مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كلمة الشهيد الشيخ راغب حرب في ولادة السيدة زينب(ع)

كلمة الشهيد الشيخ راغب حرب في ولادة السيدة زينب(ع)

بسم الله الرحمان الرحيم، الحمد لله رب العالمين، الله أكبر كبيراً والحمد لله كثيرا وسبحان الله بكرة وأصيلا. الحمد لله الذي خلق فسوى، والذي قدّر فهدى، والذي أخرج المرعى فجعله غثاءً أحوى. الحمد لله الذي هدانا للإسلام وكرّمنا بالإيمان. الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا الله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهاً واحداً أحداً قادراً مقتدراً عزيزاً جبارا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره الكافرون، ولو كره المشركون، ولو كره المنافقون، وصلى الله على سيدنا ونبينا وقائدنا وإمامنا محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين وملائكة الله المقربين وعباد الله الصالحين والشهداء والصدّيقين وأهل طاعة الله أجمعين، والسلام عليكم أيها الأخوة والأخوات جميعاً ورحمة الله وبركاته..
بسم الله الرحمان الرحيم، «قل يا أيها الكافرون * لا أعبد ما تعبدون * ولا أنتم عابدون ما أعبد * ولا أنا عابد ما عبدتم * ولا أنتم عابدون ما أعبد * لكم دينكم ولي ديني»(سورة الکافرون) صدق الله العلي العظيم.
عباد الله إتقوا الله وأطيعوا أمره، وانتهوا عن ما نهاكم يؤتكم أجركم مرتين، «وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ» (سورة الرحمان، الآية: 46) و«اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ» (سورة الحديد، الآية: 20) «وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ» (سورة العنكبوت، الآية: 64) فيا قومنا أجيبوا داعيَ الله واستجيبوا له. «يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ» (سورة الأحقاف، الآية: 31) واستجيبوا له، «وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ» (سورة الأحقاف، الآية:32)  و«اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ» (سورة آل عمران، الآية: 102) ولا تموتنّ إلّا وأنتم مؤمنون.
أيها الأخوة المؤمنون والأخوات السلام عليكم جميعاً ورحمة الله تعالى وبركاته..
تمرّ علينا مناسبة كريمة عظيمة لا ينبغي أن نفوّتها دون الاستفادة منها والأخذ من روحها ومن عملها ألا وهي ذكرى ولادة زينب بنت أمير المؤمنين بطلة كربلاء عليها وعلى أبيها وأخوتها سلام الله وتحياته، ولزينب بنت أمير المؤمنين في التاريخ الإسلامي وفي الحضور الإسلامي موقع مؤثر وبالغ التأثير والأهمية، هذه المرأة غير المجهولة التي إذا ذكر سيدٌ من سادات الدنيا، سيدٌ من سادات شباب أهل الجنة تُذكر معه، لا أظنّ أنّ أحداً يذكر الحسين بالخير إلّا ويذكر زينب بالبركة، ولا أظنّ أنّ أحداً يذكر الحسين بالعظمة وعلو الشأن إلّا ويذكر زينب بالصبر وعلو المقام، هذه التي استطاعت أن تضرب في البذل في سبيل الله مثلاً قلّ نظيره في الدنيا، قلّ نظيره في التاريخ، وقليل نظيره في الحاضر إن لم أقل معدوم نظيره في التاريخ وفي الحاضر، هذه المرأة التي أحسّ أنّ كلمات قصار في خطبة جمعة لا تستوفيها حقّها، لكنني لا أستطيع أن أتجاوز هذه المناسبة إلّا بعد أن أبيّن شيئاً من سر العظمة في هذه المرأة التي ينبع سر قوّتها من كونها آمنت بالله وتربت في مدرسة الإسلام، فخرّجها الإسلام بهذا المستوى اللائق العظيم منارة من منارات الهدى ومشعلاً من مشاعل الحرية، إنها زينب بنت أمير المؤمنين بطلة كربلاء.
