مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

تداعي الأسرة مؤشر لخطر تنامي الجريمة

تداعي الأسرة مؤشر لخطر تنامي الجريمة

1- ما العمل أمام تداعي الأسرة وانهيارها؟
إنّ استراتيجية العلاج تنتظر أن يحصل الحدث وتعمل بعد ذلك على تحديد معالمه وعلى تشخيص عوارضه مقدمة لاعتماد التقنية الناجعة للشفاء. أما استراتيجية الوقاية فإنّها تحتاط وتتوقع ما يمكن أن يحصل إذا توفرت شروط معينة، فتعمل على تأمين المحيط الذي يعيش فيه الفرد بشكل يسمح له بالتكيف مع البنية ويتوالف مع قيم المجتمع وعاداته وتقاليده. وإذا كانت استراتيجية الوقاية أصعب من استراتيجية العلاج فإنها في الوقت ذاته أفعل وأعظم أثراً وأكثر مردودية. ولكن ذلك لا يعني أنّ الوقاية تمنع دائماً وبالكامل من الوقوع في المحظور، لأنّ الوقاية عملية صعبة وتتغير من فرد لآخر ومن مجتمع لآخر. وفي مطلق الأحوال فإنّ مجتمعاً يحتاط مسؤولوه ويحاذرون احتمالات عدم التكيف مع قواعده وقوانينه الضابطة للسلوك الاجتماعي هو مجتمع يستطيع أن يقلّص ظاهرة الجريمة والانحراف إلى حدودها الدنيا فيصبح قادراً بعد ذلك على أن يتعاطى مع السلوك المنحرف المتسرب من هفوات الوقاية بكل الوسائل العلمية المتاحة وبسهولة أكبر وفعالية أعظم. والعلم الحديث يركز بشكل خاص على أولية الوقاية دون أن يهمل ضرورة العلاج.
2- تنامي الجريمة على أنقاض الأسرة المتداعية:
ظاهرة تماسك الأسرة العربية هي من أهم العوامل التي تساعد عملية الوقاية من الجريمة والانحراف. فالتماسك هو نقيض التفكك. ذلك أنّ أسرة مفككة لا بدّ لها من أن تفقد السيطرة على عناصرها بحيث يعيش كلّ عنصر على هواه ولا يفهم أو لا يقبل القيم التي تبثها أسرته، أو أنّ أسرته تتراخى في تمرير هذه القيم، بحيث يفقد عضو الأسرة الاتجاه السليم عندما يفقد أبواه دور البوصلة التي تحدد الحرام والحلال والشر والخير.
والتوقف المتعمق عند طبيعة "بنى الأسر العربية "(1) الراهنة يسمح لنا برصد بداية ظاهرة ما زالت تتعاظم في بيئتنا العربية: إنّها ظاهرة التفكك التي تصيب بني العائلة مما يظهر على شكل تحول من العائلة الواسعة الممتدة (التي هي نتاج البيئة الزراعية الريفية والتي يمكن قياس سلوك أفرادها بالارتباط بقيم الجماعة وعاداتها وتقاليدها وعيبها وحلالها وحرامها... والتي تتمحور السلطة فيها والمرجعية عند زعيم العائلة والمسؤول الأول فيها إذ أنّ العائلة الواحدة تجمع عدة أسر صغيرة) إلى الأسرة النواتية (التي هي نتاج البيئة الصناعية المدينية والتي يمكن قياس سلوك أفرادها بالاستقلال عن قيم الجماعة وعاداتها وتقاليدها وعيبها وحلالها وحرامها وبحيث تتمثل المرجعية فيها عند الفرد مباشرة وبخاصة إذا ما بلغ سنّ الرشد).
نقول أنّ حركة الأسرة العربية تتسم بالتحول من الواسعة الممتدة إلى النواتية: وبوضوح أكبر: إنّ التحول لم يتم بالكامل. فالأسرة العربية ليست أسرة نواتية أي أنّها لم تتفكك بالكامل وذلك بالرغم من التحول الهائل الذي حصل في بنى المجتمعات العربية من حيث الطفرة الاقتصادية والانتقال من قيم الريف إلى قيم المدينة. وذلك أنّ هذا الانتقال لم يحصل كما حصل في أوروبا مع النهضة الصناعية الكبرى وإنما الذي حصل في العالم العربي هو عبارة عن حركة أدّت إلى ترييف المدينة وتمدين الريف بحيث اختلطت القيم وتداخلت ولم تتغير بالكامل عن طريق الانتقال من الشيء إلى ضده. وهكذا فإنّ التماسك ليس الظاهرة التي تطبع حركة الأسرة العربية، على أن التفكك الكامل ليس أيضاَ الظاهرة التي تطبع هذه الحركة. فالأسرة العربية تعيش حالة من التراخي الذي يميل نحو التفكك الذي لم يستقر بعد على قرار نهائي، وذلك يعود إلى أن المجتمع العربي كلّه يعيش هزة اجتماعية اقتصادية ثقافية عميقة وتتنازعه الهبّات المتجاذبة للأصالة والتجديد.
