مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

حول العلاقات التراحمية والعلاقات القائمة على العقد الاجتماعي

حول العلاقات التراحمية والعلاقات القائمة على العقد الاجتماعي


الجماعة التراحمية العضوية والمجتمع التعاقدى

«الجماعة العضوية التراحمية أو التكافلية» و«المجتمع التعاقدي» مصطلحان من وضع عالم الاجتماع الألماني فردناند تونيس (1855 ـ 1936). وقد وضع كتاباً بعنوان جماينشافت أوند جيسيلشافت Gemeineschaft und Gessellschaft وتُرجمت الكلمة الأولى (جماينشافت) إلى الإنجليزية بكلمة «كوميونتي community»، أي «جماعة»، أما الكلمة الثانية (جيسيلشافت) فُترجمت بكلمة «سوسايتس society» أي «مجتمع» وأحياناً «أسوسيشن association» أي «رابطة». ونحن نترجم الكلمة الأولى إلى العربية بعبارة «الجماعة التراحمية العضوية» أو «الجماعة التكافلية» (ويمكن أن نضيف «المترابطة التقليدية» لزيادة الإيضاح). أما الكلمة الثانية فنترجمها بعبارة «المجتمع التعاقدي» (ويمكن أن نضيف عبارة «الذري الحديث» لزيادة الإيضاح أيضاً).
وكلٌّ من الجماعة العضوية والمجتمع التعاقدي نماذج مثالية ذات قيمة تحليلية لدراسة البناء الاجتماعي، وهي نماذج لا تتحقق بصورة كاملة في الواقع.
وفي مجال مقارنة الجماعة العضوية (أ) بالمجتمع التعاقدي (ب)، يمكننا أن نشير إلى بعض المفاهيم المحورية لكلٍّ منهما، وإن كانت السمة الأساسية للمجتمع التراحمي هي أن الإنساني يسبق الطبيعي، ففي المجتمع التعاقدي فإن الطبيعي يسبق الإنساني.
1ـأ) الكل الاجتماعي موجود قبل الفرد (أسبقية الكل على الجزء).
ب) الفرد موجود قبل الكل الاجتماعي (أسبقية الجزء على الكل).
2ـأ) الكل الاجتماعي عبارة عن تركيب بسيط وُجد بشكل تلقائي عضوي تاريخي وتتسم عناصره بالتجانس.
ب) الكل الاجتماعي عبارة عن تركيب صناعي مُعقَّد لم يُوجَد بشكل تلقائي وإنما بشكل تعاقدي واع يتكون من وحدات كثيرة وعناصر ليست بالضرورة متجانسة.
3ـأ) يُولَد الفرد فيجد الروابط الاجتماعية العضوية قائمة مستقرة فلا يملك إلا أن يقبلها، فهي ليست ثمرة إرادته وليست نتيجة تعاقد بينه وبين بقية أعضاء المجتمع. فالمجتمع مُعطَى تاريخي عضوي.
ب) الروابط الاجتماعية نتيجة دخول الأفراد في علاقات إرادية تعاقدية (عقد اجتماعي يقررون بموجبه تأسيس المجتمع) ومن ثم يمكنهم رفض العقد في أية لحظة ويمكنهم إخضاع أي شيء للنقاش والتفاوض. فالمجتمع هو إذن عملية تعاقدية آلية.
4ـأ) تقوم مؤسسات الجماعة التراحمية العضوية (التي قامت بشكل تلقائي عضوي) بتشكيل الأفراد وتنشئتهم وترويضهم وفقاً لرؤية تفترض أسبقية الكل العضوي على الجزء.
ب) يتم بناء المؤسسات والمنظمات المختلفة بشكل إرادي واع، وهي مؤسسات تحكمها الرؤية التعاقدية وتقوم بتنشئة الأطفال وترويض الأفراد في ضوء هذه الرؤية.
5ـأ) العلاقات الاجتماعية علاقات مباشرة أولية بين أفراد دون وساطات، وهي علاقات تراحم دافئة تسودها روح التضامن والمشاركة والتعاون التلقائي، وهي تستند إلى الإيمان بمنظومة دينية مشتركة وأعراف اجتماعية.
ب) العلاقات الاجتماعية علاقات غير مباشرة (ثانوية) تتم من خلال وسائط معينة، وهي علاقات تستند إلى علاقات تعاقد قائمة على الحذر والمنفعة الخاصة وإخضاع السلوك لقوة القانون.
6ـأ) من أهم الأمثلة على الجـماعة التراحـمية التكافلية العضوية ما يلي: الأسرة الممتدة ـ العشائر ـ البطون ـ القرى ـ المجتمعات الصغيرة ـ الطرق الصوفية. ويمكن أن نضيف إليها الجماعات الوظيفية حينما تنظر إلى نفسها من الداخل.
ب) أهم مثال على المجتمع التعاقدي هو المجتمعات الحديثة، وخصوصاً في المدن الكبرى، ويمكن أن نضيف إليها الجماعات الوظيفية حينما يَنظُر إليها المجتمع وحينما تَنظُر إلى نفسها من الخارج.
وقد طوَّر تونيز هذا المفهوم فقدَّم إطاراً تصنيفياً وتفسـيرياً جيداً لشـكلين من أشـكال الاجتماع الإنساني، ويعود اهتمامه بهما إلى أنهما يصفان عناصر مهمة في كلٍّ من المجتمع التقليدي (الجماعة العضوية) والمجتمع الحديث (المجتمع التعاقدي).

