تاقت شوقاً إلى أخيها وتاق الموت إليها!! يا فاطمة اشفعي لي في الجنة فإنّ لك عند الله شأناً من الشأن...".
هي السيدة فاطمة بنت الإمام الكاظم (ع)، سليلة الدوحة النبوية المطهرة، وغصن يافع من أغصان الشجرة العلوية المباركة، وحفيدة الصدِّيقة الزهراء (ع)، المحدِّثة، العالمة والعابدة.
اختصتها يد العناية الإلهيّة فمنت عليها بأن جعلتها من ذريّة أهل البيت المطهرين (ع)، فتحت عينيها على الدنيا في أيام محنة أبيها، وقد أحاطت به الخطوب، فارتسمت حياتها بالحزن والأسى.
ولادتها:
اختلفت الروايات في تحديد سنة مولدها، إلّا أن الأول من شهر ذي القعدة عام 173هـ هو التاريخ الأكثر شهرة في تحديد ولادتها، وقد ولدت في مدينة جدها رسول الله (ص)، من إمام عالم عابد هو الإمام الكاظم (ع) وأم صالحة هي نجمة خاتون، التي تتلمذت على يدي زوجة الإمام جعفر الصادق (ع)، لذا أشارت حميدة زوجته على ولدها الإمام موسى بن جعفر بالزواج منها، وتعتبر السيدة المعصومة ثاني وآخر أبنائها وكانت أعلى مقاماً ومنزلة من بعد الإمام الرضا (ع).
نشأتها:
تربت السيدة فاطمة (ع) في حجر والدها الإمام موسى بن جعفر وحضن أمّها التقيّة العالمة، وترعرعت في ظل أخيها الإمام الرضا (ع)، ما جعلها في فترة صباها تتبوأ مكاناً رفيعاً في العلم والمعرفة، وأحاطت بالكثير من العلوم الإسلاميّة، حتى غدت ذات شأن عند الله تعالى، وأضحت مشفّعة بالمؤمنين يوم القيامة كما جاء في الزيارة المأثورة عنهم (ع): "يا فاطمة اشفعي لي في الجنة فإنّ لك عند الله شأناً من الشأن...".
أسماؤها وألقابها:
لما كانت السيدة المعصومة ربيبة الإمامة فقد حظيت بأحسن الأسماء، وأجمل الألقاب، وإن لأسمائها وألقابها من الدلالات والمعاني ما يشير إلى عظمتها، ذلك لأنّ الاسم أو اللقب لم يطلق عليها جزافاً، وإنّما صدر عن المعصوم الذي يضع الأشياء في مواضعها، الأمر الذي يدلّ على جلالة هذه الشخصية وعظمتها في كل شأن من شؤونها.
وأما أسماؤها وألقابها فهي:
1ـ فاطمة:
إن لهذا الاسم قدسية في نفوس أهل البيت (ع)، ولذا ذكر بعض الباحثين أن جميع الأئمة (ع) كانت لهم بنات بهذا الاسم، فقد كان للإمام الكاظم (ع) أربع بنات بهذا الاسم، الأمر الذي يؤكد على أن هذا الاسم ليس أمراً عادياً، لأنّه ما إن يطلق هذا الاسم ويتناهى إلى الأسماع حتى تتبادر الأذهان إلى فاطمة بضعة النبي (ص) التي كانت واسطة العقد وملتقى النورين ومنشأ السّلالة النبويّة الشريفة والذريّة الطاهرة.
2ـ المعصومة:
ويقترن هذا الاسم باسم فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر (ع)، فيقال في الأعم الأغلب: فاطمة المعصومة، كما يقال عند ذكر أمّها الكبرى: فاطمة الزهراء (ع)، وقد لقبها به الإمام الرضا (ع) حيث قال: "من زار المعصومة بقم كمن زارني".
ولهذه التسمية من الدلالة ما لا يخفى، فإنها تدلّ على أنّ السيدة فاطمة (ع) قد بلغت من الكمال والنزاهة والفضل مرتبة شامخة.
ولئن لم تكن معصومة بالمعنى الخاص للعصمة الخاصّة بالأئمة (ع) والصديقة الزهراء (ع) ولم تبلغ درجتهم، إلا أن في التعبير عنها بالمعصومة إشعاراً ببلوغها مرتبة عالية من الطهارة والعفة والنزاهة والقداسة.