إنّ الأسرة العربية هي ميزان الحركة الاجتماعية العربية. وقد أكدت القيم السماوية على أهمية الأسرة في تربية الأجيال الناشئة. فالأديان تعمقت في هذا المجال. وقد استنارت النظريات النفسية من النظريات الدينية ورأت في قيم الأسرة انعكاساً لقيم المجتمع من ناحية وفي قيم الفرد مع ذاته وفي علاقاته مع الآخرين انعكاساً لقيم الأسرة من ناحية ثانية. وإذا كان الانتقال من نمط الأسرة الواسعة إلى نمط الأسرة النواتية يعني الانتقال من نمط التبعية في العلاقة بالأهل إلى نمط الاستقلالية عن بعض قيمهم فهذا لا يعني أن يفقد الأبناء علاقتهم الأخلاقية بالأهل أو بالمجتمع بشكل عام. هذا وما وقعت فيه حركة الأسرة في أوروبا وهذا ما نتمنى أن لا نقع فيه نحن في عالمنا ونحن نواكب حركة الانتقال التي تشهدها مجتمعاتنا من بنية إلى أخرى. والدراسات النفسانية تؤكد هذا القول: ذلك أنّ أوروبا شهدت موجات واسعة من الاضطراب النفسي والاجتماعي عندما ابتعدت عناصر الأسرة عن مرجعها وموجهها وأسقطت محرماتها وممنوعاتها فأسقطت بذلك مثلها العليا. والدراسات النفسانية في هذا المجال وجدت علاقة قوية وعميقة بين أمراض الذهان وتفكك الأسرة المريضة(2).
إنّ الدراسات الكثيرة التي أجريت حول سلوك الانحراف والإجرام(3) تشير إلى أنّ سلوك الجريمة هو بالإضافة إلى كونه يؤذي المجتمع، سلوك يعاقب عليه القانون الجزائي. والقانون هو الذي يحدد سلوكاً ما كونه جرماً أو انحرافاً. ذلك أن ما هو سلوك إجرامي أو انحرافي في مجتمع ما ليس بالضرورة كذلك في مجتمع آخر. وتجب الإشارة إلى أن سلوك الجانح هو سلوك منحرف وإجرامي ولكنه يقع عند الفئة العمرية التي هي تحت السن القانونية أي عند القاصر.
وعلى هذا فالجنسية المثلية والسرقة والاغتصاب واستعمال السلاح غير المرخص وتعاطي المخدرات والإخلال بالآداب العامة وتزوير الهوية والنصب والاحتيال والقتل وإيذاء الآخر بالانتحار أو الإهمال... كلها عينات من سلوك الانحراف التي يعاقب عليها مجتمعنا من ناحية والتي يمكن أن يقوم بها الراشد والقاصر من ناحية ثانية. وهي إما سلوك جريمة إذا قام بها الراشد أو سلوكاً جانحاً إذا قام بها القاصر، في الحالتين نحن بصدد سلوك محرّم وممنوع يؤذي المجتمع ويمكن أن نقي صاحبه منه إذا أحسن الأهل التصرف واعتمدوا استراتيجية الوقاية.
ومعظم الدراسات التي يشير إليها كلينبرغ تربط ما بين سلوك الجريمة والانحراف من ناحية، والأمية وحالات الطلاق في أسرة المجرم من ناحية ثانية. بحيث أنّ الأمية والمشاكل الأسرية هي من الدوافع الأساسية لسلوك الجريمة. وتشير هذه الدراسات إلى أن من أهم خلفيات دوافع الجريمة ما يلي:
إنّ معظم الجانحين والمجرمين يعانون من اضطرابات عاطفية علائقية معقدة مثل الشعور يعدم الأمان في إطار الأسرة وبالإحباط والتظلم والشكوى من الحظ السيء ومن تفكك الأسرة ومن ضياع الانضباط العائلي ومن الشعور بالدونية ومن الغيرة والمزاحمة والتنافس مع الأخوان والأخوات ومن مشاعر الندم وتأنيب الضمير على أعمال ممنوعة يقومون بها في الخفاء ويعرفون أنّها غير مقبولة ولكنّهم لا يستطيعون أن يمتنعوا عن القيام بها. بحيث أنّ الأسرة إذا فقدت تماسكها وأهملت قانونها عاش عناصرها طفرة سلوكية تؤدي إلى الهلاك والمرض النفسي(4) وفي هذا المجال فإنّ أهم وأعمق التفسيرات النفسانية لسلوك الانحراف سواء كان عصاباً (مثل الهستيريا والهاجس والخواف) أو ذهاناً (مثل العظام والانهيار العصبي) أو سلوكاً هامشياً (كجماعات الإنعزال والفلسفات الوجودية المتمادية) ترى في هذا السلوك المنحرف مؤشراً لانعدام المرجع ولغياب السلطة ولتسيب الأسرة ولتداعي المثل والقيم مما يسقط الفرد في دوامة الضياع والفراغ واليأس والبؤس.
