بين العقيلة زينب وأمها الزهراء(ع)
تمتلك العقيلة زينب مفاخر حسبية ونسبية، كما هي أمّها الزهراء(ع). فعلى صعيد النسب، فإنّ أمها فاطمة الزهراء، بنت خاتم الأنبياء الرسول الأعظم(ص)، أما زينب(ع) فهي ابنة سيد الأوصياء أسد الله الغالب علي بن أبي طالب(ع). والزهراء ابنة خديجة الكبرى أمّ المؤمنين أما زينب فابنة الزهراء(ع)، سيدة نساء العالمين، التي ترعرعت في بيت الطهارة والعصمة.
الزهراء تلقت تربيتها في حجر النبي الأكرم (ص)، وزينب(ع) تربّت في حجر الوصي الولي علي بن أبي طالب(ع)، الذي كان أقرب الناس إلى الرسول(ص)، وكما للزهراء(ع) ولدان، الحسن والحسين استشهدا في سبيل الله، وكذلك للعقيلة ولدان: عون ومحمد، استشهدا مع الحسين(ع) يوم عاشوراء.
الفضائل الحسبية:
تعتمد الفضيلة الحسبية للإنسان على عاملين مهمّين هما العلم والعمل، فهما الجناحان الذين تحلق بهما الروح الإنسانية، وكلما قويا عند الإنسان، ازداد شأنه وعظمته. وللعلم مراتب، والمقصود بالعلم، هو مقام اليقين ولليقين أيضاً مراتب، أسماها اليقين بواحدانية الله. أما العلم بالمعاد، فله مراتب ودرجات أيضاً، أعلاها مرتبة حق اليقين التي وصلها الإمام علي(ع) عندما قال: "لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا"، أما العقيلة زينب(ع) فقد بلغت هي الأخرى أعلى مراتب اليقين، كما هي أمها الزهراء (ع).
العمل المطابق للعلم:
على الصعيد العملي في شخصيّة العقيلة زينب(ع) نرى هناك تطابقاً بين الفعل والعلم الذي بلغته، فعلمها ويقينها يُترجم عملياً من خلال سلوكها وممارساتها العملية. فمثلاً: العبادة والعبودية لله تعالى هي من آثار مقام اليقين الذي يبلغه الإنسان وكلما ازداد الإنسان يقيناً ازداد خشوعه وخضوعه لله، وما وصل إلينا عن مدى عبادة الزهراء(ع) ينطبق تماماً -كما نقلته الروايات- على ابنتها العقيلة، فقد ورد في (رياحين الشريعة) أنّ زينب(ع) لم تترك الدعاء والتهجد في جوف الليل طوال عمرها، ولم تكن تترك ذلك ليلة واحدة، فحتى ليلة الحادي عشر من محرم، ورغم كلّ المصائب التي كانت قد نزلت بها ذلك اليوم، روى السجاد(ع) أنّ عمته زينب(ع)، أدّت صلاة الليل وهي جالسة، كما روى عن الإمام السجاد أنّ العقيلة ظلت تؤدّي النوافل المستحبة طوال الطريق من كربلاء إلى الشام، كما يروي الإمام أيضاً أنه عندما ودّع الإمام الحسين(ع) العقيلة زينب(ع) قال لها: "أختاه، لا تنسيني في نافلة الليل".
مثال آخر: الصبر الذي يُعتبر لازمة العلم واليقين وللصبر درجات، وكلما ازداد اليقين، ازداد الصبر، وكذلك الحال مع خصال الزّهد والقناعة والتسليم بمشيئة الله، والحلم، والرأفة وغيرها، كلها من لوازم اليقين، تزداد وتترسّخ كلما ازداد اليقين.
وفي شخصيّة العقيلة زينب، نرى الالتزام العملي بالعلم الذي تمتلكه، في أعلى المراتب والدرجات، فالصبر الذي أبدته زينب(ع) لم يسبق له نظير، والعبارة الواردة في زيارة (الناحية) المشهورة: "لقد عجبت من صبرك ملائكة السماء" يمكن أن تخاطب بها العقيلة زينب(ع) أيضاً، لما أبدته من صبر على المصائب. والحقيقة أنّ صبر زينب معروف للجميع، فالإمام الحسين(ع)، استشهد ظهر العاشر من محرم، لكنّ العقيلة ظلت تواجه المصائب والبلايا بعد ذلك، خاصة في طريق العودة إلى الشام، حيث الجوع والعطش والأيتام والأرامل المتعلقين بأذيالها، بعدما فقدوا الآباء والأزواج.
لقد منحها الله سبحانه وتعالى قوّة روحية تمدّها بالصبر والتحمّل في سلوكها العملي. فكانت العقيلة فريدة في صبرها، كما هي فريدة في علمها ويقينها، تُرى من يستطيع إدراك درجة الروحانية لدى هذه السيدة الجليلة.
