الأسرة والعولمة
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فلقد تعرضت الأمة الإسلامية لهجمات عنيفة عبر تاريخها الطويل، وظلت الأسرة المسلمة هي المحضن، الذي خرج القادة الأبطال.
إن أعداء الإسلام تنبهوا إلى سر ثبات أمتنا وقوتها وهي -الأسرة-، فبادروا لتدميرها، ولإفساد أقسامها وإنتاجها.
وأخذت الغارة على الأسرة المسلمة أبعاد على محاور أربعة:
1 - المحور الأول: المرأة المسلمة.
2 – المحور الثاني: الرجل المسلم.
3 – المحور الثالث: الأبناء والبنات.
4 – المحور الرابع: قوانين وقيم الأسرة.*
واختلفت أسلحت الهجوم على كل محور من هذه المحاور، وتعدد استخدام السلاح الواحد، على أكثر من محور.
ويأتي في مقدمة هذه الأسلحة في الوقت الراهن، سلاح العولمة، ممثلاً في جانبه الاجتماعي، وذلك عبر المؤتمرات والاتفاقيات والصكوك الدولية التي تصدر عن هيئة الأمم المتحدة، التي أصبحت موادها وتوصياتها -في هذه الأيام- ملزمة للدول الأعضاء، وهناك لجان مختصة لمتابعة تنفيذها. ولأجل ذلك كانت هناك محاولات حثيثة من عدة جهات إسلامية؛ من أجل التصدي لمثل هذه المؤتمرات، التي تحمل بين جنباتها، مخالفات عديدة للفطرة السوية والشريعة الإسلامية.
مفهوم الأسرة والعولمة:
أولاً: مفهوم الأسرة:
أ – في اللغة: قال ابن منظور: "أُسرةُ الرجل: عشيرتُه ورهطُهُ الأدْنَوْنَ لأنه يتقوى بهم، والأُسرةُ عشيرةُ الرجل وأهلُ بيته"(1) وقد جاء في كتاب الله -عز وجل- ذِكْرُ الأزواج والبنين والحفدة، بمعنى الأسرة، ومنه قوله تعالى: «والله جَعَلَ لَكُم من أَنفُسِكُم أَزوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِن أَزَوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَة وَرَزَقَكُم مِن الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُم يَكْفُرُون»(2)، أي "أزواجا، ليسكنوا إليها، وجعل لهم من أزواجهم، أولاداً تَقَرُّ بهم أعينُهم ويخدمُونهُم، ويقضُون حوائِجَهم، وينتفعون بهم من وجوه كثيرة،"(3).
كما أن لفظ الأسرة مشتق من الأسر، وهو القيد أو الشد بالإسار؛ أي أنه يتضمن معنى الإحكام والقوة.(4).
أما الكلمة المرادفة لكلمة أسرة، أي "العائلة"، فتقوم على أصل لغوى آخر. فعيال المرء هم الذين يتدبَّر أمرهم ويكفل عيشهم(5).
ب - مفهوم الأسرة في الإسلام:
لفظ الأسرة ورد في القرآن بمعنى الأهل، كما قال تعالى: «فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله»(6)، وقوله عز وجل: «واجعل لي وزيراً من أهلي*هارون أخي»(7). أما معناها فيمكن استخلاصه أو استنباطه من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية الواردة في هذا الباب، التي حددت عناصر الأسرة في الزوج والزوجة والأبناء، قال تعالى «وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى»(8).
وفقهاء المسلمون جعلوا لفظ الأسرة يتسع إلى كل من الزوج والزوجة والأولاد، وهو ما يعنيه لفظ الأسرة في بعض القوانين الأخرى.
ولعل التعريف الأرجح للأسرة: أنها "مؤسسة فطرية اجتماعية بين رجل وامرأة، توفرت فيها الشروط الشرعية للاجتماع، التزم كل منهما بما له وما عليه شرعاً، أو شرطاً، أو قانوناً".(9)
ج - مفهوم الأسرة في المواثيق الدولية:
هناك اتجاهات دولية فيما يتعلق بمفهوم الأسرة، يمكن تصنيفها إلى أربعة اتجاهات:
الاتجاه الأول: حدد مفهوم الأسرة ارتباطا بموقعها في المجتمع باعتبارها تشكل الخلية الأساسية والطبيعية فيه. ولها حق التمتع بحمايته ومساعدته.(10)
الاتجاه الثاني: استقي مفهوم الأسرة من أثر العلاقة التي تربط الرجل بامرأة توفرت فيها شروط الاجتماع المنصوص عليها في (المادة 16 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، والمادة 23 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية)(11)
الاتجاه الثالث: حدد مفهوم الأسرة انطلاقا من علاقتها بعنصر بشري محدد سواء الطفل أو المرأة، وذلك من خلال ديباجية اتفاقية حقوق الطفل، والمادة (16) من اتفاقية القضاء على جميع أشكال التميز ضد المرأة.(12)
الاتجاه الرابع: عرفت الأسرة على أنها العنصر الأساسي للمجتمع، يمارس أعضاؤها وظائف، ولهم حقوق وعليهم واجبات، والأسرة حقيقية واقعية لا يمكن الاستغناء عنها وهي تطلع بمسؤولية التربية والتكوين والتثقيف.(13)
وهكذا تعددت تعريفات المنظمات المعنية بأمور المجتمع العالمي، إلاّ أن تلك التعريفات اختلفت فيما بينها تبعاً لاختلاف الاعتبارات التي يتبنَّاها أولئك المعنيون بتعريف الأسرة.