هذه التي ولدت في أيام رسول الله فاختار لها رسول الله اسمها واختار الله لها دورها، وتربت في بيت أمير المؤمنين فرضعت مع حليبها من أمها الزهراء رضاع الإسلام، وحبّ الإيمان، والبذل والعطاء في سبيل الله، ودارت الأيام وزينب لا تُعرف إلا معلِّمةً لأحكام القرآن، ومرشدة إلى طريق الإسلام، تعمل جاهدة مع أبيها أمير المؤمنين، وهو الخليفة الذي ما ذاق يوماً طعم الراحة، ولا أُتيح له يوماً أن يسكن إلى دار، وإنما منذ أن تولى هذا الأمر، وقف في وجهه المنافقون الذين أسفروا عن وجوههم بالنكث تارة، وبالقسط عن طريق الله أخرى، وبالمروق من الإسلام طوراً ثالث، زينب تربت في هذا البيت الذي واجه كلّ هذه الأنواع من المحن التي ابتلي بها الإسلام، واستشهد وهو يجاهد بين يدي الله، وهو يصلي في محراب الله عز وجل.
عاشت زينب الظروف الصعبة بعد رسول الله كلها وهي طفلة صغيرة، عاشت ظلامة أمها الزهراء، ثمّ عاشت متاعب أبيها أمير المؤمنين، وما دارت الأيام إلا وزينب ترى شيبة عليٍّ مخضبة بدم رأسه، ثمّ مرّت السنون قصاراً وإذا بالحسن عليه السلام يقذف كبده مع السمّ قطعاً قطعا، وطال بها العمر إلى الستين، إلى عام ستين للهجرة، فإذا بالحسين يخرج من المدينة إلى الكوفة، وتخرج زينب مع أخيها، تترك بيتها، تُخرج معها أبناءها، وتخرج مع أخيها ليس لأنها تريد أن تكون إلى جانبه، لمحض كونها إلى جانبه؛ وإنما لأنها تعي وتعلم أنّ ما يقوم به عليه السلام أمرٌ ضروري وهام للإسلام، وأنه لا بدّ لها أن تكون معه من أجل أن تكمل الطريق، ومن أجل أن تحمل المشعل، ومن أجل أن توصل صوت الثورة إلى كل أذن، ومن أجل أن توصل نور الثورة إلى كل بيت، تخرج معه وتعيش زينب مع الحسين كلّ كربلاء، لم تعشها كما عنوَنَها رواية، لم يذكر لها أحدٌ ما الذي حدث يوم الطف، وإنما رأت بعينها وسمعت بأذنيها كلّ حدث، وسمعت كلّ صوت، ورأت كلّ قطرة دم نزلت إلى الأرض زكيةً، فحملتها ولطّخت بها دُور العالمين، ولطّخت بها أبواب العالمين، ولطّخت بها جباه العالمين.
عاشت معركة الطف واستطاعت أن تكون الإنسانة الرساليّة التي لا تستطيع الأيام والمصاعب أن تخرجها عن طورها، وأن تجعلها تتصرف تصرفاً غير مدروس، وتصرفاً لا يفيد القضية التي تتحرك من أجلها.
مِنْ زينب نتعلم كيف يكون أصحاب القضايا، هناك نماذج من الناس يتحملون قضايا فإذا أصيبوا نكفوا عنها، وإذا امتُحنوا بالمال تركوها، وإذا فرحوا نسوْها، وإذا افتقروا باعوها، هناك أناسٌ يحملون قضايا كبرى ثمّ لا يجعلون من أنفسهم شيئا بحجم هذه القضية فيصغرون ويضيع ما يحملون، أما زينب فيكفي أن نعرف أنها كانت لا تسمح حتى لعاطفتها أن تتفجّر إلّا عندما تطمئن أنّ تفجّر العاطفة يصبّ في قناة نهر الثورة نفسه، كانت تعي أنّ دماء إخوتها وأبنائها وأبناء أعمامها والطاهرين الأشاوس من أصحاب أبي عبد الله، كانت تعي أنّ هذه الدماء وقعت في يد الله وفي قناة الإسلام، فلذلك لم تكن تسمح هي لدمعتها إلّا أن تصبّ في يد الله وفي قناة الإسلام.