زينب الزاهدة الحقيقية:
للعقيلة زينب فضائل أخرى كالزهد، الذي هو أيضاً، انعكاس عملي لعمق علمها ويقينها؟ إن الزهد الحقيقي هو أن يتوجه قلب الإنسان إلى الله فقط يحبّ ما يحبّه الله ويكره ما يكرهه؛ يفضّل الله ومرضاته على كلّ شيء، وليس الطلب، اعتزال الدنيا أو عدم امتلاك المال، فالزّهد أمر قلبي هو الحبّ في الله والبغض في الله، اتباع كلّ ما هو إلهي، وترجيح الآخرة على الدنيا، وترك الملذات التي ليس فيها رضى الله، إنّ أسمى مراتب الزهد، هي عند الأنبياء والأئمة المعصومين، أي أنّ الزهد السالف الذكر هو شرط النبوة والإمامة، وكذلك حال الأولياء، أمثال العقيلة زينب؛ فسيرتها تخبرنا عن مستوى زهدها وإعراضها عن كلّ ما هو غير إلهي، من شهوات الدنيا وزينتها.
عبد الله الطيار زوج زينب(ع):
تزوّجت العقيلة زينب من عبد الله بن جعفر الطيار، وهو من الأثرياء في المدينة. ومعروف أنّ ثروته إنما جاءت بفعل دعاء النبي(ص) له. فعندما قتل أبوه جعفر الطيار(ع) أولى الرسول الكريم(ص) ابنه عبد الله رعاية كبيرة؛ وعندما رآه يوماً يخوض معاملة تجارية دعا له الله سبحانه وتعالى أن يباركه. كما كان عبد الله معروفاً بالسّخاء والجود لدرجة أنه كان يُضرب به المثل بالسخاء. فقد كانت دارهُ مفتوحة بوجه الفقراء والعاجزين والمحتاجين.
زينب تفضل المصائب على حياة الراحة:
لقد كانت العقيلة زينب تعيش في ظلّ ظروف اقتصادية جيدة جداً ففي بيتها الجواري والغلمان؛ وكلّ ما يمكن أن يقتنيه صاحب مال أو سلطة من وسائل الراحة والرفاهية ومع كلّ هذا فضلت الخروج مع أخيها الحسين وتحمّل كلّ المصائب والشدائد التي واجهتها في مسيرتها على كربلاء ومن ثمّ إلى الشام. إنه الزهد الحقيقي ولو لم تكن تعلم بما سيؤول إليه حالها وحال أخيها لكان الأمر عادياً. لكنها كانت تعلم بمجريات الأحداث الآتية منذ أن خرجت مع أخيها من المدينة إلى مكة فقد أخبرها جدّها رسول الله(ص)؛ وكذلك أبوها وأمها بأن تستعدّ للمصائب.
إذاً فقد كانت العقيلة على علم ويقين بالمصائب والبلايا ومع ذلك اختارت هذا الطريق وتحمّلت فيه المشقات والمصائب وأخيراً الأسر.
ابن عباس يحاول منع زينب(ع):
حاول ابن عباس منع الإمام الحسين من اصطحاب العقيلة زينب معه قائلاً: إذا كنت أنت قد صمّمت على الذهاب فلا تصطحب معك زينب(ع)، حينذاك سمعت زينب الحديث وأطلت برأسها من داخل المحمل منزعجة، وقالت لابن عباس: … يا ابن عباس أتريد التفريق بيني وبين أخي الحسين(ع).
