مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

المكانة المعنوية للسيدة الزهراء(ع)

المكانة المعنوية للسيدة الزهراء(ع)

الصابرة الممتحنة:
إنّ فيوضات السيدة فاطمة الزهراء(ع) لا تنحصر بمجموعة صغيرة تُحسب كمجموعة محددة في مقابل مجموعة الإنسانية. لو أننا نظرنا بنظرة واقعية ومنطقية، فإنّ البشرية مرهونة لفاطمة الزهراء(ع)، وليس هذا جزافاً، إنّها حقيقة، كما أنّ البشرية مرهونة للإسلام والقرآن ولتعاليم الأنبياء(ع) والنبي الخاتم(ص). وقد كان هذا الأمر دوماً على مرّ التاريخ وهو اليوم كذلك، وسوف يزداد تألق نور الإسلام فاطمة الزهراء وسوف تتلمس البشرية ذلك. ما لدينا من تكليف ووظيفة في هذا المجال، هو أن نجعل أنفسنا لائقين للانتساب إلى هذه العترة. وبالطبع إنّ الانتساب لعترة الرسالة وأن نكون من جملة التابعين لهم والمعروفين بولايتهم أمر صعب، حيث نقرأ في الزيارة أننا أصبحنا معروفين بمحبتكم، وهذا ما يلقي على كاهلنا تكليفاً مضاعفاً.
إنّ هذا الخير الكثير الذي أعطاه الله تعالى في سورة الكوثر المباركة كبشارة للنبي الأكرم(ص) وقال«إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ»(1)، حيث إنّ تأويله هو فاطمة الزهراء(ع)، في الحقيقة هو مجمع  جميع الخيرات الذي سوف ينزل يوماً بعد يوم من منبع الدين النبويّ على كلّ البشرية والخلائق. لقد سعى الكثيرون من أجل إخفائه وإنكاره ولكنّهم لم يتمكنوا «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»(2).
يجب علينا أن نقرّب أنفسنا إلى مركز النّور هذا، وإنّ لازم وخاصية هذا التقرب هو التنوّر. يجب علينا أن نصبح نورانيين من خلال العمل، لا بواسطة المحبة الفارغة، العمل الذي تمليه علينا هذه المحبة وتلك الولاية وذاك الإيمان ويطلبه منّا، بهذا العمل يجب أن نصبح من هذه العترة والمتعلقين بها. ليس من السهل أبداً أن يصير المرء قنبراً في بيت علي(ع)، ليس من السهل أن يصبح الإنسان "سلمان منّا أهل البيت"(3)، نحن مجتمع الموالين وشيعة أهل البيت(ع) نتوقع من هؤلاء العظماء أن يعتبروننا منهم ومن حاشيتهم. "فلانٌ من ساكني تربة عتباتنا"، قلوبنا تريد أن يحكم علينا أهل البيت بهذه الطريقة وليس هذا الأمر سهلاً، ولا يحصل بمجرّد الادّعاء. إنّ هذا يستلزم العمل والإيثار والتشبّه والتخلّق بأخلاقهم.
انظروا إلى هذه السيدة الجليلة في أيّ سنّ حازت على كلّ هذه الفضائل، في أيّ عمرٍ برزت فيها كلّ هذه التألّقات، في عمرٍ قصير لم يتجاوز 18 سنة، 20 سنة، 25 سنة بحسب اختلاف الروايات. وكلّ هذه الفضائل لا تحصل عبثاً، "امتحنك الله الذي خلقك قبل أن يخلقك، فوجدك لما امتحنك صابرة"(4)، فإنّ الله تعالى قد امتحن زهراء الطهر، وهي المصطفاة من عباده. إنّ النظام الإلهيّ هو نظام يعتمد على الحساب والكتاب، وما يمنحنا إيّاه إنّما يكون محسوباً بدقّة. إنّه يعدّ كلّ هذا الإيثار والمعرفة والتضحية الخاصة (وهي من عبيده الخواص)، في سبيل الأهداف الإلهية، لذلك جعلها مركز فيوضاته. (5/10/1370)
