مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

عنبة بنت عفيف: كانت  شاعرة، معطاء، سخيّة...

عنبة بنت عفيف: كانت شاعرة، معطاء، سخيّة...


عنبة بنت عفيف

ابنها حاتم الطائي، المشهور بالكرم والجود والسخاء، وكانت كابنها شاعرة، معطاء، سخيّة.
كانت أقرى الناس للضيف، ولا تردّ سائلاً، ولا طالب معروف.
المرأة والسخاء:
في تاريخ الجود تبرز أسماء نساء كثيرات في مشرقنا العربي قد ضربن القدح المعلّى في هذا المضمار، حيث جُبلن على الكرم والجود والسخاء، فكان البذل سجيّة فيهنّ، وطبعٌ لا تستطيع إحداهنّ أن تتخلى عنه، بل تتحلى فيه، وتعتبره أجمل من الحليّ والحُلل.
وفي تاريخنا العربي أمثلة على الكريمات اللواتي علمن أنّ الله قد تكفل بالأرزاق، وأنّ على المرء أن يعطي ويجود، فالمال غادٍ ورائحٌ، ومن هؤلاء النسوة الكريمات واحدة من شواعر العرب وكرمائهنّ اللاتي يُضرب المثل بجودهنّ وتدعى ثُبيتة بنت مرداس بن قحفان العنبرية إحدى كريمات عصرها ودهرها.[...]
ومن هؤلاء الكريمات اللواتي عطّرن تاريخ الكرم بجودهنّ، وكنّ من أسخى النساء وأكرمهنّ عنبة بنت عفيف بن عمرو بن امرىء القيس الطائيّة(1)، أم حاتم الطائي التي قيل بأنّها كانت أسخى نساء العرب، حيث كانت في منتهى الجود والبذل والسخاء.
لا أمنع سائلاً ما حييت:
لم تكن المصادر كريمة علينا ككرم عنبة أم حاتم، فقد ضنّت علينا في كثير من أخبارها، ولم تنفحنا إلا بقطرات لا تبلّ الصّدى، ولكنّها كانت جميلة كقطر الندى، كما أنّها تفيد في رسم بعض ملامح الكرم عند هذه المرأة السخيّة الشاعرة المعطاء المتلاف للمال...
فقد كانت عنبة ابنة عفيف في الجود بمنزلة ابنها حاتم، وكانت لا تدخر شيئاً، ولا يسألها أحدٌ شيئاً فتمنعه، حتى غدت بذلك أشهر من نجم الثريا في قومها، وبين نساء العرب، ولهذا فقد ملّها أهلها وحجروا عليها، وكرهوا جودها وسخاءها. قال ابن قتيبة: "وكانت عنبة لا تليق سيئاً سخاءً وجوداً"(2).
وفي سخائها يذكر الأصفهاني قصة مفادها: "أنّ عنبة بنت عفيف وهي أمّ حاتم كانت ذا يسار ومال، سخيّة اليد، وكانت من أسخى الناس وأجودهم، وأقراهم للضيف، لا تردّ سائلاً، ولا طالب معروف، وكانت لجودها لا تلقى شيئاً تملكه، بل تهب ما عندها للسائلين.
ولما رأى إخوتها إتلافها للمال، وهبتها لما تملك وسخاءها، أفزعهم هذا الجود، وائتمروا بينهم أن يمنعوها مالها، ثمّ إنّهم حجروا عليها ولم يعطوها شيئاً، وحبسوها في بيت سنة.
وظلّوا كذلك دهراً لا يُدفع إليها من مالها شيء، بل كانوا يطعمونها قوتها، ولا يزيدون عليه، وذلك بقدر ما يمسك الرّمق من المطعم، لعلها تكفّ عمّا كانت عليه، حتى إذا ظنّوا أنّهم نجحوا في خطتهم، وأنّ أختهم عنبة قد وجدت صعوبة ذلك وألمه، وأنّها قد ذاقت وقع العسر، وطعم البؤس، وعرفت فضل الغنى والمال، لعلّها تكفّ وترعوي عن إتلاف مالها، وعندها أخرجوها من محبسها ودفعوا إليها صرمة(3) من إبلها، وما علموا أنّ منعهم أختهم من الجود، وحرمانهم لها قرابة سنة من الزمان قد زاد من عزمها على أن تكون أسخى يداً من ذي قبل، وأشدّ كرماً، ولا تقصّر مهما كانت الأحوال والظروف، وكيف تقلع عن الكرم والسخاء، وقد ذاقت آلام كلّ محتاج، وما يقاسيه من ألم الفقر والعوز؟!
ولم تمكث عنبة فترة بسيطة حتى أتتها امرأة من قبيلة هوازن تستجديها، وكانت هذه المرأة تأتيها كلّ سنة تسألها، وقد عوّدتها عنبة بنت عفيف على العطاء حتى وثقت المرأة الهوزانية بذلك، وأصبح عطاء عنبة لها عادة.
ولما رأت عنبة المرأة ضحكت واستبشرت وقالت لها: يا هذه دونك هذه الإبل فخذيها جميعها، فوالله لقد عضّني الدهر بنابه عضّة لئيم، ولقد مسّني من الجوع ما آليت معه ألا أمنع سائلاً شيئاً ما حييت... فأخذتِ المرأة الإبل وانطلقت تثني عليها بلسان الشكر.
ولما انطلقت المرأة الهوزانية أنشأت عنبة تتحدث وهي تذكر كيف أنّ الجوع قد نشب مخالبه بها وعضّها عضّة منكرة، ثمّ توجه خطابها لأولئك اللائمين وأولئك العذّال الذين يمنعونها من الجود الذي فُطر ووُلد معها، فكيف تستطيع أن تترك طبيعة وُلدت معها؟ اسمعْ إليها تقول:
لَعَمري لَقدماً عضّني الجوع عضّةً                   فآليت ألا أمنع الدهر جائعاً
فقولا لهذا اللائمي الآن اعفني                      فإن أنت لم تفعل فعضّ الأصابع
فماذا عساكم أن تقولوا لأختكم                   سوى عذلكم أو عذل من كان مانعاً
وماذا ترون اليوم إلا طبيعةً                        فكيف بتركي يابن أمّ الطبائعا(4)
.
[...]
عنبة وابنها حاتم:
تذكر المصادر التي بين أيدينا أنّ عنبة بنت عفيف هذه قد تزوجها عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي، ولا نعرف كذلك شيئاً عن حياة عبدالله بن سعد الطائي هذا، ولعلّ ذلك يعود إلى أنّها لم تمكث معه طويلاً، لأنّه قد مات بعد أن ولدت له حاتماً، وربما ولدت له ابناً آخر فكان أخاً لحاتم.
وتذكر المصادر أيضاً أنّ جدّ حاتم سعد بن الحشرج قد قام بأمر عنبة، وأمر حفيده حاتم كذلك حتى شبّ، وذهب في الجود مذهبه المعروف المتعالم المشهور في دنيا الأجواد.
وذكروا أنّ عنبة أمّ حاتم الطائي قد أوتيت وهي حبلى في المنام، فقيل لها: "أغلامُ سمحٌ يقال له حاتم أحبّ إليك أم عشرة غلمة كالناس، ليوث ساعة البأس، ليسوا بأوغال(5)، ولا أنكاس"(6)؟
فقالت عنبة: بل حاتم(7).
ونشأ حاتم في كنف أمّه يتحلى بأخلاق جودها، وورث عنها السخاء والكرم، قال الميداني-رحمه الله-: "وزعم الطائيون أنّ حاتماً أخذ الجود عن أمّه عنبة بنت عفيف الطائية، وكانت لا تليق شيئاً سخاءً وجوداً"(8).
ويبدو أنّ حاتماً قد وافته المنية قبل أمّه عنبة ابنة عفيف، ولا تُفصح الأخبار عن ذلك جليّاً، ولكنّ الباحث يستشفّ ذلك من خلال النّصوص والأخبار التي تتراءى له في بعض المظانّ والمصادر.[...].
وهكذا طار صيتُ حاتم في ميدان الجود، وكلّ ذلك أخذه عن أمّه التي كاد تاريخ النّساء أن ينساها، أو يتركها جانباً، ويتحدّث عن سخاء ابنها حاتم الذي بلغ بجوده سمع الجوزاء، وبلغ به السّها.
ويظلّ الجود والسّخاء خلقاً محموداً متوارثاً بين النّساء العربيّات في العصر الجاهلي، ولمّا جاء الإسلام الحنيف أبان عن خلائق كثيرات منهن، وظهرن في أجمل آيات الكرم وصوره، وذاعت أنباء كرم وسخاء كثيرات من المسلمات المؤمنات.
وإذا كان كرم الجاهلية يراد به أحياناً حسن الأحدوثة، أو التباهي بين الناس، وتجنّب اللؤم، فإنّ جود المسلمات وسخاءهنّ وكرمهنّ كان ابتغاء وجه العليم الخبير، وكان عطفاً على المحتاجين، وامتثالاً لأوامر العزيز الحميد الذي له ملك السماوات والأرض.
[...] ونعود إلى ضيفتنا عنبة بنت عفيف التي اشتهرت في سماء الجود لنودّع سيرتها اللطيفة، وقد عرفنا شيئاً عن جودها، لكن لم نعرف متى توفيت، إلا أننا استطعنا أن نلقي بعض الضوء على سيرتها لتقتدي النساء بكرمها وجودها، بل لتقتدي النساء بجود المسلمات في عصر صدر الإسلام وما تلاه من عصور.