3ـ كريمة أهل البيت:
وهو من ألقاب هذه السيدة الجليلة، وعرفت به من دون سائر نساء أهل البيت، وقد أطلقه عليها الإمام الكاظم (ع) في قصّة وقعت لأحد السادة الأجلاّء وقال له: (عليك بكريمة أهل البيت) مشيراً إلى هذه السيدة الجليلة.
ولهذا اللقب دلالة بعيدة الغور على شأن فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر (ع)، فإنّ أهل البيت (ع) قد جمعوا غرّ الفضائل والمناقب وجميل الصفات، ومن أبرز تلك الخصال الكرم، وقد عرّفوه بأنّه إيثار الغير بالخير ولا تستعمله العرب إلا في المحاسن الكثيرة، ولا يقال كريم حتى يظهر منه ذلك. والكريم هو الجامع لأنواع الخير والشرف والفضائل..
وعلى ضوء هذا المعنى الشامل للكرم يتجلّى لنا اتصاف هذه السيدة الجليلة بأنّها كريمة أهل البيت (ع).
أسماء وألقاب أخرى
ذكر العلامة المتتبع الشيخ علي أكبر مهدي پور في كتابه القيّم (كريمة أهل البيت عليهم السلام)، أن لفاطمة المعصومة عدّة أسماء وألقاب غير ما ذكرنا، وردت في عدّة من المصادر، وهي الطاهرة، الحميدة،البرّة، الرشيدة، التقية، النقيّة، الرضية، المرضيّة، السيدة، أخت الرضا، الصدّيقة، سيدة نساء العالمين.
علمها:
نقل العلامة الشيخ علي أكبر مهدي پور حكاية وحاصلها: أن جمعاً من الشيعة قصدوا بيت الإمام موسى بن جعفر (ع) للتشرّف بلقائه والسلام عليه، فأخبروا أن الإمام (ع) خرج في سفر وكانت لديهم عدّة مسائل فكتبوها، وأعطوها للسيدة فاطمة المعصومة (ع) ثم انصرفوا.
وفي اليوم التالي ـ وكانوا قد عزموا على الرحيل إلى وطنهم ـ مرّوا ببيت الإمام (ع)، ورأوا أن الإمام (ع) لم يعد من سفره بعد، ونظراً إلى أنّه لابدّ لهم أن يسافروا طلبوا مسائلهم على أن يقدموها للإمام (ع) في سفر آخر لهم للمدينة، فسلّمت السيدة فاطمة (ع) المسائل إليهم بعد أن كتبت أجوبتها، ولمّا رأوا ذلك فرحوا وخرجوا من المدينة قاصدين ديارهم.
وفي أثناء الطريق التقوا بالإمام الكاظم (ع) وهو في طريقه إلى المدينة، فحكوا له ما جرى لهم فطلب إليهم أن يروه تلك المسائل، فلمّا نظر في المسائل وأجوبتها، قال ثلاثاً: فداها أبوها.
فضائلها:
قال الإمام الصادق (ع): "إن للجنّة ثمانية أبواب، ثلاثة منها لأهل قم، تقبض فيها امرأة من ولدي، واسمها فاطمة بنت موسى، تدخل بشفاعتها شيعتنا الجنّة بأجمعهم ".
و قال الإمام الرضا (ع): "من زارها عارفاً بحقها فله الجنة".
و قال الإمام الجواد (ع): "من زار قبر عمتي بقم فله الجنة".
و قال الإمام الصادق (ع): "إنّ لله حرماً وهو مكّة، وإنّ للرسول (ص) حرماً وهو المدينة، وإنّ لأمير المؤمنين (ع) حرماً وهو الكوفة، وإنّ لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها امرأة من أولادي تسمّى فاطمة، فمن زارها وجبت له الجنّة".
حول زواج السيّدة المعصومة:
جعل الإمام الكاظم عليه السّلام -في وصيّته-أمر تزويج بناته بيد ولده الإمام عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام دون بَنيه الآخرين، وإن شاء تزويج أخواته من الأكفاء فعل، وإن أراد أن يترك تزويجهنّ -لعدم وجود الأكفاء، أو لوجود ظروف قاهرةـ ترك.
وإنّ نظرة فاحصة إلى مُجمل الأوضاع العصيبة التي عاصرتها السيّدة المعصومة عليها السّلام، والضغط الشديد والإرهاب اللذين تعرض لهما العلويّون والطالبيّون في عهد الرشيد، انتهاءً بالإعتقال والقتل الفجيع الذي تعرّض له كبيرهم الإمام الكاظم(ع)، يجعلنا ندرك سبب عدم زواج السيدة المعصومة وأغلب بنات الإمام الكاظم عليه السّلام.