3- معادلة الدافع والواقع هي معادلة التكيف السوي والعاصم عن السلوك الجنائي:
قبل الدخول في تحليل أوالية تأثر السلوك المنحرف بالتفكك أو الانحراف الذي يصيب دينامية الحياة الأسرية، لا بدّ لنا من التوقف قليلاً عند الجواب الاجتماعية والقانونية لسلوك الجناح والانحراف والجريمة بهدف جلاء الظاهرة وتوحيد المفاهيم والوقوف على أرضية نظرية واحدة. إنّ عملية تكيف الفرد مع الجماعة التي يعيش فيها هي الهدف الأساسي لأسرته في البداية ويجب أن يصبح هدفه الشخصي والمباشر بعد ذلك لكي يستطيع أن يندمج في مجتمعه ويصبح فاعلاً فيه ويحتل موقعاً في الحياة الاجتماعية. وإذا لم تتم عملية التكيف هذه فإنّ الجماعة تلفظ الفرد الذي يمكن أن يسقط بفعل هذا الرفض في متاهات المرض النفسي أو السلوك المنحرف. والفرد المتوالف مع الجماعة هو الذي يعيش قيمها ويحتل مركز الوسط في البيئة الاجتماعية أما الذي يتناقض مع قيم الجماعة فهو الذي يعيش على هامشها (وهو لذلك هامشي) أي أن سلوكه إما منحرف أو جانح أو مجرم. أما كيف يصل سلوك الفرد إلى حدّ الانحراف والجريمة فإن ذلك يظهر من خلال ما يسمى بعتبة الإنفجار: إنّ كل سلوك يحدد بالدافع وبالواقع. أما الدافع فهو عبارة عن إلحاح الحاجة عند صاحبها نحو إشباع غريزة ما مادية أو معنوية وهذا اندفاع لا يعرف الحدود ولا الموانع. وأما الواقع فإنّه يتجسد بالحدود الاجتماعية والقيم الأخلاقية والمبادىء الدينية التي تنظّم المسموح والممنوع. وصيغة التسوية التي تتم بين الدافع والواقع هي الكفيلة بأن تجعل من سلوك الفرد المندفع إنساناً متوالفاً مع الواقع. وإذا لم يحصل هذا التوالف فإنّ السلوك يجنح نحو الانحراف والجرم. وكلّ فرد يمكن أن ينحرف إذا لم يتوالف مع المجتمع ووحدة قياس هذا الاحتمال مرتبطة بحدة الدافع وبقانون الواقع: فكلما تعاظمت حدّة الدافع وطالت لائحة القانون وطال وقت عدم الاستجابة لبعض من عناصر الدفع كلما اتجه الفرد نحو السلوك المنحرف. والأهل لهم دور كبير في إنتاج صيغة التسوية ومن هنا تبدو إمكانية الوقاية من الانحراف ممكنة ومطلوبة. ويرى سكينر (skinner) في هذا المجال أنّ المجتمع هو عبارة عن مختبر كبير ينظم سلوك الفرد في الجماعة كما أنّ المختبر هو عبارة عن مجتمع صغير يجسم بشكل مصغر دقائق التشابكات العلائقية الاجتماعية.
4- أهمية السلطة الوالدية داخل الأسرة:
-
قانون الأب هو قانون الأسرة:
إنّ الأسرة هي التي تحدد لعناصرها القانون الاجتماعي وذلك من خلال ما يسمى بقانون الأب الذي هو عبارة عن السلطة التي يمارسها الأب على أبنائه في اتجاه تحديد سلوك الحلال وسلوك الحرام. وهذا القانون الأبوي هو نسخة أسرية تعتمد في البداية صورة قانون المجتمع. ودور الأب هو أن يتحول إلى مرجع بالنسبة لسلوك أبنائه. حيث أنّهم يقتدون به ويحذون حذوه بشكل مباشر أو غير مباشر، واع أو غير واع إذ أنهم يعتمدون سلوكه في الحالات المشابهة سواء كان موجوداً أو غير موجود. فإذا غاب دور الأب أو أنه غاب جسدياً دون أن يترك أثراً في تربية أبنائه فإن مرجعيته تختل عند ذلك ويختل سلوك أبنائه ويجنحون نحو الانحراف والإجرام.
وإذا كان الأب يملك سلطة مرجعية القانون ويعتمد كرمز للتماهي والتقليد على الصعيد الذهني والعلمي، فإنّ الأم هي صاحبة السلطة العاطفية: هي التي تبعث عند الأبناء الشعور بالأمان والاطمئنان والانتماء وهي التي تؤمن لهم حرارة العلاقة الأسرية، فهي ترضعهم الحنان مع الحليب بداية ومع الطعام بعد ذلك. وعلى هذا فإن شخصية الفرد تتغذى من مرجعية سلطة الأب ومن حنان عاطفة الأم. وكما أنّ سوء التغذية النفسانية يمكن أن يؤدي إلى ضعف الشخصية ومرضها وما نتج عن ذلك من سلوكات منحرفة. ولعل الشرط الأساسي الذي يقنع الأبناء بالانصياع لأوامر ونواهي أهلهم يكمن في شعورهم الفعلي بأنّ الأهل يعاملون أبناءهم سواسية كأسنان المشط وبالعدل والمساواة وقياساً بالعمل الصالح وهذا ما سمّاه كوجيف بالحالة القانونية الانفعالية(5).
إنّ المفتاح الأساسي الذي يسمح للأهل بلعب دور الوقاية من وقوع أبنائهم في سلوك الانحراف والجريمة يكمن في أن يعطي الأهل القدوة السلوكية الحسنة المعتمدة على قانون المجتمع وقيمه والمعتمدة أيضاً مبدأ الاعتراف بالأبناء مع العمل على توليف هذا الاعتراف مع حقائق الواقع وصعوباته. باختصار إنّه تكيف الأهل مع واقع أبنائهم بداية، والعمل بعد ذلك على تكييف أبنائهم(6) مع حقائق الواقع الاجتماعي وصعوباته وتشابكات عناصره. والاستراتيجية الفضلى في هذا المجال تشير على الأهل الامتناع عن الإسفاف العاطفي والانفعالي في التعامل مع أبنائهم سلباً أو إيجاباً: فالعطف الزائد يؤدي إلى تعطيل عملية التكيف عند الأبناء لأنّه يربكهم ويمنعهم من الفطام والانفصال عن الأهل وتكوين الشخصية السليمة القادرة على تحمل ابتعاد الحاجة عن إشباعها. والعطف الناقص يؤدي أيضاً إلى تعطيل عملية التكيف عند الأبناء لأنّه يحبطهم ويتركهم عرضة لمشاعر الغبن والخوف والتظلم ويتركهم في مجتمع يحقدون عليه ويرون فيه سبباً لتعاستهم (وذلك تمشياً مع عملتي: الإجتياف والإسقاط)(7).
