مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

في حالات السيدة حواء ومقارنتها بفاطمة(ع)

في حالات السيدة حواء ومقارنتها بفاطمة(ع)

في حالات السيدة حواء ومقارنتها بفاطمة(ع):
أولا:
حواء أم البشر وأول امرأة من النساء الطاهرات في العالم، وقد عجن الله طينتها الطيبة بيده كما عجن طينة آدم(ع)، وكانت لزوجها أمة ونعم القرين، والحكمة من خلقها أن تكون أنسا وسكنا لآدم(ع)، ترد عنه الوحشة، وكان بقاء الذرية ودوام النسل منوطا بها، حيث انتشر منها النوع البشري، فبعث الأنبياء العظام، وشرعت الشرائع، وأشيع المعروف، وانتشرت الأحكام، وكثرة المعرفة الحقة، وأظهرت العبودية الخالصة. ألبسها الله خلعة الوجود بنحو خاص، وأخذ الله طينتها من فاضل طينة آدم مما يلي الركبة، فصارت النساء يتبعن أمر الرجال، وأما ما ذكر من المرويات القائلة إنها خلقت من ضلع آدم الأيسر، فغاية في الضعف. وفي كتاب العلل: «إنما سميت حواء لأنها خلقت من الحيوان أو من الحي»(1).
وفي مجمع البيان: قيل: لأنها أم كل حي(2). وقوله تعالى: «خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء»(3) صريحة في أن حواء خلقت من آدم(ع)، وفي خبر آخر قال أبو عبد الله(ع): «إن الله خلق آدم من الماء والطين، فهمة الرجال في الماء والطين، وإن الله خلق حواء من آدم، فهمة النساء في الرجال; فحصنوهن في البيوت»(4).
ثانيا: إن لآدم وحواء حق الأبوة والأمومة علينا، ولو أن أبناءهم أرادوا إحصاء حقوقهما ومفاخرهما ومآثرهما ما استطاعوا القيام بذلك إلى يوم القيامة، سيما أن آدم(ع) كان أول من اطلع على أنوار الفيض المحمدي في أول الإيجاد، ثم سطع النور في الناصية العلية الجلية لحواء، فأنارت به جنة الخلد، «فعليها من التسليمات أزكاها، ومن التكريمات أسناها».
والأفضل أن نبدأ الكلام بذكر جملة من حالاتها المختصة بها(ع):
منها: أن طينتها كانت من طينة آدم الطاهرة ولم تكن من طينة أخرى.
ومنها: إنها لم تر صلب أب ولا رحم أم، فبقيت بعيدة مطهرة عن أصلاب الآباء وأرحام الأمهات الطوامث.
ومنها: إنها خوطبت بالخطاب الذي خوطب به آدم(ع) في قوله تعالى: «يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة»(5).
وفي الحديث «قال الله تعالى: يا آدم ويا حواء اسكنا جنتي وكلا ثمرتي ولا تقربا شجرتي، والسلام عليكما ورحمتي وبركتي».
ومنها: إنها أذن لها بدخول دار الكرامة وموطن الراحة.
ومنها: إنها رعاها خالق البرايا في جميع المقامات في الجنات العاليات، وشملها بالعنايات اللامتناهية، وغذاها غذاء الروح والبدن بالنعم الظاهرة والباطنة وجعل الجنة بعرضها منزلها، وأنعم بها عليها نعمة غير ممنونة.
ومنها: في رواية الثعلبي والكسائي: كانت حواء في حسن سبعين حورية، فصارت حواء بين الحور العين كالقمر بين الكواكب.
ومنها: إن الله جعل الملائكة والحور العين والولدان خداما لها في الجنان.
ومنها: أنهم كانوا يطوفون بها غرف الجنة وقصورها وأعالي جنة عدن والفردوس، ويزفونها بالتهاني على نياق الجنة مرة، وعلى مراكب من المسك والكافور والزعفران بالحلي والحلل على رفارف السندس والإستبرق مرة أخرى، فيعرضون عليها النعم الإلهية العظيمة.
ومنها: إنها كانت تجلس أحيانا على سرير مرصع بالجواهر النفيسة، وله سبعمائة قائمة من الدر الأبيض، وعليه أربع قباب: قبة الرحمة، وقبة الكرم، وقبة الرضوان، وقبة الغفران.