يصفها أحد الذين رأوْها يوم الطف وقد قتل كل من كان معها من الرجال إلّا زين العابدين، كان زين العابدين(ع) وحده في الخيمة أنهكه المرض، قُتل أخوتها، قُتل خمسةٌ من أخوتها، اثنان من أبنائها، ما يقارب العشرة من أبناء عمومتها، وما يقارب التسعين من خُلّص المسلمين والمؤمنين، وعاد فرس أبي عبد الله إلى المخيم خالياً كعادة الخيل النجيبة تعود إلى الدار الذي انطلقت منه بصاحبها، عاد فرس أبي عبد الله إلى خيمته خالياً وسمعت زينب صوته فوقفت بباب الخيمة، ما الذي كان يعتمر في قلب زينب آنذاك؟ ليست حزينة؟! هذا غير صحيح.
زينب إنسانة مرهفة الإنسانيّة، تخرجت من بيت أمير المؤمنين(ع) الذي يصفه الشعراء بأنه كان له خُلق أرقّ من النسيم، وكان له قلب أكبر من الدنيا، وكان له عاطفة جيّاشة حارة باستمرار، هذا الرجل الذي ما ابتلي ببلاء الجاهلية يوماً وإنما بُلي وصُنع على عين الله وعين رسول الله، كلّ شيء كان فيه على عين رسول الله، ليس صحيحاً أبداً أنّ عليّاً(ع) كان متقدّماً في الحرب فقط، هو شجاع وسيّد الشجعان بعد رسول الله، هو كريم وسيّد الكرماء بعد رسول الله، هو حنون وسيّد حاملي الحنان بعد رسول الله، ألم يصف الله رسوله بأنه «عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ»(سورة التوبة، الآية: 128).
أيضاً، كان أمير المؤمنين(ع) بالناس رؤوف رحيم، كان يُبكيه مرأى مظلومٍ ولو كان رجلاً أو امرأة واحدة، كان يُبكيه منظر المقهور ولو كان طفلاً، كان يُبكيه فقد الأحبة ولو كانوا شيوخاً، كان إنساناً مرهف الإنسانيّة، مرهف الإحساس، من هذا البيت تخرجت زينب بنت أمير المؤمنين(ع)، إذاً هي مرهفة الإحساس، هي أكثر حباً لأبنائها مما نحب أبناءنا، وأكثر حباً لإخوتها أكثر من ما نحب أخوتنا وأكثر حباً للصحابة من المسلمين مما نحب نحن الصحابة والمسلمين، ولكنها كانت تعي أنّ عليها أمانة، يجب أن تؤدي الأمانة، وأنّ في عنقها وصيةً يجب أن تنفّذ الوصية.
وقفت في باب خيمتها ووضعت، وأمسكت رأسها بكفّيها وأخذت تتبيّن إن كان في حركتها خدمة للثورة أو ليس في حركتها خدمة للثورة، كانت عواطفها تدفعها، جيّاشة كانت هذه العواطف، تدفعها من أجل أن تلحق بالجواد علّها تصل إلى هذه الجثّة (السليبة)، علّها تجد فيه رمقاً من حياة، علّها تستطيع أن تسبل له يداً أو تُغمض له عينا، كانت عواطفها تدفعها في أن تنطلق بلا وعي، وبأن تصرخ بلا وعي، وبأن تصمّ الآذان بصراخها، وبأن تتصرف أي شكل من أشكال التصرف، ولكنها كانت ترنّ في أذنها "أخيّة إذا أنا قُتلت فلا تشقي عليّ جيبا، ولا تخمشي عليّ وجها، ولا تدعي بالويل والثبور وعظائم الأمور، إنّ أهل الأرض يموتون وأهل السماء لا يبقون" كانت ترنّ بأذنها هذه الكلمة، وكانت تعي بأنّ هذا الجيش الذي قام بهذه الجريمة النكراء، بهذه الجريمة الشرسة، يريد أن يسمع كلمة يرتاح بها أنه انتصر، يريد أن يرى عملاً يؤكد له أنه حقّق مرامه، يريد أن يرى الصوت الذي ارتفع في وجه الطاغية مخنوقاً أو لازما، يريد أن يسمع خوف نادم، يريد أن...، بعضهم كان يريد أن يسمع أصوات الثكالى؛ لأنه كانت لا تزال ترنّ في أذنه أصوات ثكالى بدر، كان يريد أن يتشفّى وكانت تعي زينب(ع) هذا الواقع تماماً.
