مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

فاطمة عليها السلام حجة الله الكبرى

فاطمة عليها السلام حجة الله الكبرى

عن الإمام الحسن العسكري عليه السلام أنه قال "نحن حجج الله على خلقه، وجدتنا فاطمة(ع) حجة الله علينا"(1)
يعتبر هذا الحديث من الأحاديث المهمة التي وردت عن الإمام الحسن العسكري(ع)، لذا ونحن نقف نستلهم الدروس العقائدية من سلالة بيت النبوة ومعدن الرسالة لابد لنا أن نتأمل في هذا الحديث ونرى مدى مصداقيته في عالم الواقع والثبوت، وبعبارة أخرى هل لهذا الحديث وجه للاستدلال به في المحاورات العقائدية التي تخص حياة الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء عليها السلام أم لا؟ وهل هناك وجه من الصحة بحيث تكون الصديقة الطاهرة(ع) الحجة على الأئمة أم يتجاوز الأمر إلى أبعد من ذلك؟ وما هي الثمرة لهذا الحديث إذا ثبت له الواقعية والمصداقية ومدى تأثيره على الجانب العقائدي للفرد المؤمن؟ كل هذه الأسئلة نحتاج الوقوف
عليها والتأمل فيها واستجلاء حقائقها وإدراك مغازي هذا الحديث العقائدي.

وهذا ما سيتبين لنا من خلال البحث الذي سنقسمه إلى ثلاث أمور أساسية وهي:
الأمر الأول: معنى الحجة.
الأمر الثاني: شرعية الحجة.
الأمر الثالث: كيف كانت فاطمة(ع)حجة على الأئمة؟

الأمر الأول: معنى الحجة:
وردت عدة تعاريف للحجة وماهيتها ولها عدة معاني لابد لنا من الوقوف عليها وعلى المعنى الذي يهمنا في المقام والذي من شأنه أن يبين معنى الحديث الشريف بحيث لا يبقى فيه أي إجمال وفي كل الجهات المبحوث عنها في المقام وجرت عادة أهل العلوم عندما يأتون إلى موضوع ما ويريدوا أن يعرفوه بأي تعريف كان فإنهم يعرفونه بالتعريف اللغوي والتعريف الاصطلاحي العلمي ونحن بمقتضى هذا الأمر نحذوا حذوهم في تعاريف الحجة.
1- الحجة لغة: كل شيء يصلح أن يحتج به على الغير وذلك بأن يكون به الظفر على الغير عند الخصومة معه والظفر على الغير على نحوين:
أ- إما بإسكاته وقطع عذره وإبطاله.
ب- وإما بأن يلجئه على عذر صاحب الحجة فتكون الحجة معذرة لدى الغير والحجة هي الدليل والبرهان. وقال الأزهري: إنما سميت حجة لأنها تحج أي تقصد لأن القصد لها وإليها وكذلك معنى المحجة أي محجة الطريق وهي المقصد والمسلك(2).
2- وأما الحجة في الاصطلاح العلمي فلها معنيان أو اصطلاحان:
أ-
ما عند المناطقة:
ومعناها (كل ما يتألف من قضايا تنتج مطلوباً) أي مجموع القضايا المترابطة التي يتوصل بتأليفها وترابطهما إلى العلم بالمجهول سواء كان في مقام الخصومة مع أحد أم لم يكن، وبحثنا من جهة هذا التعريف المنطقي سوف يكون بربط مجموعة من القضايا وتأليفها لكي نصل إلى العلم بالمجهول وهو كيف أصبحت فاطمة حجة على الأئمة بل على الأنبياء فضلاً عن الخلق كما سيتبين من خلال البحث.
ب- وهنالك معنى للحجة لدى الأصوليين: وهو (كل شيء يثبت متعلقه ولا يبلغ درجة القطع) أي لا يكون سبباً للقطع بمتعلقه، وإلا فمع القطع يكون القطع هو الحجة ولكن هو حجة بمعناها اللغوي أو قل بتعبير آخر (الحجة): كل شيء يكشف عن شيء آخر ويحكي عنه على وجه يكون مثبتاً له(3) ونعني بكونه مثيتاً له: إن إثباته يكون بحسب الجعل من الشارع ذاته فيكون معنى إثباته له حينئذ أنه يثبت الحكم الفعلي في حق المكلف بعنوان أنه هو الواقع، وإنما يصح ذلك ويكون مثبتاً له فبضميمة الدليل على اعتبار ذلك الشيء الكاشف الحاكي وعلى أنه حجة من قبل الشارع.
كما تنقسم الحجة في المنطق إلى قياس وتمثيل واستقراء، والحجة ما يصح الاحتجاج به وما يحتج به المولى على العبد في مقام المنجزية ويحتج به العبد على المولى في مقام المعذرية، ثم الحجة تنقسم بالتقسيم الأولي إلى عقلية وشرعية، والأولى هي التي يصح التعويل عليها بصورة عامة في كل سؤال عن السبب، والثانية هي التي يصح الاحتجاج بها في الأمور الشرعية، أي ما يصح التعويل عليها في الفتاوي للفقيه، فهي بصورة خاصة وبين الحجتين نسبة العموم المطلق، فكل شرعية عقلية ولا عكس فإن الحاكم بصحة الحجة هو العقل وكل واحد من القسمين ينقسم إلى حجة إلزامية وإلى حجة إرشادية والأولى بمعنى ما يجب عند العقل التعويل عليه والإلزام بما تقتضيه نفس الحجة والثانية ما يجوز التعويل عليه والإرشاد ويكون من خواصها.
