (بغيتنا) التي نبحث عنها. هل نريد أن نكتشف مقاصد الشريعة من تشريعاتها اليقينية الثابتة التي لا تقبل التغيير والتبديل؟
أم أننا نريد أن نعرف الأهداف والمقاصد العامة التي يجب على فقهاء الشريعة أن يحققوها في تشريعاتهم؟
علماء القانون الوضعي اليوم يطرحون القضية على الشكل الثاني؛ أما علماء الشريعة الإسلامية فإنهم يطرحون القضية على الشكل الأول، وبينهما بون واسع.
مجرّد أن تعرف (الحكمة) من وضع قانون (تحريم الخمر) مثلاً، والذي يستهدف المحافظة على (العقل) لا يعني أنك تستطيع أن تلغيه فيما لو كانت الخمرة غير مزيلة للعقل! مثلاً.
لأنه ـ حسب التمييز الدقيق للعلماءـ ثمة فرق بين علّة الحكم، وبين حكمته، في الصورة الأولى يدور الحكم مدار وجود العلة، فإن تثبت العلة يثبت الحكم وإلا فلا. أما في الصورة الثانية فالأمر ليس كذلك.
والسرّ في هذا الاختلاف، أن علماء الشريعة مقيدون بهذا الشرع، ولا يسمح لهم بتغيير أحكامه طبقاً (لمنظومة القيم) إلا في المساحات التي لم يرد فيها حكم شرعي محدّد.
أما علماء القانون الوضعي فإنهم أحرار في تغيير ما وضعوه من قوانين، بلا رادع ولا مانع.
أجل، منظومة القيم هذه مهمة جداً في مجال تطبيق الحكم (عند تزاحم الأحكام في مجال التطبيق)، وتعارض الأحكام، حيث ينبغي عندئذ ملاحظة تفاضل القيم، وتعيين الأهم والمهم.
بعد أن نتجاوز هذه الملاحظة، نأتي إلى طرح السؤال الأساسي الذي نظم هذا المقال من أجله وهو ما هي تفاصيل مقاصد الشريعة عند فاطمة الزهراء (عليها السلام)؟

خطبة الزهراء (ع) الوثيقة الأهم في تحديد مقاصد الشريعة:
أهم وثيقة أقدمها في تحديد مقاصد الشريعة عندنا هي وثيقة خطبة (فاطمة الزهراء) بنت الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وسيدة نساء العالمين (عليها السلام)، ففي هذه الخطبة تفصيل دقيق وشرح واسع للمقاصد الكليّة والأساسية التي من أجلها وضعت أحكام الشريعة ـ وخصوصاً أهم الأحكام التي ورد ذكرها في القرآن الكريم ـ من صلاة، وصيام، وحج، وجهاد، و... الخ.
ولنتأمل: أولاً: هذا المقطع من الخطبة، ثم نتوقف عند كل بند من بنودها الأساسية:
"فجعل الإيمان تطهيراً لكم من الشّرك، والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر، والزكاة تزكيةً للنفس، ونماءً في الرّزق، والصيام تثبيتاً للإخلاص، والحجَّ تشييداً للدين، والعدلَ تنسيقاً للقلوب، وطاعتنا نظاماً للملّة، وإمامتنا أماناً من الفرقة، والجهاد عزّاً للإسلام، والصبر معونة على استيجاب الأجر، والأمر بالمعروف مصلحةً للعامة، وبرّ الوالدين وقايةً من السخط، وصلة الأرحام منسأةً للعمر[وفي رواية أخرى منماة للعدد] * ، والقصاص حقناً للدماء، والوفاء بالنذر تعريضاً للمغفرة، وتوفية المكاييل والموازين تغييراً للبخس، والنهي عن شرب الخمر تنزيهاً عن الرجس، واجتنابَ القذف حجاباً عن اللعنة، وترك السرقة إيجاباً للعفة، وحرّم الله الشركَ إخلاصاً له بالربوبية، «اتقوا الله حقَّ تقاته، ولا تموتُنَّ إلا وأنتم مسلمون» (آل عمران آية 102).".
وكما يلاحظ فيه هذه الخطبة أنّها تزيد على المنظومة الخماسية للشاطبي. فبالإضافة إلى حفظ النفس والمال والعرض والعقل، نجد أن المحافظة على الدين يتخذ أبعاداً نفسيّة، واجتماعية، دنيوية وأخروية، وتصبح الشريعة ليست مجرد قانون لتنظيم حديقة حيوانات ناطقة! تُطعم لتعيش وتعيش لتُطعم. وأن علاقة الإنسان لا تتحدد فقط بأخيه الإنسان، بل هي ذات أربعة أبعاد، فمن جانب تتعلق بالله ـ خلق الإنسان، ومن جانب آخر تتعلق بالمجتمع (الملّة) ومن جانب ثالث تتعلق بالإنسان نفسه في بعده النفسي، ومن جانب رابع تتعلق بالإنسان نفسه، ولكن في بعده الأخروي.