ومنها: هبوطها مع زوجها آدم(ع)، وذلك من فضل الله عليها وليس عقوبة لها، بل كان وسيلة للوصول إلى النتيجة وإجراء القدرة وإمضاء المشية في جعل الخليفة، وإنما يدفع البلاء قبل الابتلاء، لأن أهل البلاء لا تخلو عن الابتلاء.
وهيهات هيهات الصفاء لعاشق * وجنة عدن بالمكاره حفت
فبعد أن استغرق آدم وحواء(ع) في نعم العلي الأعلى وعناياته الروحانية والجسمانية، التفتا إلى نفسيهما لحظة وغفلا -آنا- عن مبدأ المبادى بمقتضى الطبيعة البشرية، فظنا أن ما عندهما من فضل ومزايا وعطايا ونعم إلهية لا متناهية نالاها بالاستحقاق الذاتي والاستعداد الفطري، فتحادثا في ما خصهما الله به من الحسن وشروق أنوار الجمال الموهوبة من حضرة ذي الجلال، فقالا: لم يخلق الله في عالم الملك والملكوت خلقا أفضل ولا أشرف منا، ولم ير سكان الملأ الأعلى مخلوقا أجمل ولا أحسن منا، فنبههم الله بمشاهدة الأنوار المقدسة الخمسة الطيبة.
ولا بأس أن أنقل -في المقام- خبرين رواهما المؤالف والمخالف، وبهما يثبت المقصود، ولا نحتاج إلى بحث المساواة والمقارنة بين الزهراء(ع) وحواء.
أما الخبر الأول:
فعن طرق الإمامية في البحار: عن الإمام الحسن العسكري(ع) عن آبائه الكرام، عن النبي(ص): «لما خلق الله تعالى آدم وحواء تبخترا في الجنة، فقال آدم(ع) لحواء: ما خلق الله خلقا هو أحسن منا، فأوحى الله -عز وجل- إلى جبرئيل أن ائتني بعبدتي التي في الجنة الفردوس الأعلى، فلما دخلا الفردوس نظرا إلى جارية على درنوك من درانيك الجنة، على رأسها تاج من نور، وفي أذنيها قرطان من نور قد أشرقت الجنان من حسن وجهها، قال آدم(ع): حبيبي جبرئيل، من هذه الجارية التي قد أشرقت الجنان من حسن وجهها؟ فقال: هذه فاطمة بنت محمد(ص) نبي من ولدك يكون في آخر الزمان قال: من هذا التاج الذي على رأسها؟ قال: بعلها علي بن أبي طالب.
قال: من القرطان اللذان في أذنيها؟ قال: ولداها الحسن والحسين. قال آدم(ع): حبيبي جبرئيل! أخلقوا قبلي؟ قال: هم موجودون في غامض علم الله عز وجل قبل أن تخلق بأربعة آلاف سنة»(6) انتهى الحديث.
أما الخبر الثاني: فقد روي عن طريق المخالفين: روي أن آدم نظر إلى حواء ونظرت إليه فدهشا من جمالهما، فقالا: سبحانك يا الله، أخلقت خلقا أفضل منا؟ فأوحى الله إلى جبرئيل أن خذ آدم وحواء إلى الفردوس الأعلى وافتح باب قصر من قصوره لهما، فأراهما جبرئيل قصرا من ياقوت أحمر، فيه عرش من الذهب، قوائمه من الدر الأبيض، وعليه جارية لم يرد آدم وحواء مثلها، قد أضاء نور حسنها وبهائها ذلك القصر، بل أضاء نورها الفردوس وعلى رأسها تاج مرصع بجواهر.
فقال آدم: من هذه الجارية؟
فقال جبرئيل: هذه فاطمة الزهراء بنت محمد بن عبد الله(ص).
قال: ومن زوجها؟
فجاء النداء: افتح القصر الآخر من الياقوت، ففتحه فكان فيه قبة من كافور، وعرش من الذهب، عليه فتى يفوق حسن وجهه حسن يوسف الصديق.
قال: هذا زوجها: علي بن أبي طالب(ع).
فسأل آدم(ع): أله ولد؟
فأوحي إلى جبرئيل: افتح له قصر اللؤلؤ، ففتحه فإذا فيه قبة من زبرجد وعرش من عنبر أشهب، وعليه غلامان هما الإمام الحسن والإمام الحسين(ع).