- الإستراتيجية التربوية السليمة:
وعلى هذا فإنّ الإستراتيجية السليمة هي التي تعطي الأبناء الحنان والاهتمام اللازمين (وتلك عملية يعرفها الأهل بالحدس والسليقة وتتغير من شخص لآخر) دون أن تحجب هذه العاطفة الأبوية والأمومية عن الأبناء صعوبات الواقع وتعقيداته. في هذا السياق فإنّ الصورة النموذجية للأبوين اللذين يمكنهما القيام بدور الوقاية من السلوك المنحرف هي صورة الأب صاحب السلطة الفاعلة الحانية وغير الزاجرة من ناحية، وصورة الأم صاحبة العاطفة المنعشة وغير المخدرة من ناحية ثانية: بحيث أنّ سلطة الأب تتحول إلى مرجع وبوصلة للسلوك عند الأبناء، وحنان الأم يتحول إلى غذاء يساعد الأبناء على تخطي صعوبات العلاقة الاجتماعية وبخاصة عند الأبناء في عمرهم الطري الأول. وعند ذلك تتحول الأسرة من خلال الأب والأم إلى وعاء وصمام أمان يساعد الأبناء على امتصاص نقمتهم على الواقع اليومي الصعب والمعقد، فبدل أن يوجه الابن المحبط نقمته على المجتمع بواسطة سلوك انحرافي فإنّه يركن(8) إلى حضن الأم وربما بكى بين يديها واستعاد عافيته، ويفزع إلى مرجعية أبيه طالباً منه العون والمشورة وشدّ الأزر.
- النماذج الوالدية النموذجية والنمطية:
أما الواقع الأسري فإنّه غالباً ما يخلو من هذه الصورة الأبوية النموذجية اللازمة للوقاية من الإثم والسلوك المنحرف والمجرم فنجد مكانها العديد من الصور الأسرية التي تدفع بشكل مباشر أو غير مباشر إلى سلوك الانحراف والجريمة. وهكذا فإننا نجد النماذج السلوكية الأسرية التالية:
أ‌- السلطة الأبوية:
(سلطة قانون الأب أو سلطة عاطفة الأم)(9) القاسية التي تعامل الأبناء بالعنف والعدوانية فتصبح بذلك نموذجاً سلوكياً يقتدى. كما نجد ثانياً: السلطة الأبوية الضعيفة التي بفقدها يفقد الأبناء بوصلة الاتجاه ومرجعية القيم مما يسهل الهامشية والانحراف والإجرام. ونجد ثالثاً: السلطة الأبوية المتراخية حين لا يدعو الموقف إلى التراخي. وبذلك فإنّ سلوك الأبناء يصبح محابياً للعمل الإنحرافي إذا ما توافرت لاحقاً الظروف البيئية لذلك.
وعلى صعيد آخر  فيمكننا أن نجد النماذج الأبوية التالية (التي لا تساعد في عملية الوقاية من السلوك المنحرف):
الأب العصابي الذي يعطي أبناءه نموذجاً سلوكياً مرضياً يتماهى به أبناؤه ويقلدونه والأب المتسلط الأناني الذي يعطي لأبنائه الإذن لسلوك هذا السبيل واعتماد كلّ ما يؤدي إلى اتباع الغرائز ودغدغة النرجسية، والأب القاسي الذي يتحول إلى مثال إجرامي انحرافي مباشر، والأب الغائب لدواعي عديدة والذي يترك مكانه فارغاً مما يفقد أبناءه توازنهم فيفقدون بذلك وحدة القياس السلوكي ويعتمد سلوكهم عندئذ اجتهادات ذاتية غالباً ما لا تتوافق مع قانون المجتمع الذي لا يغيب إذا ما غاب قانون الأب.
ب‌- ومن جهة ثانية فإننا نجد الصورة الأمومية التالية:
الأم العصابية التي لا همّ لها إلا غرائزها والتي غالباً ما تقوم على ركام غرائز أبنائها، والأم المهملة التي يعيش أبناؤها في الأسرة وكأنّهم يتامى معنوياً ومادياً، وأخيراً الأم الغائبة(10) التي تركّز اهتماماتها خارج الأسرة بدل أن تركزها في مكانها الطبيعي.