وينظر ابن سعد كما تقول الرواية مَنْ هذه الواقفة فيقال له أنها زينب بنت أمير المؤمنين(ع) فيأمر الجيش بأن يشقّوا لها طريقاً على جثة أخيها، يريد أيضاً ابن سعد يريد أن يستمع كلمة ندم، يريد أن يسمع كلمة تراجع، يريد أن يسمع الصراخ، ولكنها تتقدّم بخطى ثابتة، تمشي في هذا الطريق المفتوح والجيش من حولها كشقي البحر يوم فلق الله البحر لموسى، الناس جميعاً (واجمون) ينظرون إليها وتتقدم من الجثة الشريفة وتحاول رفعها الله تقبّل منا هذا القربان ثمّ تعود، تعود لتقوم بمسؤوليّة أخرى؛ لأنّ القوم قد هجموا على مخيمات أبي عبد الله(ع) والنار قد أُضرمت بالخيم، وفي الخيم مئات الأطفال والصغار، الذين لا يعون كيف يفرّون من النار، ولا كيف يطفئون النار المتعلقة بأذيال ثيابهم، كانت تشعر أنها وحدها عليها أن تحميَ هذا العليل الذي هو بقية الله في الأرض وعليها وحدها مسؤولية أن تلمّ هؤلاء الأطفال الذين ليس لهم أحدٌ في هذا الموقع إلا الله ليس لهم ناصر البتّة وإنما آلاف الأعداء من حولهم، هذا يريد أن يسلب قرطاً وذاك يريد أن يسلب ثوباً، وآخر يذهب إلى جثة أبي عبد الله(ع) يسلبه قميص خَلِقٌ ممزق ملوث بالدم، ورابع يرى في إصبعه خاتماً فيحاول نزعه فلا يوفّق، فيقطع إصبع أبي عبد الله من أجل أن ينتزع الخاتم، هؤلاء الوحوش الذين ليس فيهم رجلٌ يتقي الله، من يحمي هؤلاء الأطفال منهم؟
كانت زينب(ع) تعي أن الوقت ليس وقت بكاء وإنما هو وقت عمل وأخذت تدور، يصفها بعض المؤرّخين وهي تدور يوم الطف، تنتشل الأطفال من بين أقدام الخيل، تنتشل هذا الطفل من بين أقدام الخيل فلا تلبث أن تضعه في مأمن حتى ترى طفلاً آخر تكاد روحه تزهق أو يكاد يفر على غير جدى، وتتكفل زينب بالمسؤولية، أبداً، ليلة موحشة مظلمة قضتها زينب تحرس أطفال أبي عبد الله لم يلن لها عزم، لم يلن لها عزم، ولم تتراجع خطوة واحدة إلى الوراء.
ثمّ يُحمل بنات رسول الله(ص) سبايا، حملُ بنات الرسول سبايا هو في الحقيقة أعظم وآذى من قتل أبي عبد الله(ع)، حمل زينب سبية كما يُسبى نساء الكفّار كان أكثر أذى على قلب رسول الله(ص) من قتل ريحانته، حمل زينب سبية كما تسبى نساء المشركين كان أكثر أذى على زينب ورسول الله وأمير المؤمنين من قتل أبي عبد الله(ع)، أكثر ألما ولكنها مع ذلك تحمّلته لما أُركبت ناقتها مرّوا بها في الجثث التي تركت عندها قلباً مفجوعاً ولكنها كادت أن تغلبها العاطفة، كادت أن تغلبها العاطفة همّت بأن تلقي نفسها على جثة أخيها، فيلتفت إليها زين العابدين أي عمّة! فتؤوب، ترجع إلى موقفها ودخلت زينب الكوفة التي استقبلتها بالعويل وردّت زينب على الكوفة ردّها الشهير، قالت: إضحكوا قليلاً وابكوا كثيرا فقد ذهبتم بعارها وشنارها إلى يوم القيامة، يا قتلة أولاد النبيين. وأُدخلت على ابن زياد وأراد أن يشمت بها ابن زياد، أراد أن يُقرّعها ابن زياد، أراد أن يشعر بأنه حقق نصراً، فقال الحمدلله الذي افتضحكم وأكذب أحدوثتكم، فأجابت الحمدلله الذي كرّمنا بالنبوة وشرّفنا بالشهادة وإنما يُفتضح الفاجر وهو غيرنا يا ابن مرجانة.