فندم آدم على كلامه.
وهذا الخبر منقول في كتاب «نزهة المجالس ومنتخب النفايس» للشيخ عبد الرحمن الصفوري الشافعي. وهكذا ترى الحديثين يختلفان في المضمون من حيث تعدد القصور والصور الشريفة التي تمثلوا بها. وقد اتضحت أفضلية فاطمة الزهراء(ع) على حواء وغيرها بعد هذين الخبرين، ولا حاجة إلى المقارنة والمطابقة بين حالاتهما كما ذكرنا سابقا.
مقالة بلا ملالة:
روي(7) في عيون أخبار الرضا(ع) ومعاني الأخبار لثقة المحدثين طاب ثراه مسندا عن محمد بن سليمان، عن أبي الصلت الهروي، عن علي بن موسى الرضا صلوات الله عليه قال: قلت للرضا(ع): يابن رسول الله! أخبرني عن الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ما كانت; فقد اختلف الناس فيها، فمنهم من يروي أنها الحنطة، ومنهم من يروي أنها العنب، ومنهم من يروي أنها شجرة الحسد؟
فقال: كل ذلك حق.
قلت: فما معنى هذه الوجوه على اختلافها؟
فقال: يا أبا الصلت! إن شجرة الجنة تحمل أنواعا; فكانت شجرة الحنطة وفيها عنب، وليست كشجرة الدنيا، وإن آدم(ع) لما أكرمه الله -تعالى ذكره- بإسجاد ملائكته له وبإدخاله الجنة، قال في نفسه: هل خلق الله بشرا أفضل مني؟ فعلم الله -عز وجل- ما وقع في نفسه فناداه: ارفع رأسك يا آدم فانظر إلى ساق عرشي، فرفع آدم رأسه فنظر إلى ساق العرش فوجد عليه مكتوبا «لا إله إلا الله محمد رسول الله، علي بن أبي طالب أمير المؤمنين(ع)، وزوجته فاطمة سيدة نساء العالمين، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة». فقال آدم: يا رب من هؤلاء؟
فقال عز وجل: يا آدم! هؤلاء ذريتك، وهم خير منك ومن جميع خلقي، ولولاهم ما خلقك ولا خلقت الجنة والنار ولا السماء ولا الأرض، فإياك أن تنظر إليهم بعين الحسد فأخرجك عن جواري، فنظر إليهم بعين الحسد وتمنى منزلتهم، فتسلط عليه الشيطان حتى أكل من الشجرة التي نهي عنها، وتسلط على حواء لنظرها إلى فاطمة بعين الحسد، حتى أكلت من الشجرة كما أكل آدم، فأخرجهما الله عن جنته وأهبطهما عن جواره إلى الأرض(8).
ونظائره في الأخبار المعتبرة كثير، منها ما في معاني الأخبار عن المفضل بن عمر الجعفي، عن الصادق(ع) في حديث طويل -يأتي في باب التوسل بالصديقة المخدرة- وفيه تصريح أن الشجرة هي الحنطة، وفيه أسرار جليلة(9).
وفي كتاب تأويل الآيات الباهرة في العترة الطاهرة: إنها شجرة علم آل محمد(ص)، وهي «لمحمد وآل محمد خاصة دون غيرهم، ولا يتناول منها بأمر الله إلا هم، ومنها ما كان يتناوله النبي(ص) وعلي وفاطمة والحسن والحسين(ع) بعد إطعامهم اليتيم والمسكين والأسير، حتى لم يمسوا بعد بجوع ولا عطش ولا تعب ولا نصب»(10).
وتجد فضل العلم الموهوب لفاطمة الطاهرة ظاهرا، ولذا ذكرها الله في القرآن ضمن النساء الممدوحات بصفة العلم، وهي أشرف صفات الإنسان.
وفي حديث آخر: إن آدم كان مستغرقا في النعم الظاهرة والباطنة في الجنة، ولم يمنع إلا عن تمني درجة محمد وآل محمد، فإن الله خصهم بهذه الدرجة دون غيرهم(11)، وإلا فماذا في الحنطة حتى يسعى ذاك النبي المعظم إلى أكلها؟! فلا بد أن يكون الأمر المنهي عنه أعظم وأشرف من أكل هذه الثمرة، فالأنسب أن يكون تمني منزلة أولئك المقربين.