فالحجج الإلزامية العقلية كالبراهين الدالة على المبدأ والمعاد والنبوة الخ والحجج الإرشادية العقلية كإخبار العالم ورأى المتخصص وقول الخبير وتصير إلزامية عند الرجوع إليها والتعويل عليها والحجج الإلزامية الشرعية كالأنبياء وأوصيائهم المعصومين فإنهم حجج الله ويجب الأخذ بأقوالهم وأفعالهم وتقريرهم والذي يعبر عنها القول والفعل والتقرير بالسنة(4)، وفيما نحن فيه من معرفة معنى الحجة يفيدنا في المقام الحجة لغة ومنطقا لكونها يوصلان بالقطع بأمر بحيث يصلح أن يحتج به على الغير سواء في الدنيا أو في الآخرة، وعلى ضوء الاستدلالات العقلية البرهانية. وعلى ضوء التعاريف المتقدمة يكون قد لاح لنا مفهوم آخر غير الحجة وهو المحجة، والحجة تبين لك معناها من التعاريف المتقدمة، أما المحجة فهي المسلك والطريق الذي يتوصل به إلى الغير والمحجة هي الطريق السليم الذي لا اعوجاج فيه، فلقد ورد في هذا المعنى عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنه قال وسمع كثيراً يردد هذا القول:
عـــلم الحجة واضح لــمريده        وأرى القلوب عن المحجة في عمى
وقـــد عجبت لهـالـك ونجاته        موجودة ولــقــد عجبت لمن نجى

الأمر الثاني: شرعية الحجة:
هناك عدة احتجاجات وردت في القرآن الكريم قد أثبتها الله تبارك وتعالى لنبيه محمد(ص) ولأنبياءه المرسلين من الأولين والآخرين لكي يحتجوا بها على الناس المشككين أو الناكرين للرسالة أو النبوة أو النبي ومعاجزه وكراماته، ولقد بين الله تعالى في كتابه الشريف بعض الآيات التي نستفيد من خلالها أنّ الله تعالى يحتج يوم القيامة بالأنبياء على الناس، وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى «إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا.. إلى قوله تعالى .. رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا»(5).
ومن جهة أخرى ورد في القرآن الكريم بعض الاحتجاجات بين الكافرين في ما بينهم في النار حيث جاء قوله تعالى «وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ»(6).
وكذلك نجد قوله تعالى «فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ»(7).
جاء ليؤكد حقيقة النصارى وطلبهم من الرسول الاحتجاج حول مسألة عيسى ابن مريم وكيف واجههم الرسول الأكرم(ص) بقضية المباهلة التي خسروا فيها والقي ما في أيديهم من الحجة التي كانوا يحتجون بها على الرسول(ص). وكثيرة هي الاحتجاجات الموجودة في القرآن الكريم والتي جاءت بعضها لكي تثبت إعجاز القرآن الكريم وأخرى لتبين احتجاجات إبراهيم مع قومه وأخرى تثبت احتجاجات الرسول مع قومه وهكذا لئلا يكون للناس على الرسول المرسل الحجة البالغة، ولذا نجد أمير المؤمنين علي(ع)يقول في معرض بيان أنّ العباد لا بد لهم أن يتعظوا وينتفعوا بحجج الله تعالى فانه لا ينفع أي شيء يوم القيامة إلا الإيمان المقرون بالولاية والعمل الصالح: "انتفعوا ببيان الله واتعظوا بمواعظ الله واقبلوا نصيحة الله فإنّ الله قد أعذر إليكم بالجلية وأخذ عليكم الحجة وبين لكم محابّه من الأعمال ومكاره منها لتبتغوا هذه وتجتنبوا هذه".
ويعني هذا أنّ العباد لا بد لهم من الانتفاع من العلم المقرون بالعمل الصالح وإلا العلم وحده ليس فيه فائدة ولابد للعباد أن يستفيدوا من المواعظ ليتعظوا بها في  مقام العمل، ومع ذلك نجد في كثير من الروايات الشريفة مسألة الاحتجاج البالغ من الله تعالى حيث سئل الإمام الصادق(ع) عن قوله تعالى «فَلِلّهِ الْحُجّةُ الْبَالِغَةُ» فأجاب(ع): "قال إذا كان يوم القيامة قال الله تعالى للعبد أكنت عالماً؟ فان قال نعم. قال: أفلا عملت بما علمت وإن قلت كنت جاهلا قال له: أفلا تعلمت؟ فتلك الحجة البالغة لله تعالى". وهنا ينقدح سؤال مهم قد يرد في ذهن الكثير من المؤمنين وهو هل كل الناس يحتج عليهم الله تعالى يوم القيامة على ضوء هذا الحديث الشريف؟ والجواب على ذلك أنه ليس كل الناس يحتج عليهم الله تبارك وتعالى يوم القيامة بل هناك عنق من الناس لا يسئلون ولا يحاسبون ومنهم المجنون الفاقد عقله، أما الأطفال الذين لم يبلغوا سن التكليف الشرعي وماتوا فإنهم يلحقون بآبائهم وعلى ما ورد في قوله تعالى «وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ».