وتقول عنها بنت الشاطئ، تصف موقفها، تقول لقد تكلمت زينب(ع) في الكوفة فكأنها كانت تنزع عن أمير المؤمنين، واستطاعت زينب(ع) أن تُلطّخ جدران الكوفة كلّها بدماء الشهداء، استطاعت أن تُلطّخ جباه أهل الكوفة كلّهم بدماء الشهداء، لم تترك زينب(ع) بيتاً إلّا وأشعرته بالعار، لم تترك زينب(ع) بيتاً إلّا وأشعرته بالتقصير، لم تترك زينب(ع) بيتاً إلّا وأشعرته بالندم، أشعلت في قلوب الكوفيين روح الندم. ونُقلت إلى قصر يزيد، وينظر يزيد إليها وإلى من معها فلا يجد أثر الهزيمة، هذا رجل يشعر أنه حقق نصراً كبيراً، يريد أن يرى أثر هذا النصر، يقف على شرفة قصره فيرى وفود السبايا آتية إليه فيبدأ بالفرح ويُخاطب جبل ديرونة بالأشعار، ولكن ما إن تصل الوفود إلى قصره فلا يجد نادماً، يشعر بالخزي يريد أن يسمع صراخاً، يريد أن يسمع شيئاً يشفي به غيظه، يريد أن يحقق ما كان يقوله وقعة بواقعة بدر، ولم يرى شيئاً من هذا، فيُحضر رأس أبي عبد الله يضربه بخيزرانته أمام النسوة والأطفال، علّه يسمع متأوّهاً أو متألما ويردد:
ليت أشياخي ببدر شهدوا * جزع الخزرج من وقع الأسل
لأهلوا واستهلوا فرحا * ثم قالوا يا يزيد لا تشل
لعبت هاشم بالملك فلا * خبر جاء ولا وحي نزل

وترد عليه زينب(ع) وتقول له كلاماً قاسياً جداً، من جملته "إنّي وإن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك" تقول أنا أكبر من أن أكلّمك أنت أحقر من أن أتكلّم معك، الدواهي هي التي جعلتني أتكلم مع هذا الرجل الحقير.
إنّي وإن جرّت عليّ الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك وأستعظم توبيخك. فكد كيدك، واسع سعيك، وناصب جهدك، فوالله ما حززت إلا لحمك، والله ما حززت إلا جلدك، ولا فريت إلا لحمك. ثمّ تقول: والله لن تُميت وحينا ولن تُذهب أمرنا، تُجيبه الإجابة المفحمة، تربكه، أمام الناس أُربك يزيد.
ويحاول رجلٌ أن يطلب فاطمة بنت الحسين(ع) لتكون خادمة له وتلتجئ إلى عمتها، فتقول: ليست لك ولا له، قال: لو شئت لفعلت، قالت: إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا، قال: خرج من الدين أبوك وأخوك. بدين أبي اهتديت وأبوك إن كنت مسلماً يا عدو الله، وتحرجه، أهل الشام يعرفون أنّ السبايا أسرى من الكفار يسمعون صوت الإسلام، ويُلجأ إلى إعادتها إلى المدينة، وتدخل زينب مدينة جدها رسول الله وهناك تشعر أنّ دموعها أصبحت تصب في قناة الثورة، لم يعد هناك داع لان تُحبس هذه الدموع، ولم يعد هناك لزوم لأن تُحبس هذه الغصة في الصدور، وتقف على باب مسجد رسول الله وتأخذ بعضادتي الباب وتصيح: يا جدُّ يا رسول الله! إنّي أنعى إليك الحسين، ومنذ هذه اللحظة بدأت زينب(ع) تتجول في دور المدينة بيتاً بيتا تُقيم عزاء أبي عبد الله(ع)، تبكي إخوتها الشهداء الأبطال ويتنبه والي المدينة أنّ زينب(ع) تقوم بدور خطير، يتنبه أنّ زينب(ع) تقوم بدور خطير، فيُرسل إلى سيده إن كان لك شأنٌ في المدينة فأخرج عنها زينب(ع).