- نماذج وأنماط سلوك الأبناء:
هذا لجهة الإطار الاجتماعي الأسري الذي يتحرك فيه إما لجهة ردّات فعل الأبناء على هذا الواقع الأسري فإنّها متنوعة ومتناقضة/ والمنطق الأساسي بفهم ردود الفعل هذه يتجسد في النظرية القائلة بأنّ الأبناء غالباً ما يسخّرون العقل في خدمة الانفعال. بمعنى أنّ الطفل يوظف ذكاءه أحياناً في سبيل حلّ مشكلة شخصية في علاقته مع أهله ومجتمعه بدل أن يصرف طاقته الذهنية والفكرية في سلوك مقبول اجتماعياً، وهذا ما يؤدي به أحياناً إلى السلوك المنحرف لأنّه يعيش مشكلة أسرية تستنزف كلّ نشاطاته وقدراته. وإذا ما أقدم على عمل شرير ومجرم فإنّه في بداية اعتماده هذه الأنماط السلوكية المنحرفة غالباً ما لا يقاوم كثيراً نزوعه إلى الاعتراف بالجريمة. وهذا ما يضاعف مسؤولية الأهل في صيانة أبنائهم من مخاطر الانحراف عن طريق عدم تعريضهم لهزات أسرية عميقة وعنيفة.
أ‌- إنّ الأبناء يجدون أنفسهم في مواجهة سلطة أهلهم عليهم (بصرف النظر عن صواب هذه السلطة وصحتها) أمام احتمالات ثلاث:
إما القبول بأهداف سلطة أهلهم عليهم وبالوسائل المعتمدة للوصول إلى هذه الأهداف، أو رفض هذه السلطة بأهدافها والوسائل. (مع احتمال رفض أو قبول للهدف أو الوسيلة فقط).
وإما التردد في القبول أو الرفض وذلك لتفكك الأسرة أو لكونها تمر في ظروف دقيقة وحادة ولم تثبت بعد قيمتها وقوانينها على قرار.
والموقف النموذجي المطلوب لكي تتمّ عملية الوقاية من السلوك المنحرف هو الذي نجده في أسرة تعتمد أهدافاً ووسائل تربوية متوافقة مع قانون المجتمع ويشرف عليها أب وأم  يحمل كلاهما صورة نموذجية إيجابية سليمة ويقبل الأبناء قيم الأسرة بعد فهمها والتكيف معها.
ب‌- وفيما يتعلق بردود فعل الأبناء على قيم آبائهم وأسرهم ومن حيث كيفية التعاطي مع السلطة الأبوية في اتجاه تثبيت أو تأكيد المأزق العلائقي(11) فإنّ التحليل يشير إلى موقفين أساسيين:
الموقف الأول: القبول الايجابي أو القبول السلبي لقيم الأهل من ناحية اعتبار قيم الأهل هي في ذاتها قيم الأبناء في حالة القبول الإيجابي أو مما يعني اعتماد مسافة لا بأس بها بين قيم الأهل وقيم الأبناء في حالة القبول السلبي دون أن يؤدي هذا القبول إلى رفض هذه القيم. وغني عن الإشارة إلى أنّ موقف القبول الإيجابي هو الأفعل في عملية الوقاية من الجريمة لأنّه يحصّن الأبناء أكثر بحيث يجعلهم معنيين أكثر بالقيم الاجتماعية التي يعتمدها الأهل وحيث أنّ الأبناء يقاومون أكثر مغريات تخطي الأخلاقية.
الموقف الثاني: هو الرفض الفاعل والمباشر لقيم الأهل، وهو موقف تدميري عنيف يتوجه مباشرة نحو الخارج أي نحو المجتمع بشقيه المادي والمعنوي. وهذا هو نموذج السلوك المنحرف والمجرم بشكل مباشر. والأبناء عندما يقومون بهذا العمل فإنهم يوجهون سلوكهم المجرم هذا وفي آن واحد للأهل وللمجتمع. وهذا أيضاً سلوك الرفض غير الفاعل وغير المباشر لقيم الأهل. وهو موقف تدميري عنيف يتوجه بداية نحو الذات بحيث أنّه يدمر الذات ويقتل إرادة أهلهم فيهم والصورة النموذجية التي يطلبونها منهم وبذلك فإنّهم بشكل غير مباشر يسيئون إلى أهلهم ومجتمعهم عبر رفضهم الإقتداء بالقيم السائدة(12).  وهذا النوع من السلوك المنحرف والإجرامي الذاتي غالباً ما نجده في حالة المرض النفسي. فبدل أن يدمر الفرد أهله ومجتمعه مادياً ومعنوياً فإّنه يدمر نفسه مادياً ومعنوياً وبذلك يتحول إلى عنصر غير فاعل، بل إلى عنصر مريض ومفسد في هذا المجتمع.
5_ أهمية مرجعية الأهل والدور العلائقي للأسرة: 
لا بدّ من إعادة تأكيد الدور الحاسم والنافذ للأب والأم في إنتاج السلوك المنحرف أو في الوقاية منه. إنّ في الآيات القرآنية الكريمة ما يدفع الأهل ويحفزهم على المزيد من الاهتمام بسلوك الأبناء لأن في هذا الاهتمام وعد وإرادة إلهية سامية خلاصتها البرّ بالوالدين بسبب التربية التي نالها الابن من أهله.