حيث قال العلامة المجلسي حول هذه الآية المباركة: "اعلم أنه لا خلاف بين أصحابنا في أن الأطفال المؤمنين يدخلون الجنة وذهب المتكلمون منا إلى أن أطفال الكفار لا يدخلون النار فهم إما يدخلون الجنة أو يسكنون الأعراف وذهب أكثر المحدثين منا إلى ما دلت عليه بعض الأخبار الصحيحة من تكليفهم في القيامة بدخول النار المؤججة لهم؟ فيكون من يستجيب يدخل الجنة ومن لا يستجيب يدخل النار".
وعلى ضوء الاحتجاجات الواردة في الكتب المعتبرة روي أنّ هناك احتجاج لطيف بين أمير المؤمنين وأحد اليهود حيث قال للإمام علي(ع): ما صبرتم بعد نبيكم إلا خمس وعشرين سنة حتى قتل بعضكم بعضا.
فقال له عليه السلام بلى ولكن ما جفّ -جفّت– أقدامكم من البحر حتى قلتم: يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة. وهناك الكثير من الاحتجاجات المهمة التي وردت في القرآن الكريم وفي الكتب المعتبرة كل ذلك لما للحجة من أمر مهم في إثبات المدعى على الخصم الناكر مثلا أو السالب للحق، والثمرة في ذلك كله من القرآن الكريم ومن الكتب الصحيحة لكي يستنير البشر بنور الحجة الربانية وليتسفيدوا منها ويتعظوا بالمواعظ الربانية هذا معنى الحجة وماهية الاحتجاجات والتأكيد عليها من قبل الله تعالى.
وعلى هذا الأساس تكون شرعية الحجة ثابتة على ضوء القرآن الكريم والسنة والعقل ولا نريد الدخول كثيرا في هذا الأمر بل أشرنا في بعض موارده فلقد جعل الله تعالى للحجة شرعية ذاتية تلزم الغير على ضوء مقتضاها العمل بها حيث جاء قوله تعالى «وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا» أي جعلنا لهم بالجعل التكويني أن يكونوا أئمة يقصدون في كل شيء والإمام المعصوم هو الذي يحتج به على الغير فهو حجة على الناس جميعاً وإلا كيف يكون إمام يقصد ويحتج به ومن هذا المنطلق تكون فاطمة الزهراء عليها السلام حجة على الأئمة عليه السلام كحجة إلزامية شرعية فيجب من جهة الله تعالى الأخذ بأقوالها وأفعالها والله تبارك وتعالى هو الذي جعل لها الحجية على الخلق بما فيهن الأئمة عليه السلام وهذا القول بصورة إجمالية أما كيف كانت حجة بالمعنى التفصيلي فهذا ما يحتاج بيان مقدمات وأمور توصلنا إلى هذه النتيجة وهذا ما سنبحثه قي الأمر الثالث إن شاء الله.
الأمر الثالث: كيف كانت فاطمة عليها السلام حجة على الأئمة؟
وهذا يتوقف على بيان أمرين:
الأول:
إنّ من أهم المسائل الأساسية في العقيدة الإسلامية والتي تأخذ حيّزا كبيراً، على المستوى الدراسي سواء النظري أو الفكري هي مسألة ضرورة بعثة الأنبياء، وهذه المسألة العقائدية المهمة تأخذ ضروريتها من عدة عوامل تكون الحجر الأساسي لهذه الضرورة، فالإنسان لم يخلق عبثاً «أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ» بل خلق الإنسان لهدف وهو السير في طريق تكامله من خلال ممارسة الأفعال الاختيارية القادر عليها وكل ذلك لأجل التوصل إلى كماله النهائي هذا الكمال الذي لا يتوصل إليه إلا باختياره وانتخابه. على أنّ الاختيار الصحيح والواعي بكل ما يمتلكه الإنسان من شعور وقدرة على أدائه يحتاج أيضاً إلى المعرفة الصحيحة للأعمال الحسنة والأعمال القبيحة والطرق الصالحة وغير الصالحة، وإنما تمكن الإنسان من اختيار طريق تكامله بكل حرية ووعي فيما لو كان يعرف الهدف وطريق الوصول إليه، وكان عارفا بكل العقبات والعراقيل والانحرافات والمزالق. إذن فمقتضى الحكمة الإلهية أن توفر للبشر الوسائل والمستلزمات الضرورية للحصول على مثل هذه المعارف والمدركات وإلا فيكون حاله مثل الشخص الذي يدعو ضيفاً إلى داره ثم لا يدله على موضعه ولا على الطريق المؤدي إليه ومن البديهي أنّ مثل هذا العمل مخالف للحكمة. على أنّ المعارف والمدركات البشرية العادية والمتعارفة والتي يحصل عليها الإنسان نتيجة التعاون بين الحس والعقل وإن كان لها الدور الفاعل في توفير ما يحتاج إليه في حياته ولكنها لا تكفي في التعرف على طريق الكمال والسعادة الحقيقية في جميع المجالات الفردية والاجتماعية والمادية والمعنوية والدنيوية والأخروية، وإذا لم يوجد طريق آخر لسد النقائص والفجوات فلن يتحقق الهدف الإلهي من خلق الإنسان، وبملاحظة هذه الأمور المهمة من هدف خلق الإنسان ومعرفته لطريق الخير والشر ومحدودية مداركه الحسية والعقلية، نتوصل إلى نتيجة مفادها: إن الحكمة الإلهية تقتضي وضع طريق آخر للبشر-غير الحس والعقل– من أجل التعرف على مسار الكمال في كل المجالات حتى يستطيع البشر من الاستفادة منه مباشرة أو بواسطة فرد آخر أو أفراد آخرين وهذا الطريق هو إرسال الأنبياء والمرسلين عبر طريق الوحي الذي يستفيد منه البشر ويتعلموا منه كل ما يحتاجون إليه من أجل الوصول إلى السعادة والكمال النهائي. وعلى هذا الأساس شاءت قدرة الباري عز وجل ومن جهة اللطف الرباني ومن جهة اللاعبثية في خلق البشر أن يرسل الأنبياء والمرسلين إلى البشر لهدايتهم وتوضيح معالم طريق التكامل لهم وعلى ما تتحمله قدرتهم في التكليف الرباني كل ذلك لئلا يقول الناس يوم القيامة لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى.