أما الكلمات التي تلقاها آدم من ربه فتاب عليه، بها فقد اختلف فيها المفسرون من الفريقين، وروي عن الحسن وعكرمة وقتادة وسعيد بن جبير أقوال مختلفة، والأصح ما عن ابن عباس أنه قال: سألت النبي(ص) عن الكلمات التي تلقى آدم من ربه فتاب عليه؟ قال: سأله بحق محمد وعلي وفاطمة والحسن والحسين إلا تبت علي، فتاب عليه(12).
واختلفوا -أيضا- في الشجرة التي نهي عنها، آدم فقيل: هي السنبلة عن ابن عباس، وقيل: هي الكرمة عن ابن مسعود والسدي، وقيل: هي التينة عن ابن جريج، وقيل: هي شجرة الكافور يروى عن علي، وقيل: هي شجرة العلم: علم الخير والشكر عن الكلبي، وقيل: هي شجرة الخلد التي كانت تأكل منها الملائكة عن ابن جذعان(13)، وروي: إنها شجرة الحسد، وقيل: هي شجرة الهوى والطبيعة وهي محركان وداعيان إلى صفة الحسد(14).
ونذكر فيما يلي الآيات الشريفة من سورة البقرة تبركا وتيمنا بتلاوتها، واستنطاقا لمضامينها ومعانيها وما فيها من الوعد والوعيد، قال الله تعالى في سورة البقرة: «وقلنا يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم»(15).
وقال تعالى في سورة الأعراف: «... يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين * فوسوس لهما الشيطان ليبدي لهما ما وري عنهما من سوءاتهما وقال ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين * وقاسمهما إني لكما من الناصحين * فدلاهما بغرور فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين * قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين»(16).
بيان إجمالي للآيات مستطرف من تفسير مجمع البيان: «يا آدم أسكن أنت وزوجك الجنة» أي: اتخذ أنت وامرأتك الجنة مسكنا ومأوى لتأوي إليه وتسكن فيه أنت وامرأتك، واختلف في هذا الأمر، فقيل: إنه أمر تعبد، وقيل: هو إباحة لأنه ليس فيه مشقة فلا يتعلق به تكليف... والنهي في «لا تقربا» نهي التنزيه دون التحريم، كمن يقول لغيره: لا تجلس على الطرق; وهو قريب من مذهبنا فإن عندنا أن آدم كان مندوبا إلى ترك التناول من الشجرة، وكان بالتناول منها تاركا نفلا فضلا، ولم يكن فاعلا لقبيح، فإن الأنبياء(ع) لا يجوز عليهم القبائح لا صغيرها ولا كبيرها. وقوله «ولا تقربا هذه الشجرة» أي لا تأكلوا منها وهو المروي عن الباقر(ع) فمعناه لا تقرباها بالأكل، ويدل عليه أن المخالفة وقعت بالأكل بلا خلاف لا بالدنو منها; ولذلك قال تعالى: «فأكلا منها فبدت لهما سوآتهما» قيل: النهي عن موجب الشيء موجب لاجتناب ذلك الشيء. وتعلق النهي بالاقتراب -وهو من مقدمات الأكل- للمبالغة، فالقرب يدعو إلى الميل والأكل.
واختلف في الجنة التي أسكن فيها آدم:
فقال أبو هاشم: هي جنة من جنان السماء غير جنة الخلد، لأن جنة الخلد أكلها دائم ولا تكليف فيها.
وقال أبو مسلم: هي جنة من جنات الدنيا في الأرض، وقال: إن قوله «اهبطوا منها» لا يقتضي كونها في السماء، لأنه مثل قوله: «اهبطوا مصرا». واستدل بعضهم على أنها لم تكن جنة الخلد بقوله حكاية عن إبليس «هل أدلك على شجرة الخلد» فلو كانت جنة الخلد لكان آدم عالما بذلك ولم يحتج إلى دلالة. وقال الحسن البصري وعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وكثير من المعتزلة كالجبائي والرماني وابن الأخشيد: إنها كانت جنة الخلد، لأن الألف واللام للتعريف وصار كالعلم عليها، قالوا: وقول من يزعم أن جنة الخلد من يدخلها لا يخرج منها غير صحيح..»(17).