في رواية أن سطوع نور فاطمة الزهراء(ع) أدّى إلى أن تنبهر عيون الكروبيين من الملأ الأعلى، "زهر نورها لملائكة السماء"(5). فماذا نستفيد نحن من هذا النور والسطوع؟ يجب علينا الاهتداء بهذا النجم الساطع إلى الله وإلى طريق العبودية الذي هو الصراط المستقيم، الذي سلكته فاطمة الزهراء(ع)، فوصلت إلى تلك المدارج والمقامات العالية. وإن جعل الله طينتها طينة متعالية، فلأنّه كان يعلم أنّها تخرج مرفوعة الرأس من الامتحان في عالم المادّة والناسوت "امتحنك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة"(6)، هذه هي القضية. فالله تعالى إذ تلطّف بلطفه الخاصّ على تلك الطينة، فجانب من القضية هو أنّه يعلم بأنّها تخرج مرفوعة الرأس من الامتحان، وإلا فإنّ الكثيرين كان لديهم طينة طيبة، لكن هل تمكّن الجميع من الصبر على الامتحان؟ هذا جانب من حياة الزهراء(ع) التي نحتاج إليها لنجاة أنفسنا، فالحديث ورد من طرق الشيعة أنّ النبي(ص) قال لفاطمة(ع): "يا فاطمة اعملي فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً"(7)، أي يجب عليك أن تفكّري وتهتمي بنفسك، فكانت تهتمّ بنفسها منذ صغرها وإلى نهاية عمرها القصير.
كيف كانت حياتها؟ كانت إلى ما قبل الزواج حينما كانت فتاة، تعامل أباها، وهو على ذلك القدر من العظمة، بحيث كنّيت بـ"أم أبيها". في الوقت الذي كان نبيّ الرحمة والنور ومؤسّس الحضارة الحديثة والقائد العظيم للثورة الخالدة يرفع راية الإسلام. وما كنّيت بـ "أمّ أبيها" اعتباطاً، فقد كانت الزهراء إلى جانب أبيها، تزيل بيديها الصغيرتين غبار الحزن والغمّ عن وجه رسول الله(ص)، سواء في مكّة أم في شعب أبي طالب مع كلّ شدائدهما، أم عندما بقي النبي(ص) وحيداً مكسور القلب بوقوع حادثتين في فترة قصيرة، هي وفاة خديجة(ع) ووفاة أبي طالب(ع) حيث أحسّ النبيّ بالغربة. هذا هو منشأ كنيتها بـ"أمّ أبيها".
لقد كانت السيدة الزهراء(ع) في سنّ سبع سنوات -بشأن تاريخ ولادتها يوجد روايات مختلفة- حين حدثت قضية شُعب أبي طالب. لقد كانت هذه القضية مرحلة صعبة جداً في تاريخ صدر الإسلام، أي أنّ دعوة النبيّ كانت قد بدأت وصارت علانية، وبالتدريج بدأ أهل مكّة -وخصوصاً الشباب، وبالأخص العبيد- يقبلون ويؤمنون به، ورأى صناديد قريش كأبي لهب وأبي جهل وغيرهما أنّه لا بدّ من إخراج النبيّ وكلّ من معه من مكّة، وهذا ما فعلوه. فأخرجوا عدداً كبيراً منهم وقد بلغوا عشرات الأسر بما في ذلك النبي(ص) وأسرته وأبو طالب نفسه، مع أنّ أبا طالب كان يُعدّ من الوجهاء الكبار. فخرجوا من مكة ولكن إلى أين يذهبون؟ وصادف أن كان لأبي طالب ملكٌ في بقعة قريبة من مكّة – لعلها تبعد عدّة كيلومترات في شعاب جبلٍ، يُدعى شُعب أبي طالب. كأنّه عبارة عن تلّة صغيرة، فقال لهم أبو طالب فلنذهب إلى هذه الشعب. فكّروا في هذا الأمر! النهارات في مكّة شديدة الحرارة، والليالي في غاية البرودة، فهذا وضعٌ لا يمكن أن يُحتمل. فقد عاشوا طيلة ثلاث سنوات في هذه الشعب. فكم تحمّلوا من جوعٍ وصعابٍ ومحنٍ، الله وحده يعلم. فمن المراحل الصعبة لحياة النبي(ص) كانت هذه الشعب. ولم تكن مسؤولية النبيّ الأكرم(ص) في هذه المرحلة منحصرة في القيادة بمعنى إدارة مجموعة، بل كان عليه أن يتمكّن من الدفاع عن عمله أمام هؤلاء الذين كانوا واقعين في المحنة.