ولكن قبل إرسال الأنبياء لا بد من طريق لاختيارهم من البشر عامة، وهذا الاختيار أو ما يعبر عنه بالاصطفاء أو الاستخلاص لا يكون إلا عن حكمة اقتضت ذلك فان الحكيم لا يفعل إلا ما تقتضي الحكمة لوجود ذلك الشيء، فالاصطفاء والاختيار من قبل الله تعالى تارة يكون للأنبياء، وأخرى للأوصياء وللأولياء والصلحاء والعلماء وهكذا أما كيفية الاصطفاء والاختيار، فذلك ما يكون عن طريق الاختبار والامتحان الذي يتعرض له الأنبياء لاصطفائهم للنبوة وتحمل مشاقها، فالامتحان والاختبار يخرج الطاقات الكامنة في النفس البشرية، ونضرب مثال على ذلك من الحياة العرفية للبشر، فأنت عندما تريد أن تختار أو ترسل من ينوب عنك في قضية معينة فانه يقيناً لا تختار ولا ترسل إلا من كانت له القابلية والاستعداد على تحمل ما تؤديه إليه وله الاستعداد وأيضا على تمثيلك في تلك القضية ولا ترسل أياً كان فإن المردود يكون عليك سلبياً إذا كان الشخص المختار سلبياً في تصرفاته وإيجابيا إذا كان المختار إيجابيا في تصرفاته وأفعاله ما يؤديه عنك، أما كيفية هذا الاختيار في الشخص الذي سوف يمتلك فهذا ما سيكون عن طريق التجربة والامتحان والاختيار خلال مسيرة حياتك مع ذلك الشخص الذي سينوبك في المهام والذي تريد أن تؤهله للقيام بأعمالك مثلا أو التبليغ لك فآنت ترى من خلال معاشرة ذلك الشخص مدى التزامه بتعليماتك وبعد النجاح في هذه الأمور تستخلصه لنفسك وتختاره وكيلا عنك ينوب عنك في هذه الأمور المهمة، كذلك الحال مع الله تعالى باعتباره سيد العقلاء بل هو خالق العقل والعقلاء فهو عندما يريد إرسال رسول أو نبي لا بد له من الامتحان قبل الاصطفاء والاختيار وهذا ما نجده من خلال استقراء آيات القران الكريم حيث يوجد عدة شواهد على هذه المسألة كما في قضية نبي الله إبراهيم عندما اختاره الله أولا نبياً وبعد ذلك خليلاً وبعد ذلك إماماً فإنه لم ينال الإمامة إلا بعد التعرض للامتحانات والاختبارات من قبل الله تعالى وفي ذلك يقول الله تعالى في قصة إبراهيم «وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا» حيث كلف الله سبحانه وتعالى نبيه إبراهيم(ع) بتكاليف شتى فكانت النتيجة أنّ إبراهيم أتم هذه التكاليف وامتثلها وأطاع الله تعالى ومن هذه التكاليف قضية ذبحه لولده إسماعيل «يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ» وقد وصف الله تعالى إبراهيم(ع) بالوفاء حيث قال تعالى «وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى» والخلاصة على ما ورد عن الإمام الصادق(ع) أنه قال "إن الله ابتلى إبراهيم بذبح ولده إسماعيل فعزم على ذلك .. أما معنى قوله فأتمهن – فهو يعني الاستجابة والطاعة لأوامر الله تعالى ولذا استحق الإمامة التي هي منزلة عظيمة، جزاءً لإخلاصه ونجاحه في الامتحانات التي تعرض لها".
وهكذا الحال مع جميع الأنبياء حيث اختبرهم الله تعالى قبل اصطفائهم وكان الباري عز وجل عالما بالأنبياء أنهم أوفياء له وملتزمين لأوامره وشروطه لذلك اصطفاهم.
الثاني: إن الله تعالى عندما اصطفى واستخلص الأنبياء كان ذلك بعد أن شرط عليهم الزهد في درجات هذه الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها فشرطوا لله تعالى ذلك وعلم الله تعالى منهم الوفاء بذلك.