ولنبحث كل واحدة من هذه المقاصد العامة للشريعة بشيء من التفصيل والتأمل.


الإيمان والطهارة من الشرك
ثمة نصّان في هذه الخطبة حول الإيمان؛ الأول يرد في بداية الخطبة حيث تقول الزهراء (عليها السلام): (فجعل الإيمان تطهيراً لكم من الشرك) وفي نهاية هذا المقطع تقول الزهراء (عليها السلام): (وحرّم الشرك إخلاصاً له بالربوبيّة).
وتكرار الهدف من (الإيمان) من مقطعين يدل على أهمّية الإيمان في الإسلام، فهو الهدف الأول والأساسي من خلقة الإنسان، وبدونه يتحول الإنسان إلى لعنة على ذاته، وإلى الأبد.
وأهم ما في الإيمان ليس مجرّد الاعتراف بالله إلهاً وخالقاً بل الأهم: الإخلاص له بالربوبية، إذ لولا الإخلاص كان الشيطان في دائرة المؤمنين!


الصيام وتثبيت الإخلاص

إن الصوم، باعتباره عبادة روحية ـ جسدية باطنية لا مظهر لها، ولا تتقبل الرياء أمام الآخرين، فإن الالتزام به يثبت الإخلاص في النفس، ويبعد عنه الشيطان ووساوسه ومحاولاته لحرف الإنسان إلى مزالق الشرك بالله تعالى.
ولذلك قالت فاطمة (عليها السلام): (والصيّام تثبيتاً للإخلاص).
وبهذه الكلمة تنفي الزهراء (عليها السلام) كل التحليلات التي تحاول أن تعطي للصوم أبعاداً أخرى بعيدة عن البعد الروحي للإيمان والتقوى مثل تقوية الإرادة، أو ما أشبه ذلك.


والصلاة تنزيهاً لكم عن الكبر
 (الصلاة عمود الدين) ويبدو أن الصلاة عمود جميع الأديان السماوية ذلك لأن الصلاة تعبير عن عبودية الإنسان للرب، وإظهارٌ للخضوع والخشوع والتوجّه القلبي إلى خالق الإنسان والأشياء. فهو هدفٌ بحد ذاته، ولأن هذا النمط الخاص من الصلاة ـ مع الركوع والسجود والطهارةـ تنزيه للإنسان عن الكبر، ذلك لأن الإنسان ينظر إلى نفسه وكأنه أعلى وأعظم من الآخرين، ومع تكرّس هذه الصفة في ذاته يتفرعن في الحياة، وربما إلى هذا المعنى أشار الحديث الشريف "كل نفس أضمرت ما أظهره فرعون".
ولا ريب أن التفرعن، أو الاستكبار هو رأس كل البلايا والفساد في الكون، فبسبب التكبر تمرّد إبليس على ربه، وبسببه طغى الحكام على شعوبهم، واستعبدوا الناس، وأفسدوا العباد والبلاد، فليس مجرّد أمرٍ أخلاقي بسيط أن يتجنّب الإنسان التكبر في الأرض، بل هو جوهر صلاحه وصلاح العالم، كما أن العكس هو جوهر فساده وفساد العالم.
ولهذا السبب نجد أن الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) يعتبر الهدف من تشريع (العبادات) كلّها، وليس فقط الصلاة هو القضاء على خلق التكبّر في النفس، ففي نهج البلاغة: "وعن ذلك، حرس الله لعباده المؤمنين بالصلوات والزكوات، ومجاهدة الصيام في الأيام المفروضات، تسكيناً لأطرافهم وتخشيعاً لأبصارهم وتذليلاً لنفوسهم، وتخفيضاً لقلوبهم، وإذهاباً للخيلاء عنهم ولنا في ذلك من تعفير عتاق الوجوه بالتراب تواضعاً، والتصاق كرائم الجوارح بالأرض تصاغراً، وكون البطون بالمتون من الصيام تذلّلاً، مع ما في الزكاة من صرف ثمرات الأرض وغير ذلك إلى أهل المسكنة والفقر"(1).
إن حالة التواضع لله لن تحصل للإنسان إلا بالوقوف أمام ربّه مستسلماً خاشعاً لجبّار السماوات والأرضين، فيمتنع بذلك عن البطر والطغيان، "ويكون في ذكره لربه وقيامه بين يديه زجراً له عن المعاصي ومانعاً عن الفساد"، كما يقول الإمام الرضا (عليه السلام) (2).