إنها أعلى مراتب الزهد الناجم عن اليقين بحيث يجعلها تترك حياة الدعة والراحة وتتجه إلى هذه الصحراء وما لاقته فيها من مصائب وويلات. إنّ نكران الذات هذا يجسّد مدى روحانيّة هذه المرأة العظيمة ومدى ارتباطها بالخالق عزّ وجلّ إنها الروحانية التي تتجسّد في النبي والإمام. تقدّم أولادها في سبيل الله السخاء والجود من الخصائل والفضائل الإنسانية وهي تتجسّد بأعلى مراتبها في النبي والإمام وهي انعكاس لدرجة الإيمان. وفي شخصية السيدة زينب تجسّدت أعلى مراتب الجود والسخاء كما تجسّدت عند أخيها الحسين(ع)، وعند أهل العقل. والأولاد أهمّ ما لدى الإنسان لأنهم حصيلة العمر وفلذات الأكباد والعقيلة زينب(ع) لم تكتف بترك الراحة والمال بل قدّمت قرّتي عينيها عون ومحمد في سبيل الله يوم العاشر من محرّم فهل. فهل هناك جود وسخاء أعلى مرتبة من ذلك؟
زينب تنعى علي الأكبر:
عندما استشهد ولدا العقيلة، عون ومحمد في ميدان الجهاد جاء بهما الإمام الحسين إلى الخيمة لكنّ العقيلة زينب لم تخرج من خيمتها، أمّا عندما جاء الإمام بجسد ابنه علي الأكبر خرجت العقيلة من خيمتها نادبة إيّاه بعبارة (واأمّاه) معتبرة إياه ولدها. هذه الحادثة تكشف مدى الخلق الرفيع الذي تحلت به العقيلة. العقيلة لا تعجب بعملها هناك تفسير واحد للمشهد السالف الذكر، فما فعلته زينب(ع) يكشف مدى إخلاص نيتها؛ فعملها خالص لوجه الله ومن لوازم الإخلاص في النية أن لا يعجب الإنسان بعمله، وعمل زينب(ع) عندما قدّمت ولديها في سبيل الله كان خالصاً لوجه الله ولهذا لم تخرج من خيمتها ولم تندب ابنيها. الحياة غاية وكرم كما يكشف ذلك المشهد علاوة على إخلاص النية، كمالاً آخر في شخصية العقيلة هوما يسمى بـ (حياء الكرم)؛ فالكريم الذي يكرّم يحسّ بالحياء والخجل، وهذه صفة الكرماء، ألم تسمعوا بالإمام الحسين يعطي فقيراً أربعة آلاف درهم من شق الباب لأنه خجل لقلة هذا العطاء. إنه الذي يدعى بحياء الكرم. أما اللئيم فيعطي القليل ويراه كثيراً، وعطاؤه مصحوب بالمنّ والجميل وهذه صفة اللئام. فزينب(ع) تجود بولديها ومع ذلك تشعر بالخجل لاعتقادها أنها لم تستطع تقديم خدمة كبرى لأخيها الحسين في محنته. ولهذا نراها تفيض على علي الأكبر بن الحسين حزناً وبكاءً لدرجة أن الحسين(ع) أبعدها عن جسده بصعوبة، وهنا تبرز أمامنا خصلة أخرى في شخصية العقيلة هي الرقة والعاطفة ومواساة الحسين(ع) بحيث أنها قالت ليلة عاشوراء: "ليتهم يقبلون بقتلي أنا بدل أخي الحسين".
سخاء زينب(ع) منذ الصغر:
ينقل بعض الرواة قصّة تؤكد السخاء الفطري للعقيلة زينب، فقد جاء أمير المؤمنين علي(ع) يوماً بضيف إلى بيته؛ فسأل الزهراء(ع) عمّا لديها ليقدّمه للضيف فأجابت بأنه ليس لديها غير رغيف خبز لابنتها زينب التي كانت نائمة لكنها ما إن سمعت كلام أمها حتى نهضت قائلة: قدّمي الرغيف للضيف يا أمي. وكان عمرها آنذاك أربعة أعوام.
إنّ فضائل أهل البيت وخصالهم فطريّة وليست اكتسابية، علمهم وعملهم فطري لذا نرى هذه الخصال منذ الصغر حتى تصل إلى مرحلة الجود بولديها يوم عاشوراء. إنّ الإنسان كلما ذهب أكثر ارتفعت منزلته عند الله أكثر وكلما أبدى صبراً وحياءً وكرماً وسخاءً أكثر كلما حصل سعادة أكثر في الدار الآخرة.
المروءة والروحانية:
المروءة من صفات الكمال الإنساني المرتبطة بالروحانيّة، والتي تترسخ أكثر كلما تعمّقت روحانية الإنسان؛ والمقصود بالمروءة هنا هي تفضيل الإنسان لراحة الآخرين وسعادتهم على راحته وسعادته، وصاحب المروءة هو الذي يشقى من أجل راحة الآخرين وسعادتهم. مروءة زينب رعاية الأيتام يقول الإمام زين العابدين(ع) إنّ عمته زينب(ع) لم تترك صلاة الليل طول المدّة التي قضوها في الطريق من كربلاء إلى الشام، وفي أحد الأيام رآها تصلي وهي جالسة فسألها عن السبب فقالت إنها لا تقوى على الوقوف لأنّ الرغيف الذي أعطي لها تلك الليلة قسّمته بين الأطفال الذين لم تكفهم حصّتهم من الخبز المقدّم إلى الأسرى. وورد في كتاب (طراز المذهب وبحر المصائب) عدّة روايات عن مروءة زينب ورعايتها للأيتام فجاء في إحداها أنه عندما كانت قافلة الأسرى تسير من كربلاء إلى الشام سقط أحد الأطفال من على ظهر الناقة وصرخ يا عمة، وعندما انتبهت العقيلة زينب لذلك ألقت بنفسها من فوق الناقة ولم يكترث جنود يزيد لذلك بل تركوا العقيلة تعود لتفتش عن الطفل بنفسها، وبعد البحث وجدت الطفل ميتاً وقد داسته أرجل الجمال والخيل فصرخت زينب وبكته بأعلى صوتها.
المصدر: موقع الشهيد دستغيب.
الشهيد السيد عبد الحسين دستغيب.
اترك تعليق