إنّ في الآية الكريمة «فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا» ما يدعو الأبناء إلى معاملة الأهل بالحسنى والابتعاد عن الإيذاء المعنوي والجسدي الذي يعبر عنه سلوك النهر والزجر ومواقف التأفف والتبرم، كلّ هذه التصرفات يمنعها ويحرمها القرآن الكريم في علاقة الأهل بأبنائهم ويقيم مكانها وزناً للقول الكريم وأيضاً للسلوك الكريم، والسلوك القويم والكريم في تعامل الأبناء مع الأهل يتجسد في خفض الجناح وطلب الرحمة واعتماد نوع من سلوك الدونية في التعامل معهما وذلك بسبب التربية التي تلقاها الأبناء من الأهل، والتي يفترض بالطبع وحسب المنطق القرآني أن تكون تربية سليمة تقي الأبناء من الانجراف في مهاوي الجريمة والسلوك اللاأخلاقي. وهنا يأخذ القول الكريم بعداً عبقرياً تربوياً حيث يربط حسن تعامل الأبناء مع الأهل بحسن تربية الأهل للأبناء حيث أن حسن التربية هذا هو الواقي من الانحراف والمعاصي والآثام، ذلك أنّ هدف التربية السليمة هو الإعداد للآتي من الأيام عندما يصبح الأبناء أحداثاً أو راشدين وبالتالي منفصلين عن الأهل كهوية وكيان معنوي ونفساني بعد أن تتكون شخصيتهم تأثراً بالأهل وتمثلاً بهم وتماهياً بسلوكهم سلباً أم إيجاباً لأنهم القدوة الحسنة والبوصلة التي تحدد الاتجاهات والمرجع الذي تقاس به المواقف والمعطيات: «وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا».
إنّ حسن تربية الأهل لأبنائهم وصل بالمنطق القرآني الكريم إلى حدّ التغاضي في الشكل عن بعض الإشكالات التي تطال العقيدة. فحتى لو أشرك الأهل بالله سبحانه وتعالى وحاولوا أن يورطوا أبناءهم في معصية الشرك هذه، فإنّ على الأبناء بالطبع أن يرفضوا ذلك ولكن عليهم في الوقت نفسه أن يتجملوا بالقول الكريم في تعاملهم مع أهلهم الذين رعوهم وربوهم، حتى ولو أنّهم لم يحسنوا تربيتهم. هذا هو أسوأ الاحتمالات بالطبع أي تربية الأهل لم تكن جيدة لأبنائهم ولكن الأبناء عليهم أن يتخطوا ذلك ويعرفوا الخطأ من الصواب وعليهم في الوقت نفسه أن يحسنوا التعامل مع الأهل. ولكن الاحتمال الأعمق والأشمل هو أن يحسن الأهل تربية أبنائهم وأن يحسن الأبناء التعامل مع أهلهم، كونهم أهلهم من ناحية وكونهم سهروا على تربيتهم من ناحية ثانية. وحسن التربية هو الواقي من المعصية والعاصم عن الخطأ والمانع من الانحراف، «وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا» «وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا».
إنّ في هذا الموقف القرآني السامي تحفيزاً ودافعاً للأهل على القيام بدورهم التربوي السليم نحو أبنائهم صوناً لهم وتنظيماً لسلوكهم كي يكون متوافقاً مع مبادىء السيرة الكريمة، وعملية التحفيز تظهر من خلال الطلب من الأبناء عدم نسيان هذا الموقف التربوي ومقابلته بالبر والتقوى والعمل الصالح اتجاه الأهل. وماذا يطلب الأهل وبخاصة في سن الشيخوخة والعجز أكثر من ذلك، أبناء كرماء يحاذرون سلوك المعصية ويعاملون الناس بالرفق ويبرّون بأهلهم؟ إنهم بذلك مثال لعملية استمرارية نرجسية أهلهم من خلالهم. وفي هذا الموقف التحفيزي ما يناسب الأهل والأبناء والمجتمع في آن واحد. إنّ قانون الأب الذي ليس سوى انعكاس للقانون الاجتماعي يلحظ مصالح الأهل والأبناء والمجتمع ويمحور جميع هذه المصالح حول ما يسمى بلائحة القيم التي تحدد المسموح والممنوع  والجريمة هي أول الممنوعات، ومن هذه الجرائم معصية الله وعدم البر بالوالدين وتخطي حدود الله في التعامل مع الناس.