أما السؤال الذي يطرح في ما نحن فيه هو لماذا طلب وشرط الله تعالى من الأنبياء الزهد في حب الدنيا؟
والجواب على ذلك: أنه من الملازمات العقلية لحب الدنيا هو أعمال السيئات والذنوب وذلك للارتباط الوثيق بين حب الدنيا والذنوب فكلما ازداد حب الإنسان للدنيا ازدادت ذنوبه وكما ورد في الحديث الشريف إن "حب الدنيا رأس كل خطيئة" فإذا لم يكن حب الدنيا له وجود في حياة الإنسان فسوف تكون النتيجة مفادها: إن الإنسان سوف يبتعد عن الذنوب بقدر ابتعاده عن حب الدنيا، وما نحن فيه فان أعمال الشرط من الله تعالى على الأنبياء بالزهد في حب الدنيا سوف تكون من نتائجه أن يتركوا الدنيا والتعلق بها كذلك لا يعملون الذنوب والمعاصي وبالنتيجة النهائية سيكونون معصومين بالعصمة الذاتية التي تكون ملازمة لهم من جهة لطف الله تبارك وتعالى إضافة إلى الضرورة الربانية اقتضت ذلك أيضا.
أما لماذا اشترط الزهد في حب الدنيا وما حاجة العصمة للأنبياء، فهذا ما يكون الاحتياج إليه بصورة ضرورية ومؤكد ولاحتياج الأنبياء العصمة في مقام التبليغ للرسالة السماوية بل مطلق العصمة لهم، ولئلا يكون للناس الحجة البالغة على الله تعالى، والعصمة لا تأتي مع حب الدنيا.
أما الدليل علي هذا الكلام فناهيك عن القرآن الكريم والروايات الواردة في المقام التي تدل على المطلب بل هناك الدليل العقلي على ذلك، أما الدليل الذي نقوم بالاستدلال به فهذا ما أثبته دعاء الندبة الشريف حيث ورد فيه. "اللهم لك الحمد على ما جرى به قضاؤك في أولياؤك الذين استخلصتهم لنفسك ودينك إذ اخترت لهم جزيل ما عندك من النعيم المقيم الذي لا زوال له ولا اضمحلال بعد أن شرطت عليهم الزهد في درجات الدنيا الدنية وزخرفها وزبرجها فشرطوا لك ذلك وعلمت منهم الوفاء به فقبلتهم وقربتهم وقدمت لهم الذكر العلي والثناء الجلي وأهبطت عليهم ملائكتك وكرمتهم بوحيك ورفدتهم بعلمك وجعلتهم الذريعة إليك والوسيلة إلى رضوانك .. الخ"
إذن بعد الامتحان والاختيار والمشارطة من الله تعالى بترك حب الدنيا والزهد فيها وبعد العلم من الله بهم بأنهم أوفياء كانت النتيجة النهائية لهذا الامتحان والاختبار وهي:
1-
الاستخلاص والاصطفاء.
2- القبول من الله تعالى لهم.
3- الذكر العلي والثناء الجلي للأنبياء(أي قدم إليهم ذلك).
4- إنزال الوحي عليهم.
5- كانوا الحجج على الخلق من قبل الله تعالى.
أما لماذا الاستخلاص والاصطفاء وتقديم هذه الأمور للأنبياء(ع)؟ فنقول:
إنّ هذا كله لكي يكون:
*
إقامة للدين (إقامة لدينك) أي تقديم وإقامة النظام والأكمل للبشرية.
* ولئلا يزول الحق عن مقره ويغلب الباطل على أهله.
* ولئلا يقول أحد لولا أرسلت إلينا رسولا منذرا وأقمت لنا علماً هادياً فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى.
هكذا كان الامتحان والاختبار بالنسبة للأنبياء بحيث زهدوا في حب الدنيا فكانوا من المقربين لدى الله تعالى.
أما ما علاقة هذه الأمور بكون فاطمة حجة على الأئمة؟
فنقول: نحن عندما نزور الأئمة(ع) بالزيارة الجامعة الكبيرة المروية عن الإمام الهادي(ع) باعتبار أنها جامعة لكل الفضائل والدرجات والمقامات للائمة(ع) لا نزور بها فاطمة(ع)؟ لماذا؟ لأن لها زيارة مخصوصة وهي زيارتها يوم الأحد من كل أسبوع حيث تقول هذه الزيارة: "السلام عليك يا ممتحنة امتحنك الذي خلقك قبل أن يخلقك وكنت لما امتحنك صابرة".
إذ نفهم من هذه الزيارة المخصوصة امتحان الزهراء عليها السلام قبل خلقها، لإظهار مقامها حيث امتحنها فكان لها المقام السامي فأصبحت الصابرة، والمعروف أنّ الامتحان يُمتحن به الإنسان ليعرف مدى استعداداته وقابلياته (عند الامتحان يكرم المرء أو يهان) وكذلك عرف الامتحان ليكون لزيادة منزلة ولأسباب أخرى، وهذا ما جرى مع فاطمة الزهراء(ع) حيث امتحنها الله تعالى لكي تكون حاملة لشيء اقتضت إرادة السماء وذلك نتيجة لنجاحها في الامتحان حيث استحقت لقب الصابرة،[...].