من الواضح أنّه عندما تتحسن الأوضاع، فإنّ كلّ من يكون حول القيادة يصبح راضياً عن الأوضاع ويقول: رحم الله أباه فقد أوصلنا إلى هذا الوضع الجيّد. وأما عندما تسوء الأحوال فيصاب الجميع بالحيرة والتردد، ويقولون: إنّه هو الذي أوصلنا إلى هذا الوضع السيّىء! ولم نكن نريد أن نصل إلى هذا الحدّ ! وبالطبع، يصمد من كان لديه إيمان قويّ، ولكن في النهاية إنّ كلّ الصعاب كانت تنهال على الرسول. وفي هذه الأثناء، وعندما كان النبيّ يقاسي أشدّ أنواع المحنة، توفيّ -وفي ظرف أسبوع واحد- أبو طالب الذي كان الداعم للنبيّ ويُعتبر أمله، والسيّدة خديجة الكبرى التي كانت تقدّم أكبر عونٍ روحيّ له، فكانت حادثة عجيبة جداً، أصبح النبيّ بعدها وحيداً فريداً.
إنّ من يترأس مجموعة معينة، يعلم ما معنى مسؤولية المجموعة. ففي مثل هذه الظروف يصبح الإنسان متحيراً. انظروا إلى دور فاطمة الزهراء(ع) في مثل هذه الظروف، عندما يتأمّل الإنسان في التاريخ فإنّ هذه الموارد التي ينبغي أن تكون ملحوظة في الزوايا والتفاصيل، للأسف لم يتمّ فتح أي بحث لها. لقد كانت فاطمة الزهراء(ع) كأمّ ومشاور وممرضة بالنسبة للنبيّ. هناك حيث قيل "فاطمة أمّ أبيها". إنّ هذا متعلّق بذاك الوقت، أي عندما كانت بعمر ست أو سبع سنوات. وبالطبع، في البيئة العربية وفي البيئات الحارّة، تنمو البنات بصورةٍ أسرع من الناحية الجسمية والعاطفية، كبنتٍ في عمر عشراً أو 12 سنة في أيامنا هذه. وهذا ما يؤدّي إلى الشعور بالمسؤولية والنشاط فيما يتعلق بالقضايا المتعلقة بها بشكل سريع؟ إنّ هذا الرأسمال العظيم للنشاط الموجود فيها، كانت تنفقه من أجل أن تزيل غبار التكدّر والغمّ عن وجه أبٍ لعلّه قد مرّ على عمره أكثر من 50 سنة وقد قارب سنّ الهرم. ألا يمكن أن يكون هذا بالنسبة للفتاة نموذجاً وقدوةً؟ هذا مهمٌ جداً.[7/2/1733]
في مثل هذا العالم ربّى النبيّ الأكرم بنتاً صارت لائقةً بأن يأتي رسول الله(ص) ويقبّل يدها! إنّ تقبيل يد فاطمة الزهراء(ع)، من قبل النبي(ص) لا ينبغي أن يؤخذ أبداً على معنىً عاطفيّ. فهذا أمرٌ خاطئ جداً، لو تصوّرنا أنّه يقبّل يدها فقط لأنّها ابنته ولأنّه يحبّها. هل شخصيةٌ بمثل هذه العظمة، وبمثل تلك العدالة والحكمة، التي كانت في النبيّ وهو يعتمد على الوحي والإلهام الإلهيّ ينحني ويقبّل يد ابنته؟ كلا، إنّ هذا أمرٌ آخر وله معنىً آخر. إنّه يحكي عن أنّ هذه الفتاة وهذه المرأة عندما ترحل من هذه الدنيا في عمر 18 أو 25 –قيل 18 وقيل 25– تكون في أوج الملكوت الإنسانيّ وشخصاً استثنائياً. هذه نظرة الإسلام إلى المرأة.[ 4/10/1370].