إنّ دور الأهل في احترام لائحة القيم المشار إليها كبير. فطريقة تربيتهم لأبنائهم هي التي تساعد عملية التكيف مع قيم هذه اللائحة أو تعيقها وتجعلها تتأثر. فأسلوب تربية الأهل بشكل يتوافق مع الصور النموذجية التي تحدثنا عنها هو الذي يسمح للأبناء بالمزيد من فهم ومعرفة جوهر وكنه المحرمات والمسموحات، ويؤدي إلى تمثل هذه القيم واعتمادها جزءاً أساسياً من بنية شخصية الفرد بحيث تتحول هذه المبادىء إلى رقيب داخلي ذاتي على النفس يحاسبها على سلوكها ويربط هذا السلوك بتلك القيم. وعلى هذا فإنّ حسن تمثّل الأبناء وعمق امتثالهم لقيم أهلهم التي هي قيم المجتمع بشكل عام، هو المؤشّر الأساسي على فشل أو نجاح المهمة التربوية التي أناطها الله سبحانه وتعالى بالمسؤولية الوالدية في الأسرة والمجتمع. وهذا ما يظهر من خلال ما يسمى بالضمير الأخلاقي أو بالأنا الأعلى أو بمثال الأنا أو بالأنا المثلى. إنّ درجة التمثّل والامتثال في سلوك الأبناء قياساً بمبادئ أهلهم التربوية تتراوح من الرفض إلى القبول (ممّا يرتبط بأسباب عديدة ومتشابكة أتينا على ذكرها). وأما القبول فإنّه يترواح من درجة التكيّف المؤقّت إلى التكيّف الدائم الذي يصل إلى حد التدامج والانصهار. والتكيّف المؤقّت يظهر عندما يداري الأبناء أهلهم في تصرفاتهم المغايرة للمبادئ الأسرية (التي تحترم قيم اللائحة المشار إليها) حيث أنهم يحترمون هذه المبادئ فقط في ظلّ الوجود المادي والجسدي للأهل، وأما عندما يغيب الأبناء عن دائرة رقابة أهلهم لهم فإنهم يعتمدون سلوكاً مغايراً للقيم المرعية الإجراء. إنّ التمثّل والامتثال يظهران على شكل مؤقّت وسطحي بحيث إن القيم لم تصبح جزءاً أساسياً من الشخصية وبحيث إن الشعور بالذنب وتأنيب الضمير كردة فعل على عدم احترام هذه المبادئ والعمل بموجبها تبقى مشاعر باردة وغير فاعلة. أما التكيّف الدائم الذي يصل إلى درجة التدامج والانصهار فإنّه يظهر عندما لا يكون سلوك الأبناء حيال مبادئ أهلهم (التي أصبحت مبادءهم بالكامل) سلوك مداورة يرتبط فقط بالوجود المادي والجسدي للأهل بحيث يكون الأبناء في دائرة رقابة أهلهم، وإنّما يرتبط سلوك الأبناء بالوجود المعنوي لأهلهم، بحيث إنّهم إذا خالفوا وحتى بشكل غير مقصود واضطراراً المبادئ التربوية الأسرية فإنّ مشاعر الذنب وتأنيب الضمير تأكلهم وتقض مضاجعهم.
إنّ العامل الحاسم في هذه التربية الأسرية هو أولاً إحساس الأبناء بمدى وعمق اقتناع الأهل فكراً وسلوكاً بالقيم والمبادئ التي ينادون بها مما يجعلهم قدوة حسنة فعلاً في نظر أبنائهم فعند ذلك يحصل التمثّل. وثانياً، اقتناع الأبناء بصحة وصوابية هذه المبادئ. وتلك قضيّة ترتبط إلى حد كبير بقدرة الأهل على الحوار والنقاش مع الأبناء شرحاً وترغيباً وليس قهراً وترهيباً، ذلك أنّ العمل الصالح المتوافق مع مبادىء الأخلاق لا جدال فيه، على أن من واجب الأهل ومسؤولياتهم إقناع العقل الطري والبريء للطفل بهذه المبادىء والأبوة الحقّة والأمومة الحقّة بمعنى أن الوالدية التي يحسّ بها الطفل في كيانه وأحشائه ويومياته هي أهم ما يدفع بالأبناء إلى اعتناق مبادىء أهلهم بالحدس وبالانفعال وبالذهن.
إنّ الطفل صفحة بيضاء ملساء طيّعة، تستوعب ذبذبات وهمسات ووشوشات الأهل وسلوكهم ومنطقهم، والطفل يرضع ذلك مع حليب الأم ومع حماية الأب وسلطته ويخزن كلّ هذه المشاعر والأفكار ويعتمدها في الأيام اللاحقة عندما يبلغ أشده. وكلّ إعاقة لعملية التخزين هذه لا بدّ من أن تبدأ بخطأ والدي. وأول هذه الأخطاء هو مرض تفكك الأسرة التي تحدّ من تماسك أبنائها فتعيق بالتالي دور الأب والأم في التربية السليمة مما يفقد الأبناء المناعة السلوكية ويؤدي بهم في مهالك الهامشية والانحراف والجريمة. فإذا طُلب من القاضي والاجتماعي أو النفساني تحديد سبب الجريمة فإنّه يبحث في أول الأمر عن واقع الأهل ونمط حياتهم وأشكال تعاملهم مع أبنائهم ففي تماسك الأسرة وقاية من الجريمة وفي تفككها تحفيز لسلوك الانحراف والهامشية.
6-الدور العلائقي للأسرة- خلاصة:
إنّ الأسرة هي الوحدة الاجتماعية الأولى التي يرتادها الفرد. طفل الإنسان يختلف عن طفل الحيوان في أنّ الأول يحتاج لرعاية الأسرة عبر مرجعية الأب وحنان الأم، على أنّ الثاني يعتمد في تكيفه مع المحيط على بنيته الغرائزية وهو بذلك يرتهن للطبيعة أكثر من ارتهانه للأسرة.
إنّ الدور الأساسي للأسرة هو تنظيم العلاقات فيما بين العناصر المكونة لها من ناحية، وفيما بينها وبين البيئة الاجتماعية العامة من ناحية ثانية. ويختلف الأمر بطبيعة الحال، في أداء هذا الدور العلائقي تبعاً لنمط الأسرة. فعلاقات الأسرة النواتية محكومة بقوانين الاستقلالية في مجالات الحياة اليومية، أما علاقات الأسرة الواسعة فإنّها محكومة بقوانين التبعية في هذه الحالات.
ولا بدّ من التمييز ما بين ثلاثة مستويات من العلاقات التي تحضنها الأسرة وتديرها بأشكال مختلفة على صعيد التبادلات بين العناصر المكونة لهذه الوحدة البشرية المهمة:
1- مستوى علاقات الأزواج، وتبدأ هذه العلاقات باتخاذ قرار الزواج، المحكوم بنمط الأسرة وبالعوامل المتحكمة بها على الصعيدين الشخصي والعام وتصل مفاعيل هذا القرار وآثاره على العلاقات ما بين أسرتي الزوجين في المجالات اليومية والخيارات العامة.