وقوله تعالى: «فأزلهما الشيطان»، أي بالخطيئة وهي والمعصية والسيئة مترادفات بمعنى واحد ، وهو الزوال عن الحق، و«الوسوسة» إغواء الشيطان وإغرائه. والهبوط بمعنى النزول والحركة من العلو إلى السفل، وكل واحدة من هذه العبارات لها ظاهر مستعمل في الحقيقة والمجاز، ولكل ظاهر بطون وتخوم لا يعلمهما إلا الله والراسخون في العلم. والآن ينبغي أن نعرف ما هو معنى الشجرة المنهية التي ذكرتها الأخبار باسم العلم أو الحسد أو الشهوة أو الهوى؟! فنقول:
أولا: لقد أطلق على الشجرة أسماء الرذائل، مع أن الجنة محل الفضائل لا الرذائل، والحسد صفة من الصفات الذميمة في الحاسد ذي الوجود الخارجي، لا في الشجرة؟
وثانيا: لقد نسب الحسد في الحديث السابق إلى آدم(ع)، فكيف يصح ذلك عند علماء الإمامية؟! وبعبارة أخرى: نسب التبختر إليه(ع) وهو مناف لمذهب الحق؟! الجواب: قال المرحوم العلامة المجلسي طاب ثراه في المجلد السابع من البحار: لعل المراد منها ترك الأولى، لأنه مع العلم بأن الله تعالى فضلهم عليهما كان ينبغي لهما أن يكونا في مقام الرضا والتسليم، وأن لا يتمنيا درجاتهم صلوات الله عليهم(18).
وقال المحقق الوحيد والمحدث الفريد الفيض الكاشاني عليه الرحمة: «كما أن لبدن الإنسان غذاء من الحبوب والفواكه، كذلك لروحه غذاء من العلوم والمعارف، وكما أن لغذاء بدنه أشجارا تثمرها، فكذلك لروحه أشجار تثمرها، ولكل صنف منه ما يليق به من الغذاء; فإن من الإنسان من يغلب فيه حكم البدن على حكم الروح، ومنه من هو بالعكس، ولهم في ذلك درجات يتفاضل بها بعضهم على بعض، ولأهل الدرجة العليا كل ما لأهل الدرجة السفلى وزيادة، ولكل فاكهة في العالم الجسماني مثال في العالم الروحاني مناسب لها، ولهذا فسرت الشجرة تارة بشجرة الفواكه، وأخرى بشجرة العلوم، وكان شجرة علم محمد(ص) إشارة إلى المحبوبية الكاملة المثمرة لجميع الكمالات الإنسانية المقتضية للتوحيد المحمدي الذي هو الغناء في الله والبقاء بالله، المشار إليه بقوله(ع) «لي مع الله وقت لا يسعني فيه ملك مقرب ولا نبي مرسل» فإن فيها من ثمار المعارف كلها، وشجرة الكافور إشارة إلى برد اليقين الموجب للطمأنينة الكاملة المستلزمة للخلق العظيم الذي كان نبينا(ص) ودونه لأهل بيته(ع)، فلا منافاة بين الروايات، ولا بينها وبين ما قاله أهل التأويل إنها شجرة الهوى والطبيعة، لأن قربها إنما يكون بالهوى والشهوة الطبيعية، وهذا معنى ما ورد إنها شجرة الحسد، فإن الحسد إنما ينشأ منها»(19). وفي بصائر الدرجات رواية أرويها هنا تأكيدا لهذا التقرير: عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر الباقر(ع) يقول: نزل جبرئيل(ع) على محمد(ص) برمانتين من الجنة، فلقيه علي(ع) فقال له: ما هاتان الرمانتان في يديك؟ قال: أما هذه فالنبوة ليس لك فيها نصيب، وأما هذه فالعلم، ثم فلقها رسول الله(ص) فأعطاه نصفها وأخذ نصفها رسول الله(ص)، ثم قال: أنت شريكي فيه وأنا شريكك فيه، قال: فلم يعلم -والله- رسول الله(ص) حرفا مما علمه الله إلا علمه عليا(ع)(20) الخبر.
وهكذا هي شجرة «سدرة المنتهى» التي ينتهي إليها سير الأنبياء، ولم يتجاوزها سوى خاتم المرسلين(ص)، وهي تعبير عن إحاطته الكلية بما فوق وما دون. وهكذا هي شجرة «الطوبى» المعبرة بذات الولاية.