شهادتها:
في سنة 200هـ أبعد الإمام الرضا (ع) من المدينة إلى "مرو" بأمر من المأمون العباسي ولم يرافقه أحد من عائلته إلى خراسان، وبعد مرور سنة على ذلك اشتاقت السيّدة المعصومة (ع) لرؤيته، فرحلت تقتفي أثره، والأمل يحدوها في لقائه حيّاً، لكنّ عناء السفر ومتاعبه اللذينِ لم تعهدهما كريمة أهل البيت أقعداها عن السير، فلزمت فراشها مريضة مُدنَفة، ثمّ سألت عن المسافة التي تفصلها عن قم ـ وكانت آنذاك قد نزلت في مدينة ساوةـ فقيل لها إنّها تبعد عشرة فراسخ، فأمرت بإيصالها إلى مدينة قم، فحمُلت إليها على حالتها تلك، وحطّت رحالها في منزل موسى بن خزرج بن سعد الأشعريّ، حتّى توفيّت سلام الله عليها بعد سبعة عشر يوماً.
وفي رواية أخرى ذكرت أنّ المأمون لمّا بلغته أخبار القافلة التي تحرّكت من المدينة إلى خراسان، وفيها اثنان وعشرون علَويّاً، وعلى رأسها السيّدة فاطمة بنت موسى عليها السّلام، وأنّ عدد أفراد القافلة يتعاظم كلّما تقدّمت في مسيرها، أوعز بالتصدّي لها، فتصدّى لها جماعة من جلاوزة النظام، وقتلوا وشرّدوا كلّ من كان فيها.
وقيل إنّ السمّ دُسّ بعد ذلك إلى السيّدة المعصومة في مدينة ساوة، فلم تلبث إلاّ أيّاماً قليلة حتّى فارقت الحياة. وعندما توفيّت غُسلّت وكُفّنت، وحُملت إلى مقبرة (بابلان) ووضعت على حافّة سرداب حُفر لها، فاختلف آل سعد في مَن يُنزلها إلى السرداب، ثمّ اتّفقوا على أن يتولّى ذلك خادم لهم صالح كبير السنّ، فلمّا بعثوا إليه رأوا راكبَين مُقبلَين من جانب الرملة وعليهما لِثام، فلمّا قَرُبا من الجنازة نزلا وصَلّيا عليها، ثمّ نزلا السرداب وأنزلا الجنازة ودفناها فيه، ثمّ خرجا ولم يُكلّما أحداً، وركبا وذهبا ولم يدرِ أحد مَن هما. وقيل هما الإمام الرضا والجواد (ع).
كراماتها:
نقل علماؤنا قدست أسرارهم مجموعة كبيرة من الكرامات التي حصلت لبعض زوار السيدة المعصومة وهي بالعشرات منها ما نُقل عن المرحوم آية الله السيّد المرعشي النجفي أنّه قال:
أرِقتُ ليلةً من ليالي الشتاء القارس، ففكّرت في الذهاب إلى حرم السيّدة المعصومة لزيارتها. ثمّ إني ظننتُ أنّ الوقت لا يزال مبكّراً، وما تزال أبواب الصحن الشريف مغلقة. فعدتُ أحاول النوم واضعاً يدي تحت رأسي، خشيةَ أن أستغرق في نوم عميق، فشاهدت في عالم الرؤيا السيّدة المعصومة سلام الله عليها وهي تهتف بي: انهض وتعالَ إلى الحرم فأدرِكْ زوَاري الواقفين خلف أبواب الصحن، فانّهم أشرفوا على الهلاك من شدّة البرد!
قال السيّد: نهضت وارتديت ملابسي على عجل، وأسرعت إلى الصحن الشريف، فشاهدت مجموعة من الزوّار الباكستانيين بملابسهم المحليّة الخاصّة وهم في حالة يُرثى لها، يرتجفون خلف باب الصحن من شدّة البرد. طرقت الباب، فعرفني أحد خدّام الحرم -واسمه الحاج حبيب- ففتح الباب، فوردت الصحن مع اُولئك الزوّار الذين هرعوا لزيارة السيدة (ع)، في حين توضّأت أنا وانصرفت إلى أداء الصلاة والزيارة.
اترك تعليق