والزكاة تزكية للنفس ونماء في الرزق

كلّ إنفاق في سبيل الله، زكاة، سواء كان من النوع الواجب أو المستحب، وكل إنفاق مالي تزكية للنفس وتنمية للموارد المالية، كما قال تعالى: «خذ من أموالهم صدقة تطهّرهم وتزكّيهم بها» (التوبة آية 103).  أما إنّه تزكية للنفس. فلأن من يدفع من ماله، يتجاوز في ذاته حب المال والحرص عليه والشح والبخل به، فكلّما أعطى وأنفق فقد تجاوز عقبة نفسيّة، وطهّر من قلبه إحدى الصفات السيئة، ولا ريب أن الجود بالمال يربي صاحبه على حسن الخلق، وطيب النفس، وراحة الضمير، والبخل عكسه؛ لاحظ كيف يعبّر القرآن الكريم عن (العتق) بـ(العقبة) يقول تعالى: «فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ • وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ• فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ• يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ». (البلد  آية 11إلى 16).
وإنّ مجتمعاً يقوم نظامه التعاوني ـ المالي أو ما يسمّى بـ(الضمان الاجتماعي)ـ على الإنفاق والإحسان وأعمال الخير لهو بلا شك مجتمع سعيد بلا عقد ولا أحقاد ولا توترات نفسيّة، وبالطبع، بلا ثورات ودماء وصراع طبقي حاد، ويتوهم بعض بسطاء العقول أن (النظام الاجتماعي) لا يمكن أن يقوم على الصدقات! ناسين أن أي نظام حر ومفتوح ومؤمن بالله وبالشريعة السماوية لا يمكن أن يقوم إلا على نظام (الإحسان)، فإن نصف أو ثلاثة أرباع أعمال الخير في الدول الرأسمالية حتى اليوم تُقدَّم على نظام (التبرع الطوعي).
ولا شك أن الإسلام باعتباره أكمل الأديان يربّي أفراده ومجتمعه على أساس (المتطوّع بالخير)، وليس الإجبار عليه، بل يربيهم على التنافس والتسابق على أعمال الخير. وليس فقط التطوّع به؛ وللتفصيل في شرح حسنات نظام (الإحسان والتطوع) في الإسلام مجال آخر نرجو أن نوفّق لبيانه.
أما كيف يكون الإنفاق سبباً لتنمية المال؟ فذلك إمّا بأن يعطي الله للمجتمع القائم، على الإنفاق والإحسان مزيداً من النعمة والبركة ـ كما قال تعالى في محكم كتابه: «وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ» (الروم آية 39).  أو لأن تدوير المال في أيدي الجميع (أغنياء وفقراء) ينمّي الدورة الاقتصادية، أو للسببين معاً.


والحج تشييداً للدين

كل من ذهب للحج قد لمس بنفسه معنى هذه الكلمة، الحج تشييد للدين، فليس ثمة عمل عبادي كالحج يركز في نفس المؤمنين حب الدين وروعة الإيمان وعظمة الإسلام. فهذه الجماهير التي تتوافد إلى بيت الله الحرام، من كل فجّ عميق، ثم تطوف بالبيت العتيق، وتسعى بين الصفا والمروة، وتقف خاشعةً لله على صعيد (عرفات) يعطي للنفس معنوية قوية يستطيع بها أن يحارب وساوس الشياطين، شياطين الإنس والجن معاً. والدين يعني الإسلام كله، عقيدةً وشريعةًً ونظاماً، وتشييده يعني تكريس وجوده في النفس وفي المجتمع وفي التاريخ، فمهما تآمر أعداء الإسلام على هذا الدين، فإن موسم الحج يعيد إلى الأمة روحها ووحدتها ومعنوياتها وثقتها بربها بدينها وبأمتها، ومن وراء ذلك كله، رحمة الله والواسعة.