ولكن المهم فيما نحن فيه هو أن الله تعالى وجدها صابرة وهذا من المقامات العالية فنحن نعلم، أن من ألقابها الصابرة، والصبر مقام سامي، أما معرفة علو شأن هذا المقام فهذا نراه من خلال القرآن الكريم،  حيث أثبت الله تعالى الثواب لكثير من الفضائل الموجودة في القرآن أما الصبر والصابر فأن أجرهم غير محدود وهذا ما نجده في قوله تعالى: «إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ» يعني أنه لا يوجد أجر محدود للصابر وللصبر بل أجره مفتوح وهذا يؤدي إلى أن الصبر يكون في أعلى مقامات الفضائل الأخلاقية، ومن هنا كان الصبر أُمّ الأخلاق، بل هو أفضلها وأحسنها في كل شيء، فما شيء إلا ومقرون الصبر معه، فالصلاة مقرون بالصبر عليها والطاعة كذلك، والإيمان لا بد من الصبر عليه لإثباته على النفس الإنسانية، ولذلك جعل الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، كما ورد في الحديث الشريف ذلك، فإذا كان الصبر هكذا مقامه فإنه سوف يكون الأساس لكثير من الأخلاق، فلذا كان الزهد فرع من الأصل والأم الذي هو الصبر وليس العكس صحيح، فالزاهد لا يكون زاهداً حتى يصبر، ويصبّر نفسه على ترك الدنيا، وزخرفها، وأموالها، وكل شيء يؤدي به إلى الزهد، ومن هنا كان بيت القصيد وهو أنّ الزهراء(ع) حجة على الأنبياء من جهة صبرها في عالم الغيب والشهادة، وصبرها في الدنيا على ما جرى عليها من المحن والظلم، وكذلك كانت الحجة على الأنبياء كما شهدت الكثير من الروايات الشريفة، وكما سيأتي بعد قليل رواية مهمة تثبت هذه الفضيلة للزهراء(ع)، وهذا أيضاً ما أثبتته الشواهد فنحن نجد أنّ الكثير من الأنبياء كانوا يدعون الله تعالى أن يطول عمرهم وهذا بخلاف فاطمة الزهراء(ع) حيث كانت مستبشرة عندما أخبرها النبي الأعظم محمد صلى الله عليه وآله أنها أول أهله لحوقاً به، وهذا ما ذكره العلامة الأردبيلي رحمة الله في فضيلتها من جهة كونها تحب الموت ولا تكرهه، حيث قال العلامة الأردبيلي ما نصه:
"إنّ الطباع البشرية مجبولة على كراهة الموت مطبوعة على النفور منه، محبة للحياة، مايلة إليها، حتى الأنبياء(ع) على شرف مقاديرهم وعظم أخطارهم ومكانتهم من الله تعالى ومنازلهم من محال قدسه وعلمهم بما تؤول إليه أحوالهم وتنتهي إليه أمورهم أحبوا الحياة ومالوا إليها وكرهوا الموت ونفروا منه. وقصة آدم عليه السلام مع طول عمره وامتداد أيام حياته معلومة.
قبل: إنه وهب داود عليه السلام حيث عرضت عليه ذريته أربعين سنة من عمره فلما استوفى أيامه وحانت منيته وانقضت مدة أجله وحّم حمامه جاءه ملك الموت يقبض نفسه التي هي وديعة عنده فلم تطب بذلك نفسه وجزع وقال: إن الله عرفني مدة عمري وقد بقيت منه أربعون سنة، فقال: إنك وهبتها ابنك داود فأنكر أن يكون ذلك، قال النبي محمد(ص): فجد فجهدت ذرّيتّه.
ونوح(ع) كان أطول الأنبياء، أخبر الله تعالى عنه أنه لبث في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً فلما دنا أجله قيل له: كيف رأيت الدنيا؟ فقال: كدار ذات بابين دخلت في باب وخرجت من باب. وهذا يدل بمفهومه على أنه لم يرد الموت ولم يؤثر مفارقته. وإبراهيم(ع): روي أنه سأل الله تعالى أن لا يميته حتى يسأله(ع) فلما استكمل أيامه التي قدرّت له خرج فرأى ملكاً على صورة شيخ فانٍ كبير قد أعجزه الضعف وظهر عليه الخراف (أي فساد العقل من الكبر)، ولعابه يجري على لحيته وطعامه وشرابه يخرجان من سبيله عن غير اختياره، فقال له: يا شيخ كم عمرك؟ فأخبره بعمر يزيد على عمر إبراهيم بسنة، فاسترجع وقال: أنا أصير بعد سنة إلى هذه الحال فسأل الموت. فهؤلاء الأنبياء ممن عرفت شرفهم وعلاء شأنهم وارتفاع مكانهم ومحلهم في الآخرة وقد عرفوا ذلك وأبت طباعهم البشرية إلا الرغبة في الحياة. وفاطمة عليها السلام امرأة حديثة عهد بصبى، ذات أولاد صغار، وبعل كريم، لم تقض من الدنيا إرباً (أي حاجة) وهي في غضارة عمرها وعنفوان شبابها، يعرّفها أبوها أنها سريعة اللحاق به، فتسلوا موت أبيها(ص) وتضحك طيبة نفسها بفراق الدنيا وفراق بنيها وبعلها، فرحة بالموت، مايلة إليه، مستبشرة بهجومه، مسترسلة عند قدومه، وهذا أمر عظيم لا تحيطه الألسن بصفته ولا تهتدي القلوب إلى معرفته، وما ذاك إلا لأمر علمه الله من أهل البيت الكريم، وسراً أوجب لهم مزية التقديم، فخصهم بباهر معجزاته وأظهر عليهم آثار علائمه وسماته، وأيّدهم ببراهينه الصادقة ودلالاته،  والله أعلم حيث يجعل رسالته(8).