فالمراد بتمثيل الثمرات المعرفة النبوية في عالم الملك لينتقل الناس من المحسوس إلى المعقول فيعرفونه(ص)، فلا يتمنون تلك المرتبة العلوية بدافع الهوى والشهوة الطبيعية، ولا يحسدونه على ما آتاه الله، وإلا فكيف يمكن أن تكون الرمانة نبوة وعلما؟! فلا بد أن تكون كل رمانة تمثيلا عن شجرة العلم وشجرة النبوة في الملكوت الأعلى، وتلك الشجرة بمالها من جامعية تحكي في محلها الشجرة الزكية للحقيقة النبوية الجامعة الحاوية لتمام الكمالات والملكات الإنسانية.
وببيان آخر: كان في بدء الخلقة مظهران للعلم والحسد:
أحدهما آدم والآخر الشيطان. وكان الشيطان يرى أنه الأول في الملك والملكوت، فلما رأى الملائكة تسجد لآدم(ع)، حسده وأبى عن السجود له. وكان آدم(ع) يظن أنه الوحيد الذي عنده العلم بالأسماء والمسميات، وأنه الأفضل والأشرف ولا أحد فوقه. ولذا سميت الشجرة الجامعة بشجرة العلم، ومثلت لآدم ليراها، ثم نهي عن أكل ثمارها; لأنها خاصة للحضرة المقدسة النبوية والعلوية والفاطمية للأئمة المعصومين(ع)، ليس لغيرهم التناول منها، فأراد الشيطان الذي حسد آدم(ع) أن يدفع آدم ليحسد صاحب الشجرة أيضا، وبذلك ينزل عن درجته «والإنسان حريص على ما منع». يعني أن الشيطان تورط بالحسد فنزل عن درجته. فأراد أن يورط آدم(ع) بالحسد أيضا لينزله عن درجته.
وبعبارة أخرى: سميت تلك الشجرة بشجرة الحسد بلحاظ تمني آدم(ع) لمنزلة صاحبها من حيث الإحاطة الكاملة والجامعية، وهي شجرة العلم بلحاظ الاختصاص والامتياز الذي فيها على علم آدم وانتسابها إلى علوم آل محمد(ص).
أما تسميتها بالتينة والكرمة والكافور والحنطة، فبحسب استعداد عقول الناس، وكل واحدة تشير إلى صفة كمالية من صفاتهم حسب المزاج والطبيعة كما قال الفيض الكاشاني في الكافور. وكما أن الهوى والشهوة الطبيعية من موجبات الحسد، فكذلك أيضا المعرفة والمحبة منتزعة من العلم، ومن ثمرات تلك الشجرة المباركة الكريمة الأصل.
تشجير في ذيل هذا التقرير قال تعالى: «ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون»(21).
روى المرحوم المجلسي(رحمه الله) في تفسير الآية عن الأئمة الأطهار -عليهم صلوات الملك الجبار- وجوها عديدة في معنى الشجرة الطيبة، منها إنها النخلة، ومنها  إنها شجرة في الجنة، ومنها: إن الشجرة رسول الله(ص).
والوجه الأخير هو المعنى الأصح والوجه الوجيه، وكتب الفريقين مشحونة بالأخبار المعتبرة المؤيدة له، منها ما روي عن ابن عباس قال: قال جبرئيل(ع) للنبي(ص): أنت الشجرة، وعلي غصنها، وفاطمة ورقها، والحسن والحسين ثمارها.
والمراد بالكلمة الطيبة كلمة التوحيد، أو الإيمان، أو كل كلام أمر الله بإطاعته.
وقيل: أراد بذلك شجرة هذه صفتها، وإن لم يكن لها وجود في الدنيا، لكن الصفة معلومة(22).
وبناء على ذلك، فشجرة الجنة الموصوفة بالجامعة إنما هي شجرة النبوة المحمدية المتجلية في كل تلك الكمالات والملكات، فكأن تلك الشجرة كلمة طيبة كشجرة زاكية نامية نبوية، أصلها ثابت راسخ وفرعها عال رفيع، تفيض علمها في كل آن على الخلق، وترشح عليهم الإفاضات، فكل فاكهة أفيضت من العلويات إلى السفليات فهي من خيرات وبركات وإفاضات تلك الشجرة الكريمة الأصل وفروعها. وكل ما ظهر في هذا العالم من الشرور والمفاسد من شؤم الصفات الخبيثة الخسيسة للشجرة الخبيثة لظالمي أهل البيت ومنكري حقوقهم والمتنكرين لهم.
«مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار»(23) أي ما لها من ثبات وقرار في الأرض لقلع جثتها منها.
وقال تعالى في وصف طعام هؤلاء: «إنها شجرة تخرج في أصل الجحيم * طلعها كأنه رؤوس الشياطين»(24). قال المرحوم العارف المحقق صدر الدين الشيرازي (رحمه الله): المراد بالشجرة الطبيعة الدنيوية، والمراد بالطلع مبدأ وجود الأشجار ومنشأ حصول الأثمار وقت ظهورها، أي أن مبدأ الإعتقادات الباطلة والأخلاق السيئة، تترسخ في النفس قليلا قليلا، فإذا قويت فصورتها جوهر شيطاني، فتتعدى بعد غلبة الآمال والأماني المشؤمة والشهوات المذمومة، وتملأ النفس من نار الجحيم والعذاب الأليم.
كما قال الله تعالى: «ثم إنكم أيها الضالون المكذبون * لآكلون من شجر من زقوم * فمالئون منها البطون»(25)، وكذلك شجرة طوبى التي أصلها في دار علي بن أبي طالب(ع)، وليس مؤمن إلا في داره غصن من أغصانها; وذلك قوله تعالى: «طوبى لهم وحسن مآب»(26) فتأويل ذلك من جهة العلم والمعارف الإلهية، سيما ما يتعلق بأمر الآخرة» إلى آخر ما قال.
وقال في الفتوحات: «إن شجرة طوبى أصل لجميع شجرات الدنيا كآدم(ع) لما ظهر من النبيين، فإن الله لما غرسها بيده وسواها نفخ فيها من روحه، ولما تولى الحق غرس شجرة طوبى بيده ونفخ فيها من روحه، فإذا شجرة طوبى مبدأ أصول المعارف الحقيقية والأخلاق الحسنة التي هي زينة وغذاء لها ولأهلها». وهذا الوجه يناسب المعاني والوجوه السابقة. واعلم أن حديث معاني الأخبار جعل فاطمة الزهراء بمثابة الغصن، وعليا بمثابة الفرع والحسنين بمثابة الثمار(27).
وفي بصائر الدرجات جعلها الغصن في رواية، وفي رواية أخرى جعل أمير المؤمنين(ع) الفرع وفاطمة عنصر تلك الشجرة وأصلها.
وفي البصائر أيضا «أنا جذرها -أي أصلها- وعلي ذروها وفاطمة فرعها، والأئمة أغصانها، وشيعتهم أوراقها»(28).
والحديث في معنى سدرة المنتهى.
وفي تفسير فرات بن إبراهيم وتفسير العياشي مثله.
وكذا في الكافي برواية عمرو بن حريث، وفي إكمال الدين للصدوق برواية عمرو بن يزيد بياع السابري، عن الصادق(ع)، إلا أنه لم يذكر اسم فاطمة الزهراء(ع).
وقيل: أصل الشجرة النبوة وفرعها الولاية.
وروى في المستدرك عن كتاب الفردوس وكتاب السمعاني بإسنادهما عن ابن عباس قال: قال رسول الله(ص): «أنا الشجرة، وفاطمة حملها، وعلي لقاحها، والحسن والحسين ثمرها، والمحبون لأهل البيت ورقها من الجنة حقا حقا»(29).
وقد قدموا اسم فاطمة(ع) في هذا الخبر بناء على مشربهم ومذهبهم.