وإن مما يؤخذ على هذه التعاريف أنها لم تكن جامعة مانعة.
والتعريف المختار: في ضوء التعاليم الشرعية ، أن الأسرة هي: "المؤسسة الاجتماعية التي تنشأ من اقتران رجل وامرأة بعقد يرمي إلى إنشاء اللبنة التي تساهم في بناء المجتمع، وأهم أركانها، الزوج، والزوجة، والأولاد"(14).
أركان الأسرة:
من المعلوم أن الزوج والزوجة أس في تكوين الأسرة، وعلى أكتافهما تتولد وتصمد أمام زوابع المشاكل، ثم تأتي ثمرة هذا الرباط المبارك بين الزوجين ألا وهم الأولاد.
فأركان الأسرة بناءً على ما تقدم هي:(1) الزوج (2) الزوجة (3) الأولاد.(15)
ثانياً: مفهوم العولمة:
أ – تعريف العولمة في اللغة:
العولمة هي مصدر مشتق من فعل (عَوْلَم) وهو فعل رباعي مجرد، وليس لهذا الفعل -المجرد الرباعي- إلا وزن واحد هو: (فَعْلَلَ)، مثل: بَعْثَرَ - عَرْبَدَ – وَسْوَسَ – زَلْزَل. غير أن هناك أوزاناً للرباعي المجرد يقول الصرفيون إنها ملحقة بالوزن الأصلي (فَعْلَلَ).
ومن المهم أن نعرف أن وزن (فَعْلَلَ) الذي ينتمي إليه المجرد الرباعي وزن له أهمية خاصة، واستعمله العرب في معانٍ كثيرة، ومن المعاني التي يستعمل فيها هذا الوزن المعاني الآتية: الصيرورة، مثل: لَبْنَنَ، أي صيره لبنانياً، ونَجْلَزَ، أي صيره إنجليزياً.
وخلاصة الكلام هو أن الفعل الرباعي المجرد -فَعْلَلَ- مصدره القياسي دائماً على وزن -فَعْلَلَة-، تقول: دحرجت الكرة دَحْرَجَةً، وبعثر الهواءُ الورقَ بَعْثَرَةً، وزمجر الأسد زَمْجَرَةً.
وعليه فإنه من الممكن القول بأن المصدر (عَوْلَمَة) هو اشتقاق صحيح من فعل (عَوْلَمَ)، وأن هذا الفعل من معاني الصيرورة -كما تقدم- أي جعله عالمياً، وهو ما يسانده المعنى الاصطلاحي -كما سيأتي ذكره-.
"أما العولمة مصدراً فقد جاءت توليداً من كلمة عَالَمْ، ونفترض لها فعلاً هو (عَوْلَمَ يُعَوْلِمُ عَوْلَمَةً) بطريق التوليد القياسي".(16)
ب – تعريف العولمة اصطلاحاً:
بتدقيق النظر في جملة التعاريف والمفاهيم التي يسوقها الكتّاب والباحثون حول العولمة، فإنه يمكن تقسيمها في أربع اتجاهات:
فالاتجاه الأول: عرف العولمة بعدة تعريفات منها:
"إنها ظاهرة تاريخية، تبلورت -علمياً- مع نهايات القرن العشرين، مثل ما كانت القومية ظاهرة تاريخية قد تبلورت علمياً مع نهايات القرن التاسع عشر.
وتعني أن العولمة هي: نظام عالمي جديد، له أدواته، ووسائله، وعناصره، وقد ولدت اليوم عند نهايات قرن يعج بمختلف التطورات، والبدائل، والمناهج، والأساليب، وجاءت منجزاتها حصيلة تاريخية لعصر تنوعت فيه تلك التطورات التي ازدحم بها التاريخ الحديث للإنسان"(17).
وهذا التعريف يفوته الإشارة إلى أبعاد العولمة التي تؤثر من خلالها في المجتمعات الإنسانية كالبعد الاقتصادي، أو الثقافي، أو الاجتماعي، أو السياسي، فالأمر وحدة متكاملة، وإغفال هذه الجوانب يسلط الضوء على جزء من العولمة وليس العولمة كلها.
والاتجاه الثاني: عرف العولمة بعدة تعريفات، منها:
"مصطلح العولمة (Globalization): "يجعل الذهن يتجه إلى الكونية -أي إلى الكون الذي نعيش فيه- وإلى وحدة المعمور من الكوكب الذي نعيش عليه.
ومن ثم فإن المصطلح يعبر عن حالة من تجاوز الحدود الراهنة للدول إلى آفاق أوسع وأرحب تشمل العالم بأسره.
ويشير إلى أبرز جوانب العولمة من ذلك: حرية حركة السلع والخدمات دون حواجز بين الدول، وتحول العالم إلى قرية كونية، وظهور نفوذ وسيطرة الشركات متعددة الجنسيات، وظهور فكرة حقوق الإنسان، باعتباره إنساناً له الحق في الحياة الكريمة.
والاتجاه الثالث عرف العولم
اترك تعليق