جوهرة القدس من الكنز الخفي           بدت فأبدت عاليات الأحرف
وقد تـجلى في سمــاء الـعـظمة           من عالم الأسماء أسمى كلمة
بـل هي أم الكـلمات المـــحكمة           في غيب ذاتها نكــات مـبهمة
أمّ الأئـــمة العــقول الغــرّ بــل           أمّ أبـــيها وهو عــلة العلل(9).
أليس ذلك من الفضائل العالية حيث كانت الزهراء(ع) حجة على الأنبياء باعتبار صبرها وفضلها أما كونها(ع) حجة على الأئمة كما هي حجة على الأنبياء فهذا ما يتبين لنا من خلال عدة أحاديث ما ثورة عن أهل بيت العصمة(ع) منها ما ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن رسول الله(ص) عن الله تبارك وتعالى أنه قال: "يا أحمد لولاك لما خلقت الأفلاك  ولولا علي لما خلقتك ولولا فاطمة لما خلقتكما)(10).
أما الدليل الثاني: فنقول أنه ورد في الحديث الشريف المأثور عن أهل بيت العصمة (ع) ما نصه: "إنه ما تكاملت نبوة نبي من الأنبياء حتى أقر بفضلها ومحبتها وهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى"(11).
يعني ما تكاملت نبوة نبي -والنبوة خلاصة التوحيد- إلا لمن أقر بفضلها ومحبتها والإقرار هو الشهادة على النفس والاعتراف منها للغير وإقرار العقلاء على أنفسهم جائز فهذه شهادة من الأنبياء لها بالفضل والمحبة والفضل يعني أنها كانت لها زيادة في الفضائل على الأنبياء بل هي صاحبة الفضل عليهم بأنه لم تكتمل نبوة نبي إلا بها (ع) وفي ذيل هذا الحديث أعلاه يقول المحقق البارع أبو الحسن النجفي ما نصه: "إن المراد من القرون هي قرون جميع الأنبياء والأوصياء وأمم من آدم فمن دونه حتى نفس خاتم الأنبياء(ص) أجمعين يعني ما بعث الله عز وجل أحداً من الأنبياء والأوصياء حتى أقروا بفضل الصديقة الكبرى ومحبتها. ويؤيده ما ذكره السيد هاشم البحراني صاحب تفسير البرهان في مدينة المعاجز عنه(ع) ما تكاملت النبوة لنبي حتى أقر بفضلها ومحبتها(12).
وأيضاً ما ورد عن جابر بن عبد الله الأنصاري عن أبي عبد الله(ع) قال: قلت لم سميت فاطمة الزهراء (زهراء)؟ فقال: لأن الله عز وجل خلقها من عظمته.. إلى أن يقول الله تعالى للملائكة في ماهية نور فاطمة ما نصّه.. فأوحى الله إليهم: هذا نور من نوري أسكنته في سمائي، خلقته من عظمتي، أُخرجه من صلب نبي من أنبيائي أفضله على جميع الأنبياء، وأُخرج من ذلك النور أئمة يقومون بأمري، يهدون إلى حقي وأجعلهم خلفائي في أرضي بعد انقضاء وحيي(13).
وعن أبي عبد الله(ع) أنه قال: لولا أن أمير المؤمنين(ع) تزوجها لما كان لها كفوء إلى يوم القيامة على وجه الأرض آدم فمن دونه(14). ولقد علق على هذا الحديث الشريف صاحب كتاب البحار العلامة المجلسي رحمة الله حيث قال: يمكن أن يُستدل به -أي بالحديث أعلاه- على كون علي وفاطمة(ع) أشرف من سائر أولي العزم سوى نبينا صلى الله عليهم أجمعين. لا يقال: لا يدل على فضلهما على نوح وإبراهيم(ع) لاحتمال كون عدم كونهما كفوءين لكونها من أجدادها(ع). لأنا نقول: ذكر آدم(ع) يدل على أن المراد عدم كونهم أكفاءها مع قطع النظر عن الموانع الأخرى على أنه يمكن أن يتشبث بعدم القول بالفصل(15). وأيضاً هناك حديث يدل على أفضلية فاطمة الزهراء على الأنبياء وعلى جميع البشر حيث ذكر المحدث الكبير العلامة الخبير الطبرسي(رضي) عن أبي جعفر(ع): ولقد كانت(ع) مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحوش والأنبياء والملائكة(16). ونقف مع وجه آخر قد يمكن أن نثبت من خلاله حجية فاطمة(ع) على الأئمة، وهو ما نستفيده من خلال الحديث المذكور في كون علي(ع)كفواً لفاطمة الزهراء(ع)، حيث ورد في الحديث المذكور عن النبي (ص) (لو لا علي لم يكن لفاطمة كفو)(17).
وأيضاً ورد عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وآله: "لولا يخلق عليا لما كان لفاطمة كفو)(18). وهذا يعني أن أكثر المقامات التي كانت للإمام أمير المؤمنين علي(ع) هي ثابتة للصديقة الشهيدة فاطمة الزهراء(ع)، فهما في منزلة واحدة من الإيمان والتقوى وإلا لما كان منهما كفواً للأخر؟ وعليه تكون فاطمة حجة على الأئمة(ع) كما كان أمير المؤمنين(ع) الحجة على الأئمة عليهم السلام، فلقد ورد في عدة أحاديث أن علي(ع) سيد الأوصياء وخيرهم وأفضلهم لذا كان النبي(ص) يقول: "منّا خير الأنبياء وهو أبوك –والكلام مع فاطمة (ع)- ومنّا خير الأوصياء وهو بعلك)(19).