أما المقام المعنويّ لهذه السيدة العظيمة، بالنسبة لمقامها الجهاديّ والثوريّ والاجتماعيّ، فهو أعلى بدرجات. فاطمة الزهراء(ع) في الظاهر هي بصورة بشر، وامرأة، وامرأة شابّة أيضاً؛ ولكنّها في المعنى هي حقيقةٌ عظيمة ونورٌ إلهيٌ ساطع، وعبدٌ صالح، وإنسانٌ مميّز ومصطفى. هي شخصٌ قال فيه الرسول الأكرم(ص) لأمير المؤمنين(ع): "يا عليّ أنت إمام أمّتي وخليفتي عليها من بعدي، وأنت قائد المؤمنين إلى الجنّة، وكأني أنظر إلى ابنتي فاطمة قد أقبلت يوم القيامة على نجيبٍ من نور عن يمينها سبعون ألف ملك، وعن يسارها سبعون ألف ملك تقود مؤمنات أمّتي إلى الجنّة"(8)، أيّ أنّه يوم القيامة يقود أمير المؤمنين(ع) الرجال المؤمنين، وتقود فاطمة الزهراء(ع) النساء المؤمنات إلى الجنّة الإلهية. فهي عِدْل أمير المؤمنين(ع). هي التي إذا وقفت في محراب العبادة فإنّ آلاف الملائكة المقرّبين لله يخاطبونها ويسّمون عليها ويهنّئونها ويقولون لها ما كانوا يقولون في السابق لمريم الطاهرة(ع): "يا فاطمة إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"(9)، هذا هو المقام المعنويّ لفاطمة الزهراء(ع).
امرأةٌ أيضاً في سنّ الشباب وصلت بلحاظ المقام المعنويّ، بحسب ما نُقل في الروايات، إلى حيث تحدّثها الملائكة وتظهر لها الحقائق. "المحدّثة" أي من تحدّثها الملائكة وتتكلم معها. وهذا المقام المعنويّ والميدان الوسيع والقمّة الرفيعة هي في مقابل جميع نساء عالم الخلقة. إنّ فاطمة الزهراء(ع) في قمّة هذا العلوّ العظيم تقف وتخاطب كلّ نساء العالم، وتدعوهنّ لطيّ هذا الطريق. هؤلاء الذين كانوا عبر التاريخ -سواء في الجاهلية القديمة أم في جاهلية القرن العشرين- قد سعوا لتحقير المرأة وجعلها متعلّقة بهذه الزخارف والزينة الظاهري ولا همّ لها سوى الموضة واللباس والزينة  والذهب والزخارف، ولا همّ لها سوى أن تقضي هذه الحياة في لهو وعبث، وقد تحرّكوا من أجل ذلك، إنّ منطقهم هو منطق يشبه الثلج والجليد مقابل حرّ شمس المقام المعنويّ لفاطمة الزهراء(ع)، سيذوب وينعدم. يعرّف الإسلام فاطمة -هذا العنصر المميّز والملكوتيّ الممتاز- بعنوان الأنموذج والأسوة للنساء. وهو تلك الحياة الظاهرية والجهاد والعلم والبيان والتضحية وحسن التبعّل والأمومة والزوجة والمهاجرة والضحور في جميع الميادين السياسية والعسكرية والثورية، والتفوق في جميع الجوانب بحيث يخضع لها كلّ الرجال العظماء، بل هذا أيضاً المقام المعنويّ والركوع والسجود ومحراب العبادة والدعاء والصحيفة والتضرّع والذات الملكوتية وتألّق العنصر المعنويّ وكذلك عِدْل ووزان أمير المؤمنين(ع) والنبيّ(ص). المرأة هي هذه. والقدوة للنساء التي يريد الإسلام أن يصنعها هي هذه.[26/10/1368].

الهوامش:
(1) سورة الكوثر، الآية 1.
(2) سورة الصف، الآية 8.
(3) الكافي، ج43، ص173.
(4) روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، ج5، ص243.
(5) بحار الأنوار، ج43، ص173.
(6) تهذيب الأحكام، ج6، ص90.
(7) أضواء البيان، الشنقيطي، ج8، ص224.
(8) بحار الأنوار، ج43، ص24.
(9) بحار الأنوار، ج43، ص24.

المصدر: إنسان بعمر 250 سنة: نصوص ومحاضرات الإمام السيد علي الخامنئي(دام ظله) في الحياة السياسية والجهادية للمعصومين(ع).

التعليقات (0)

اترك تعليق