2- مستوى العلاقة بين الأبناء، ويبدأ بالأدوار التي تُعطى للكبار منهم (البكر) وللصغار، لمن يملك السلطة والمال والمعرفة منهم ولمن لا يملك شيئاً من ذلك. وهذا المستوى من العلاقات الأسرية يمكن أن يسقط في متاهات صراع قابيل وهابيل إذا لم تحصن الأسرة الأبناء بروح المودة والتآخي والتعاضد.
3- مستوى العلاقة ما بين الأهل والأبناء، ويبدأ المسؤوليات اليومية التي تحملها قوانين الأسرة وأعرافها للأهل في رعاية أبنائهم وأطفالهم وكسائهم وإسكانهم والعطف عليهم وتأمين الأمن والأمان والسكينة لهم، وتمر بالبر بالوالدين وبالتوافق مع سلطتهم وبالرأفة بهم. وتتمحور حول تسوية الصراعات الكامنة بين الطرفين على أساس تناقض الأجيال وعلى قاعدة عدم إكراه الأبناء على شيء لأنهم خلقوا لزمان غير زمان الآباء.
إنّ الدور الأساسي للأسرة هو بالدرجة الأولى التحصين أمام الإنزلاق في متاهات الإثم والانحراف والهامشية. والأسرة هي الخلية الأولى التي تضبط حركة الحلال والحرام وفيها يتصالح مبدأ اللذة مع مبدأ الواقع. فعطف الأم ورعاية الأب يشكلان النموذج الأول الذي يبنى على أساسه حنان الزوجة وهيبة الزوج. والخيط الرفيع الذي يفصل بين العلاقتين الأبوية والزوجية هو قانون الحلال والحرام. والإنزلاق في العلاقات خارج نطاق هذا الخيط الرفيع هو مؤشّر السقوط في الإثم مما يعني فشل الدور العلائقي للأسرة ودخول العلاقات الأسرية في متاهات الفوضى والتقاتل والتفكك.
إنّ النماذج العلائقيّة التي تسود الأسرة يمكن أن تكون على صورة السلطة الحانية التي تهتم بأن تنطلق طاقات عناصر الأسرة في رحاب الإبداع والابتكار والتطور الخلّاق، كما يمكن أن تكون على صورة السلطة الزاجرة التي تهتم بأن تخنق طاقات عناصر الأسرة وتضيق عليها وتخمد نبض الحياة فيها وتقوقعها في جمود التقليد واستعادة سلوك الأهل والأجداد. وما بين الزجر والحنان تتحرك العملية العلائقية لدور الأسرة. وليست أهداف ورشة تنظيم الأسرة سوى إطلاق دور الحنان المتكيّف للأسرة على مقياس القدرة الفعلية على آداء هذه المهمة، وما يستتبعه ذلك من تقليص الدور الزاجر مما يسمح بأن يعبر كل عنصر من عناصر الأسرة عن ذاته ورغباته والعمل على تحقيق ما يمكن تحقيقه من هذه الرغبات تمشياً مع مبدأ الممكن والمفيد من طموحات الفرد.
ولعل المهمة الأولى للدور العلائقي للأسرة هو تحويل الأسرة إلى نافذة رحبة وخلّاقة يطل منها الطفل على العالم الخارجي، وعلى الأسرة أن تزيل قلق ومخاوف أبنائها من حاضرهم ومستقبلهم. ذلك أن نظرة الطفل للخارج الاجتماعي هي انعكاس لنظرته إلى الداخل الأسري، والقلق الأسري هو المدخل إلى سيكولوجية الأفراد وإلى مراحل نموهم وتطورهم، وعلى الأسرة تحصين الأبناء أمام هذا القلق.






الهوامش

(1) حطب (د. زهير)، تطور بنى الأسرة العربية، معهد الإنماء العربي، بيروت 1977.
(2) PANKOW, (G) Structure familiale et psychose, Aubier Montaigne, Paris, 1977.
(3) KLIMBER, (O), Psychologie sociale, Paris, 1967.
(4) CHASSEGUET-SMIRGEL, (J), L’Idéale du moi, Tchou, Paris, 1975.
(5) KOJEVE, (A), Esquisse d’une phenomenology de droit, Gallimard, Paris, 1981.
(6) LINTON, (R), Le fondement culturel de la personnalité, Dunod, Paris, 1967.
(7) SAMI ALI, (M), De la projection, Payot, Paris, 1970.
(8) L’attachment, Textes de base en psychologie, De la chaux et Niestle, Paris, 1979.
(9) حطب ومكي (زهير وعباس)، السلطة الأبوية والشباب، معهد الإنماء العربي، بيروت 1979.
(10) FEDIDA, (P), L’absence, Gallimard, Paris, 1978.
(11) حطب ومكي (زهير وعباس)، مأزم الشباب العلائقي، معهد الإنماء العربي، بيروت 1980.
(12) LECLAIRE, (S), on tue un enfant, CHAMPS, Paris, 1977.


المصدر: أ.د. عباس محمود مكي، دينامية الأسرة في عصر العولمة (من مجالات الكائن الحي إلى تكنولوجيا صناعة الجينات)، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، بيروت، لبنان، 2007 م.

التعليقات (0)

اترك تعليق