وفي حديث آخر عن أمير المؤمنين(ع) أنه قال :"والله لأتكلمن بكلام لا يتكلم به غيري إلا كذاب: ورثت نبي الرحمة وزوجتي خير نساء الأمة وأنا خير الوصيين) (20).
والذي نريد القول به من هذا الكلام أن الإمام(ع) كان خير الاوصياء وأفضلهم فلقد ورد في شرح نهج البلاغة في أن أمير المؤمنين كان يصلي في اليوم والليلة ألف ركعة. قال ابن أبي الحديد: وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده والسهام تقع بين يديه، وتمر على صماخيه يميناً وشمالا فلا يرتاع لذلك فلا يوم حتى يفرغ من وظيفته، وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة بعير لطول سجوده، وإذا تأملت دعواته ومناجاته وقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله وما يتضمنه من الخضوع لهيبته، والخشوع لعزته والاستخذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أي قلب خرجت وعلى أي لسان جرت، وقيل لعلي بن الحسين عليهما السلام وكان الغاية في العبادة: أين عبادتك من عبادة جدك؟ قال: عبادتي من عبادة جدي كعبادة جدي من عبادة رسول الله(ص)(21). فيظهر من هذا الحديث أحاديث أخرى أن الإمام علي بن أبي طالب(ع) كان متميزاً عن باقي الأئمة(ع) من ناحية مدى تصديه لشؤون الإمامة والولاية، وتحمل المشاق للدفاع عن حريم الرسالة المحمدية  وإلا فالأئمة عليه السلام جميعاً من ناحية الأنوار متحدين فهم كلهم نور واحد ولكن الاختلاف كان من جهة تصديهم لشؤون الخلافة والمشاق التي تحملوها، وعليه تكون الصديقة الزهراء(ع) كفو للإمام أمير المؤمنين عليه السلام فهي أم الأوصياء وروح النبوة وبضعة الرسول وزوجة خير الأوصياء.
وعلى ضوء هذه الأحاديث وعلى أساس أحاديث أخرى أغمضنا النظر عليها لئلا يطول المقام بنا كانت فاطمة الزهراء وبدليل الأولوية وفحوى الخطاب الحجة على الأنبياء والأئمة ونقول ليس فقط ما تكاملت نبوة نبي فحسب بل ما تكاملت الإمامة في إمامتها ولا تكامل العلماء في علمائها وإلا الأدباء في أدبهم والحكماء في حكمهم والأتقياء في تقواهم وكل كامل في كمال حتى يقر بفضلها ويؤمن بمحبتها فهي الصديقة الكبرى وعلى معرفتها دارت القرون الأولى والأخرى(22). فإذا كانت فاطمة حجة وما تزال حجة على الأئمة(ع).
وحبها من الصفات العالية         عليه دارت القرون الخـالية
بـابي فـاطم وقــد فــطمت             باسمها نار حشرها ولظاها
هي والله كوثر قـد أعدت          لبــنيها وكــل مـــن والاهـا
هي عــند الله أعظم خـلق         وبها دار في القرون رحاها


وهكذا كانت فاطمة الزهراء(ع)بهذه الوجوه وأدلة أخرى الحجة على الأنبياء والأوصياء وبهذا المعنى الذي وضحناه تبين لنا عظم مقام فاطمة(ع) وعلو قدرها عند الباري عز وجل ونكتفي بهذا البيان حول الوقوف على قول الإمام الحسن العسكري (فاطمة حجة علينا).



الهوامش:
1- تفسير أطيب البيان: 13/ 226.
2- لسان العرب مادة حجة.
3- أصول المظفر: 2/ 18
4- هذا التقسيم استفدناه من درس أستاذنا السيد عادل العلوي حفظه الله (خارج فقه) – الاجتهاد والتقليد.
5- النساء: آية 163- 165.
6- غافر: آية 47
7- آل عمران: آية: 61.
8- كشف الغمة: 1/ 355.
9- الأنوار القدسية: للمرحوم الشيخ محمد حسين الأصفهاني.
10- الجنة العاصمة: 148، مستدرك سفينة البحار:3/ 334، عن مجمع النورين :14.
11- البحار: 43/ 105.
12- ملتقى البحرين: 40.
13- البحار: 43/ 19.
14- البحار: 43/ 10و11.
15- البحار: 43/ 10- 11.
16- دلائل الإمامة: 28.
17- مصباح الأنوار: 133، كشف الغمة1/ 472، فردوس الأخبار: 3/ 418ح 517.
18- ينابيع المودة: 177، 181.
19- ينابيع المودة: 43، منتخب الأثر: 192.
20- البحار: 43/ 143.
21- شرح نهج البلاغة: 1/ 10.
22- فاطمة الزهراء ليلة القدر (للسيد عادل العلوي).

المصدر: مجلة الزهراء(ع)، العدد: 57، 58، 59، 60، 61.


 

التعليقات (0)

اترك تعليق