مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

الإمام الهادي(ع) يأمر بشراء السيدة نرجس(ع)

الإمام الهادي(ع) يأمر بشراء السيدة نرجس(ع)

روى بشر بن سليمان النخّاس، وهو من ولد أبي أيّوب الأنصاري، أحد موالي أبي الحسن الهادي(ع) وأبي محمد العسكري(ع) وجارهما بسرّ من رأى، قال:
كان مولانا أبو الحسن علي بن محمّد العسكري(ع) فقّهني في أمر الرقيق، فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلاّ بإذنه، فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتى كمُلت معرفتي فيه، فأحسنت الفرق فيما بين الحلال والحرام، فبينما أنا ذات ليلة في منزلي بسرّ من رأى، وقد مضى هويّ(1) من الليل إذ قرع الباب قارع، فعدوت مسرعاً فإذا أنا بكافور الخادم، رسول مولانا أبي الحسن علي بن محمد(ع) يدعوني إليه.
فلبست ثيابي ودخلت عليه، فرأيته يحدّث أبنه أبا محمد(ع) واُخته حكيمة(ع) من وراء الستر.
فلمّا جلست قال: يا بشر، إنك من ولد الأنصار، وهذه الولاية لم تزل فيكم، يرثها خلف عن سلف، فأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإنّي مُزكّيك ومشرّفك بفضيلة تسبق بها شأو(2) الشيعة في الموالاة بها: بسرّ اُطلعك عليه، واُنفذك في ابتياع أمة.
فكتب كتاباً ملصقاً بخط رومي ولغة رومية، وطبع عليه بخاتمه، وأخرج شستقة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً، فقال: خذها وتوجّه بها إلى بغداد، وأحضر مَعْبَر(3) الفرات(4) ضَحوة كذا.
فإذا وصلت إلى جانبك السبايا، وبرزن الجواري منها، بهم طوائف المبتاعين من وكلاء قوّاد بني العباس، وشراذم من فتيان العراق، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمّى عمر بن يزيد النخّاس عامّة نهارك إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرتين صفيقتين تمتنع من السفور ولمس المعترض والانقياد لمن يحاول لمسها، ويشغل نظره بتأمّل مكاشفها من وراء الستر الرقيق فيضربها النخّاس، فتصرخ صرخة رومية، فاعلم أنها تقول: واهتك ستراه.
فيقول بعض المبتاعين: عليّ بثلاثمائة دينار، فقد زادني العفاف فيها رغبة.
فتقول بالعربية: لو برزت في زي سليمان(ع) وعلى مثل سرير ملكه ما بدت لي فيك رغبة، فأشفق على مالك.
فيقول النخّاس: فما الحيلة، ولابدّ من بيعك؟.
فتقول الجارية: وما العجلة؟ ولا بدّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى أمانته وديانته.
فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخّاس وقل له: إنّ معي كتاباً ملصقاً لبعض الأشراف، كتبه بلغة رومية وخطّ رومي ووصف فيه كرمه ووفاءه ونبله وسخاؤه، فناولها لتتأمّل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.
قال بشر بن سليمان النخّاس: فامتثلت جميع ما حَدِّه(5) لي مولاي أبو الحسن(ع) في أمر الجارية.
فلمّا نظرت في الكتاب بكت بكاءً شديداً، وقالت لعمر بن يزيد النخّاس: بعني من صاحب هذا الكتاب، وحلفت بالمحرجة(6) المغلّظة أنه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها.
فما زلت أشاحه في ثمنها حتى استقرّ الأمر فيه على مقدار ما كان أصحبنيه مولاي(ع) من الدنانير في الشستقة (أي الصرّة) الصفراء، فاستوفاه منّي وتسلّمت منه الجارية ضاحكة مستبشرة، وانصرفت بها إلى حجرتي التي كنت آوي إليها ببغداد.
أنا مليكة:
فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولاها(ع) من جيبها وهي تلثمه(7) وتضعه على خدّها، وتُطبقه على جفنها وتمسحه على بدنها.
فقلت تعجّباً منها: أتلثمين كتاباً ولا تعرفين صاحبه؟
قالت: أيها العاجز، الضعيف المعرفة بمحل أولاد الأنبياء(ع)، أعرني سمعك وفرّغ لي قلبك.
أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم.
واُمّي من ولد الحواريين تنسب إلى وصي المسيح(ع) شمعون.
اُنبّئك العجب العجيب: إنّ جدّي قيصر أراد أن يزوّجني من ابن أخيه، وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين من القسيسين والرهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذوي الأخطار سبعمائة رجل، وجمع من اُمراء الأجناد وقوّاد العساكر ونقباء الجيوش وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من بهو ملكه عرشاً مصوغاً من أصناف الجواهر إلى صحن القصر، فرفعه فوق أربعين مرقاة(8).
فلمّا صعد ابن أخيه وأحدقت به الصلبان وقامت الأساقفة عكّفاً(9)، ونشرت أسفار الإنجيل، تساقطت الصلبان من الأعالي فلصقت بالأرض، وتقوّضت(10) الأعمدة فانهارت إلى القرار.
وخرّ الصاعد من العرش مغشيّاً عليه، فتغيّرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم لجدّي: أيها الملك، اُعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالّة على زوال هذا الدين المسيحي والمذهب الملكاني.
فتطيّر جدّي من ذلك تطيّراً شديداً وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصلبان وأحضروا أخا هذا المدبر العاثر(11) المنكوس جدّه لاُزوّج منه هذه الصبيّة فيدفع نحوسه عنكم بسعوده.
فلمّا فعلوا ذلك حدث على الثاني ما حدث على الأول، وتفرّق الناس، وقام جدّي قيصر مغتمّاً، ودخل قصره، واُرخيت الستور.


الهوامش:
1- الهوي: الحين الطويل من الزمان، (لسان العرب) مادّة هوا.
2- الشاؤ: السبق، (لسان العرب) مادّة شأي.
3- معبر: أي الجسر الذي يعبر الناس عليه، الصراة: اسم لنهرين في بغداد، هما: الصراة الكبرى، والصراة الصغرى، ذكر ذلك ياقوت الحموي في كتابه (معجم البلدان).
4- الفرات: نهر عظيم مشهور يخرج من حدود الروم ثمّ يمرّ بأطراف الشام ثمّ بالكوفة ثمّ بالحلّة ثمّ يلتقي مع دجلة في البطائع ويصيران نهراً واحداً ثم يصب عند عبادان في بحر فارس. (مجمع البحرين) مادّة فرت.
5- حدّه: ميّزه، (لسان العرب) مادّة حدّ.
6- المحرجة: أي القسم واليمين التي تضيّق على الحالف، بحيث لا يبقى لـه مجال عن برّ قسمه، قوله (المغلّظة): أي المؤكّدة من اليمين والقسم.
7- تلثمه: تقبله، (لسان العرب) مادّة لثم.
8- المرقاة: الدرجة، (لسان العرب) مادّة رقو.
9- عكف: أقبل عليه مواظباً لا يصرف عنه وجهه، (لسان العرب) مادّة عكف.
10- تقوّضت: تفرّقت، (لسان العرب) مادّة قوض.
11- العاثر: الكذّاب، (لسان العرب) مادّة عثر.



المصادر:
http://alshirazi.com
http://al-shia.org

التعليقات (0)

اترك تعليق