مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

النوم عند طفل السنوات الثلاث الأولى

النوم عند طفل السنوات الثلاث الأولى

منذ الولادة، يفرض النوم نفسه كأحد العناصر الأساسية في حياة الطفل (مدته، تواتره، ظروف استتبابه كافة، مختلف سلوكيات النائم،الاختلافات الفردية... إلخ) لأنه سلوك جوهري يشغل أكثر من ثلاثة أرباع حياة الرضيع، نصف حياة الطفل وثلث حياة الراشد تقريبًا. إنه عملية حيوية جدًا للكائن البشري قد تكون خسارتها شديدة الخطر إذ تتجاوز قلة النوم لتنعكس سلبًا غلى الطاقة الحيوية لدى الإنسان، على ميزانه الانفعالي، على إنتاجيته وعلى صحته بشكل عام، وحتى، قد تؤدي لحصول حوادث خطرة، فالنوم، هو حاجة وليس ترفا.
وهو ضروري لترميم الأنسجة واسترداد الطاقة، إذ خلال النوم، تسترد العضلات التعبة طاقتها حيث يتم توليف كميات جديدة من البروتين، له وظائف ذهنية. وبفقدان النوم، يتعرض الإنسان لقلة الانتباه، لاختلال حس التوجه ولمشاكل ذاكرة، يضاف إلى كل ذلك وظائف انفهالية، إذ يتعلق إحساس الفرد النفسي بأنه على ما يرام بنوعية النوم لديه لأن من لا ينام بشكل كاف يتعرض لانعكاسات انفهالية متعددة منها النَزَق (سرعة الغضب)، الإحساس بالقلق وحتى بالاكتئاب.
يشتمل النوم، في الواقع، على ثلاث فترات زمنية هي الإغفاءLendormissement ، النوم واليقظة، وهو (النوم) يتعدّل، خلال السنوات الثلاث الأولى، بسرعة كبيرة، كما أنه يصبح أكثر عمقاً بمقدار ما تصبح الحياة أكثر تكثيفا ً، بمعنى أنه يتحول تدريجيًا من متعدد المراحل إلى موحد المراحل حيث يصبح أقصر بكثير مما هو معتاد، إذ لا يتجاوز اﻟ١٨ ساعة في اليوم واﻟ١٤ ساعة انطلاقا من عمر السنة.
هذا، ويتميز نوم الطفل، خلال السنوات الثلاث الأولى، بظواهر فسيولوجية تتحدد أكثر فأكثر كلما تطور نضج جهازه العصبي، حيث يصبح النوم أكثر عمقا ً وعناصره أكثر وضوحًا.
وفسيولوجية اليقظة تتغير، هي الأخرى، مع عمر الطفل لكنها تبقى عموما ً أكثر وضوحًا وسرعة من النوم، فهي ترتبط بالجوع، بالحرارة... حتى الشهر الثالث، وترتبط بظواهر أكثر فأكثر تعقيدًا (رغبة بالنشاط الحركي والتبادل العاطفي مثلا ً..) ما بين الشهر الثالث والتاسع، ثم بعوامل متعددة ما بين الشهر التاسع والثلاث سنوات (كتعديل القوة العضلية، العوامل العاطفية حيث يستيقظ الطفل المشبع عاطفيا ً بسرعة أكبر مثلا ً... إلخ).
لكن يمكن القول إن النوم واليقظة هما تعبيران لنفس الوظيفة، فالنوم هو نسق مميز لكبح ناشط ومتناسق تحدث خلاله عملية خفض لما يسمى بالوظائف، (وتشمل على الحركة الذاتية La motilite، انخفاض القوة العضلية Le tonus musculaire، التثاؤب وانخفاض التنبيهات المرتبطة بالحواسExcitations sensorielles ) مع تباطؤ في وظائف الحياة النباتية Fonctions vegetatives) (وتشمل حرارة الجسد، الحرارة السطحية للجلد، التنفس، النبض والإفرازات الخارجية)، هناك في الواقع خفض للحركة الذاتية وللحيوية العضلية ذات الدور الأساسي في النوم عن طريق خفض الاستثارات الحسية، السمعية والبصرية بشكل خاص.
وقد أظهرت دراسة صورة الدماغ الكهربائي أنه من الممكن التمييز خلال النوم بين حالتين: حالة النوم الهادئ Le sommeil calme وتتميز بحركة ذاتية مخفضة، بتنفس ونبض قلب منظمين، وبموجات بطيئة عبر الرسم الدماغي، وحالة النوم المتوتر Le sommeil agite التي تتميز بحركة سريعة في الوجه، في العينين eye movement بشكل خاص، وبنسق دماغي شبيه بحالة اليقظة، هاتان الحالتان تتطوران في توزعهما، خلال السنوات الثلاث الأولى.
والمولود الجديد يمتلك تنظيمًا دوريًا للنوم حيث يُترجم النوم الهادئ، عبر صورة الدماغ الكهربائي برسم بطيء أم متناوب alternant  أما النوم المتوتر فلا يختلف سوى قليلا ً عن حالة اليقظة ويتميز بنشاط كهربائي قليل الإيقاع ومُثقل أحيانًا بنسبة من الموجات البطيئة.