والعدل تنسيقاً للقلوب

مجتمع بلا عدالة على شفير الهاوية، فلا شيء ينسق القلوب ويجمعها كالعدل، ومن هنا كان العدل أعمّ الأشياء نفعاً، ولا يختل النظام الاجتماعي إلا باختلال ميزان العدل فيه حتى ينتهي إلى الانفجار. وهذا البعد النفسي للعدل هو الذي يجعل (الالتزام به) ليس مجرد رغبة أخلاقية أو طهر نفسي، بل هو ضرورة لأي حكم أو نظام، حتى ولو كان كافراً، ويكفي في أهمية (العدل) باعتباره الحافظ الأوّل للنظام الاجتماعي ولأيّ تنظيم على الإطلاق لأنه حتى اللصوص يضطرون للالتزام به، وإلا انفرط جمعهم وتنظيمهم.
ولكن (العدل) أسهل شيء وصفاً وأصعب شيئاً عملاً، ومن هنا كان لابدّ من (قدوات صالحة) تقيم العدل في المجتمع الإسلامي فمن هي تلك القدوات المجسّدة للعدل، والمطبقة له أيضاً؟ تأمل في الفقرة التالية:


وطاعتنا نظاماً للملة، وإمامتنا أماناً من الفرقة
من دون قيادة ربانية، لا تستقيم أبداً أمور المجتمع الإسلامي فهل يقيم العدل إلا (العادل) وهل يقيم الشريعة إلا (العالم) بها، وهل يكون قدوة الناس إلا (أفضلهم خُلقاً) ثم هل يشهد التاريخ لأحد سوى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بذلك؟
تاريخ الإسلام في ظل قيادة الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) وما نعمت به الأمة من وحدة وانسجام ثم الاختلاف الدموي العاصف الذي هزّ المجتمع الإسلامي كله وزلزلها بالحروب الطاحنة، لهو أكبر دليل على صدق مقالة الزهراء حيث تقول: (وطاعتنا نظاماً للملة).
ولو كان المسلمون يلتزمون بوصية الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله) الشهيرة: "إني تارك فيكم الثقلين، كتاب الله وعترتي أهل بيتي" لكان لتاريخ الإسلام مساراً آخر، «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا» ( الأعراف آية 96) [...] لو حكم أهل البيت (عليهم السلام)، لما بقيت الأمة في تخلّف وضياع إلى هذا اليوم ـ لوـ واليوم لن يستقيم نظام الملّة الإسلامية إلا بإمامة العترة المطهّرة، كما أمر الله تعالى وأمر الرسول الأعظم (صلّى الله عليه وآله).


والجهاد عزّاً للإسلام

هل يمكن أن يستمر عزّ بلا جهاد، إن الحياة معترك صراع عنيف بين الأمم ولولا (الجهاد الإسلامي) القائم على أصول وقواعد شرعية، يستحيل أن تحتفظ الأمة بعزّها ومجدها، خصوصاً وأن أنصار الظلام وأعوان الشيطان يترصّدون للأمة الإسلامية، متى تضعف حتى يهجموا عليها وعلى ما تمثله من حق وصدق وفضيلة.
ومن هنا فإن (الجهاد) ليس حكماً وقتياً في الإسلام، فكلما كانت أمّة إسلامية، كان حكم الجهاد حكماً مستمراً.. وواجباً، فلا أمة بلا جهاد، بالأمس واليوم وغداً.


الهوامش:
1- نهج البلاغة، صبحي صالح، ص294.
2- علل الشرائع، الشيخ الصدوق، عن الإمام الرضا (عليه السلام).
  
* تحرير الموقع 
 المصدر: موقع 14 معصوم 
www.14masom.com
السيد عباس المدرسي 


التعليقات (0)

اترك تعليق