والخلاصة: فإن المنصف البصير إذا غاص في بحار هذه الأخبار، علم عدم جواز التفكيك بين فاطمة الزهراء(ع) وبين الرسول(ص) وأمير المؤمنين، وعلم اتحادهم في كل العوالم، وعلم أن كل ما قاله الرسول(ص) في حقها قاله في حق الأمير(ع) أيضا في موضع آخر، وأن أهل المعنى إذا لاحظوها بأي منظار، فهي لا تخرج عن تلك الشجرة التي كانت في الجنة، وأن حواء تابعت آدم(ع) وبعد أن نظرت إلى فاطمة بعين الحسد كوشفت بالمقامات العلية لفاطمة الزكية فأكلت من تلك الشجرة المنهية، أو أنها رأت مقام فاطمة العالي عند رؤية تلك الشجرة فتناولت منها لعلها تنال ذلك المقام، أو الأفضل منه، والله العالم بحقائق السرائر وأفعال العباد، والسلام على من نظر إلي بعين الرشاد والسداد.
آدم و حواء هم از وجود تو زادند * گر تو نبودى نبود آدم و حوا
تا به قيامت فتد بدام طبيعت * هركه تمناى قدر تو كند أنشأ زهره
زهرا كجا و آدم خاكى * آدم خاكى كجا و زهره زهرا(30)



الهوامش:
(1) علل الشرائع 1/ 28 باب 15 ح 1.
(2) بحار الأنوار 60/ 265 ح 4 باب 38 عن الدر المنثور; و60/ 265 ح 5 باب 38 عن العلل لمحمد بن علي بن إبراهيم.
(3) النساء: 1.
(4) البحار 11/ 116 ح 45 باب فصل آدم وحواء.
(5) البقرة: 35.
(6) بحار الأنوار 25/ 5 ح 8 باب 1.
(7) ننقل هذا الحديث هنا تبركا، ولما له من ارتباط بهذه الخصيصة. (من المتن).
(8) معاني الأخبار 124 باب معنى الشجرة التي أكل منها آدم وحواء ح 1، عيون أخبار الرضا، البحار 11/ 164 ح 9 باب ارتكاب ترك الأولى ومعناه.
(9) معاني الأخبار 108 باب معنى الأمانة التي عرضت على السماوات والأرض... ح 1، البحار 26/ 320 ح 2 باب 1 باب دعاء الأنبياء استجيب به لتوسلهم بهم(ع). وفيه: «... (ولا تقربا هذه الشجرة) يعني شجرة الحنطة».
(10) تفسير الإمام العسكري: 221، تفسير البرهان 1/ 178 ح 1 ذيل الآية الكريمة 35 سورة البقرة.
(11) انظر تفسير العسكري 222.
(12) معاني الأخبار 125 ح 1 باب معنى الكلمات التي تلقاها آدم، البحار 11/ 176 ح 22 باب ارتكاب ترك الأولى.
(13) مجمع البيان 1/ 169 ذيل الآية 35 من سورة البقرة.
(14) انظر البحار 11/ 165 ذيل ح 9 باب ارتكاب ترك الأولى.
(15) البقرة: 35 - 37.
(16) الأعراف: 19 - 23.
(17) مجمع البيان 1/ 168.
(18) البحار 26/ 273 ح 15 باب تفضيلهم على الأنبياء(ع).
(19) تفسير الصافي 1/ 117 ذيل الآية 35 (من سورة البقرة).
(20) بصائر الدرجات 293 الجزء 6 باب 11 ح 4، بحار الأنوار 26/ 173 ح 44.
(21) بصائر الدرجات 293 الجزء 6 باب 11 ح 4، بحار الأنوار 26/ 173 ح 44.
(22) إبراهيم: 25.
(23) البحار 24/ 137 باب 44.
(24) إبراهيم: 26.
(25) الصافات: 64 - 65.
(26) الواقعة: 51 - 53.
(27) الرعد: 29.
(28) بحار الأنوار 23/ 230 باب 13، عن شواهد التنزيل.
(29) بحار الأنوار 24/ 139 ح 5 باب 44.
(30) انظر الحديث وما قبله في البحار 24/ 143 ح 13.
(31) يقول: لقد ولد آدم وحواء من وجودك، فلو لم تكن لم يكونا. وسيهوى في شراك الطبيعة -وإلى يوم القيامة- كل من تمنى قدرك. فأين الزهرة الزهراء من آدم الترابي; وأين آدم الترابي من الزهرة الزهراء.


المصدر: الخصائص الفاطمية: الشيخ محمد باقر الكجوري. ج1، مصادر سيرة النبي والائمة، ترجمة: سيد علي جمال أشرف. الطبعة الأولى، 1380 ش، انتشارات الشريف الرضي.

التعليقات (0)

اترك تعليق