الهوامش:
1- الشعر والشعراء (1/ 242 و243)، والأغاني (17/ 365 و366)، وديوان حاتم الطائي وأخباره (ص10)، وعيون الأخبار (1/ 336)، ومجمع الأمثال (1/ 123)، والأخبار الموفقيات (ص438)، وسرح العيون (ص116 و117)، وأعلام النساء (4/ 11 و12)، والمستجاد من فعلات الأجواد (ص70 و71)، وشاعرات العرب (ص290) وغيرها كثير. وقد جاء في بعض المصادر أنّ اسمها "عِنَبة" بكسر ففتح، وفي الأغاني "عتبة" وفي الأخبار الموفقيات "النوار" وفي بعض المصادر الأخرى "غنية".
2- الشعر والشعراء (1/ 243).
3- "صرمة": الصرمة بكسر الصاد: القطعة من الإبل ما بين العشرين إلى الثلاثين.
4- انظر: الأغاني (17/365 و366) بشيء من التصرف. وانظر كذلك ديوان حاتم (ص10)، وسرح العيون (ص116 و117)، والشعر والشعراء (1/242 و243)، وعيون الأخبار (1/ 336) مع الجمع والتصرف.
5- "الأوغال": الوغل: الضعيف الدنيء المقصر، والداخل على القوم في طعامهم وشرابهم دون أن يدعى.
6- "الأنكاس": جمع نكس، وهو الضعيف المقصر عن غاية الكرم.
7- هذه القصة مبالغ فيها، ولعلها من تخيلات الرواة والقصاص، والله أعلم بالصواب.
8- انظر: مجمع الأمثال للميداني (1/ 327) بتحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم.


المصدر: نساء من المشرق العربي: أحمد خليل جمعة. ط1، اليمامة، 1423هـ_ 2002م.

التعليقات (0)

اترك تعليق