هذه مثلٌ للدنيا، مثلٌ للدنيا بنت أمير المؤمنين(ع) التي لم تسمح لدمعتها أن تستفاض إلا عندما تكون ناراً تحرق به عروش الظالمين، في يوم أمير المؤمنين(ع) وفي يوم زينب الذي هو يوم أمير المؤمنين نحن نحبّ أن نُسمع الدنيا أنّ زينب التي كان يظن الناس أنها مثلٌ فريد في التاريخ، أنا أراها في ضلوع نسائنا، إنّي أراها في صدور أخواتنا، إنّي أراها على جباه شبابنا.
زينب عادت إلى الحياة عزيزة كريمة، وبلاد الري التي من أجلها قتل ابن سعد أبا عبدالله عادت لتحكمها زينب(ع) وترفع فيها راية الإسلام، وترفع فيها راية الإيمان، لروح زينب(ع) نحن نواجه وسنستمر بروح زينب نواجه، ماذا يستطيع أعداء الله أن يفعلوا فينا إذا كانت إرادة زينب هي التي نتخذها درعاً، ماذا يستطيعون أن يفعلوا، فليملئوا معتقلاتهم بشبابنا، فليملئوا معتقلاتهم بنسائنا وشيوخنا، وليقذفوا بصواريخهم على بيوتنا، في أمان الله هذه البيوت، نحن قلنا قولاً ولن نتراجع عنه إذا كنا غير قادرين على أن نُمسك بمفاتيحنا فما معنى أن تُدمّر أو تبقى مبنيّة، ماذا يعني بيتي إذا كان مفتاحه بيد الجار يفتحه ساعة يشاء ويغلقه ساعة يريد.
لا، العراء خير من البيت الذي لا يملك صاحبه مفتاحه، العراء فسيح تظهر من خلاله نجوم السماء في الليل، يرى الشمس في النهار، يتنشق طلق الهواء، يرى خضرة الربيع، أما هذا الذي يعيش في بيت مقفل يتوسل إلى جاره إفتح لي كوة أشمّ رائحة الدنيا قد يصدِق عليه وقد لا يصدق قرارنا واضح جداً، بيوتنا التي لا نملك قرارها فلتُهدم في أمان الله، آخر أمر البيوت إلى الخراب، وآخر أمر النفوس إلى الموت فإذا خُرّبت في سبيل الله فهي العامرة الدائمة، وإذا بُذلت الدماء في سبيل الله فهي الدماء الغزيرة التي يفوق موجها موج البحر، وإنما يتلطف به سبيل الدنيا، فسيروا عباد الله على بركة الله وتحلوْا بالصبر والإيمان، واستمروا في طريقكم التي اختارها الله لكم طريق الإسلام، ولا تخشوْا أحداً إلّا الله؛ فإنّ الأساطيل وأصحابها بيد الله، وإنّ السماء والأرض وما فيهنّ جنود لله، يستعملها ساعة يشاء كيف يشاء، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، ونحن نقول مجدداً لأمريكا وإسرائيل فكيدوا كيدكم، واسعوا سعيكم، وناصبوا جهدكم، فوالله لن تميتوا أمرنا، ولن تطفئوا شعلتنا، ولن تسقطوا رايتنا؛ لأن رايتنا تكفّل الله برفعها وإظهارها، ورسالتنا تكفّل الله بإتمامها، ونحن نتقي الله، والله يتولى الدفاع عنّا، وهو حسبنا ونعم الوكيل ونذكر معاً قوله تبارك وتعالى «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ»(سورة آل عمران، الآية: 173-174).
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

التعليقات (0)

اترك تعليق