التمييز بين الجماعة التراحمية العضوية والمجتمع التعاقدي
والتمييز بين الجماعة التراحمية العضوية والمجتمع التعاقدي هو تمييز له جانبان؛ أحدهما معرفي وأخلاقي ينصرف إلى رؤية الإنسان وطريقة إدراك الكون، والآخر سياسي واقتصادي واجتماعي ينصرف إلى طريقة تنظيم المجتمع. والجانبان هما تعبير عن نفس الفكرة الواحدة في مجالين مختلفين. ومن الواضح أن من استخدموا هاتين الفكرتين، كأداة تحليلية، كانوا يفضلون الجماعة المترابطة التي ينتمي إليها المواطن الذي يصبح جزءاً من كل يفقد ذاته فيه بحيث تختفي مصلحته الشخصية الأنانية الضيقة وتحل محلها مصلحة الدولة أو الجماعة، ولا يصبح له وجود خارجها. ونظراً للارتباط العضوي للإنسان بجماعته، وتَطابُق مصلحة الفرد مع مصلحة الجماعة، فإن الجماعة تعبِّر عن جوهر الإنسان بدلاً من أن تشكل اغتراباً عنه. والقانون البشري لا يشكل في هذه الحالة حدوداً على الإنسان أو قيداً، ولا يتعارض مع إدراكه لنفسه، وإنما يعبِّر عن جوهره ويحقق إمكاناته الكامنة، ومن هنا فإن الرابطة بين الإنسان والجماعة رابطة عضوية ورابطة داخلية (جوانية) لا تتناقض فيها الذات والموضوع.
كل هذا يقف ضد المجتمع التعاقدي (الحديث) الذي يتألف من أشخاص أنانيين فرديين (إنسان طبيعي)، لكلٍّ مصلحته الشخصية المحدَّدة التي قد تتفق مع مصلحة المجتمع أو تختلف عنها. وكل فرد يحاول أن يحقق مصلحته ومنفعته هو دون الالتفات إلى الآخرين أو إلى الكل الاجتماعي، ومن ثم فإن المجتمع مبني على التنافس بوصفه قيمة مطلقة. والمجتمع هنا لا يُعبِّر عن جوهر الإنسان وإنما يجابهه باعتباره شيئاً غريباً عنه. ويصبح القانون لنفس السبب قيداً على الإنسان لا وسيلة لتحقيق جوهره. والرابطة بين البشر رابطة تعاقدية خارجية برانية موضوعية. ولذا، فإن انتماء الإنسان إلى مثل هذا المجتمع هو انتماء ذرة منغلقة على نفسها؛ تُجاور الذرات الأخرى ولا تلتحم بها، ومن ثم ينشأ تناقض حاد بين الذات والموضوع. وهذا التمييز بين شكلين من أشكال التنظيم الاجتماعي ورؤية الكون يُعبِّر عن نفسه في التمييز بين فكرين، فكر عصر الاستنارة (القرن الثامن عشر) وفكر معاداة الاستنارة (القرن التاسع عشر). وكلاهما يُعدُّ أساساً للفكر الغربي الحديث رغم تناقضهما.
ويمكن أن نرى أصداءً لنفس التمييز في كتابات كثير من علماء الاجتماع الغربيين:
1 ـ يميِّز ماكس فيبر الرأسمالية التقليدية (العضوية) عن الرأسمالية الرشيدة (التعاقدية).
2 ـ يميِّز أليكس دي توكفيل بين المجتمعات الديموقراطية والمجتمعات التقليدية والمجتمعات العسكرية.
3 ـ يميِّز هربرت سبنسر بين المجتمعات المبنية على التضامن الآلي (البسيط) وتلك المبنية على التضامن العضوي (المركب).
4 ـ يميِّز سير هنري مين بين المجتمعات التي تقوم على أساس المكانة والمجتمعات التي تقوم على أساس التعاقد.
وهذه جميعاً محاولات لرصد هذا التقابل بين نوعين من المجتمعات شعر بوجودهما الإنسان الغربي وشعر بأنه ابتداءً من عصر النهضة بدأ الانتقال من الجماعة التراحمية أو التكافلية العضوية إلى المجتمع التعاقدي وأن عملية الانتقال تسـارعت في القرن الثامن عشـر وزادت حدتها وقسوتها مع الثورتين الصناعية والفرنسية في بدايات القرن التاسع عشر. وعملية الانتقال هذه هي عملية الانتقال من المجتمع الديني (والمرجعية المتجاوزة) إلى المجتمع العلماني (والمرجعية المادية الكامنة)، أي أنها وصف لتزايد معدلات العلمنة!
وما يجدر ذكره أن هذا التمييز الذي تغلغل في الفكر الاشتراكي الغربي، يكمن وراء الهجوم على اليهود واليهودية باعتبار أن اليهودي جزء من الاقتصاد التجاري (الموضوعي التعاقدي) مقابل الاقتصاد الزراعي (العضوي المبني على الارتباط الداخلي). ولا يمكن أن نفهم تحليل ماركس للمسألة اليهودية دون أن نأخذ هذا البُعد في الاعتبار.
 من موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية ل د. عبد الوهاب المسيري
مصدر: موقع د. عبد الوهاب المسيري

التعليقات (0)

اترك تعليق