تجدر الإشارة إلى أن نوم الطفل الليلي بعد السنة الأولى يشابه، عمومًا، نوم الراشد: ٥ إلى ٦ حلقات تشتمل كل منها على مرحلة نوم هادئ ومرحلة نوم متوتر، تدوم كل حالة حوالي ٩٠ دقيقة تقريبًا حيث تبدأ المرحلة المتوترة الأولى بعد نوم الطفل بحوالي ٩٠ دقيقة. ومدة النوم تبلغ ١٩ ساعة كحد وسطي خلال الأسبوع الأول ثم تبدأ بالانخفاض فلا تتجاوز ثلاث عشر ساعة منذ نهاية السنة الأولى (وتتضمن هذه المدة فترات الهدوء الكبرى التي لا تعتبر نوما بحد ذاتها).
لكن، توزيع ساعات النوم عند الطفل هو أكثر اهمية من المدة: فكما رأينا، يتألف هذا النوم خلال الأسابيع الأولى من حقبات متعددة قصيرة المدى تمتد كل منها بين الساعة والساعتين وتتوزع بشكل متساو تقريبًا ما بين النهار والليل ثم تدريجيا ً تصبح مراحل النوم أطول بشكل يلاحظ أكثر فأكثر، منذ الأسبوع التالي، ينام الطفل ساعتين أو ثلاث ساعات متتابعة، عند الأسبوع الرابع ينام من٥ إلى ٦ ساعات، عند الشهر السادس ينام من ٦ إلى ٧ ساعات، وعند السنة ينام عشر ساعات متتالية، ويبدو أن النضج العصبي هو المسئول الأول عن هذا الازدياد في تتالي ساعات النوم، يضاف إلى ذلك العوامل الأخرى التي سبق أن أشرنا إليها كالعامل الفردي والعاطفي... إلخ.
هناك أيضًا عمق النوم الذي يتعرض تبعًا لتكوين الطفل وعمره، إلى تغييرات مهمة جدًا تظهر خلال الليل، وحتى من ليلة لأخرى، عند نفس الطفل، تغييرات تعود عمومًا لعوامل متعددة سبق أن ذكرناها وهي ترتبط بالنمو، بعوامل تكوينية، فردية، حاسية، عاطفية... إلخ، لكن خلال الأشهر الأولى يصبح النوم أكثر عمقًا بمقدار ما تصبح اليقظة أكثر تحديدًا، وبعد عمر السنتين ونصف السنة فقط، يصبح النوم عميقًا جدًا بحيث من الممكن الدخول إلى غرفة الطفل، التحدث بصوت عال، تحريكه...من دون أن يستيقظ.
هناك ظاهرة خاصة تحصل ما بين الأربع والسبع سنوات: إلغاء القيلولة La sieste الذي يترافق مع تغيير في النوم الليلي حيث لا تحصل مرحلة النوم المتوتر قبل ٣ أو ٦ ساعات من بدء النوم وحيث تكون بداية النوم ومدة النوم الهادئ العميق الكاملة أكثر ارتفاعًا منهما خلال الأعمار الأخرى.
في الحقيقة، لا يحصل النوم عند الطفل إلا بمقدار ما تنخفض حركته الذاتية التي تختلف تبعًا لسنه...إلخ، وانخفاض القوة العضلية يرتبط بعوامل فردية، نمائية وعاطفية تتداخل مع بعضها حيث يلاحظ خلال التطور العصبي عند الطفل تعديلات تتزايد على مستوى النوم واليقظة معا على حد سواء.
وبمعنى آخر يمكن القول أن لدى أطفال السنوات الثلاث الأولى حركة شاملة كل سبع دقائق، لكن هناك فترات هدوء تتراوح ما بين ١٥ و ٦٠ دقيقة. حركات الطفل خلال النوم هي عموما مختصرة جدًا: خلال الأشهر الثلاثة الأولى، تكون عتبة seuil الإدراك البصري والسمعي مرتفعة لدرجة يمكن للطفل معها أن ينام في الضوء كما في العتمة، لكنه كلما كبر يجد صعوبة أكبر بالنوم مع الضوء، وعند السنة لن يستطيع خلال النهار إلا إن وُضِعَ في العتمة، هذا وللعوامل العاطفية دور في غاية الأهمية إذ يستيقظ الطفل القَلِق والمتوتر بسهولة أكبر في الضوء من الطفل المشبع عاطفيا.
وبالتالي يبدو أن النوم يشتمل على عناصر خاصة بمسافات متنوعة: فيزيقية، ذهنية وانفعالية بحيث إنها لا تتمكن من تحقيق عملها بشكل فعال حين تكون نوعية النوم سيئة، ونزعية النوم السيئة مسئولة فعليا عن حدوث اضطرابات النوم الشديد الشيوع، والمعروف أن الاضطراب حين يحدث عند الفرد، لا بد له من علاج سريع يُجنبه خسارة العنصر الجوهري لحالته الفيزيقية والنفسية، ونعني هنا النوم.

المصدر: البيت العربي العدد(٢٤)- ملحق مجلة العربي- العدد٦٦٠- نوفمبر ٢٠١٣م.
د. كريستين نصار، أستاذة علم النفس بالجامعة اللبنانية.

التعليقات (0)

اترك تعليق