مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

سكينة(ع) والاستغراق مع الله سبحانه وتعالى

سكينة(ع) والاستغراق مع الله سبحانه وتعالى

سكينة مع الله تعالى
جاء في الحديث: إن الحسن المثنى بن الحسن بن أمير المؤمنين(ع) أتى عمه أبا عبدالله الحسين(ع) يخطب إحدى ابنتيه فاطمة وسكينة، فقال له أبو عبدالله(ع) أختار لك فاطمة فهي أكثرها شبهاً بأمي فاطمة بنت رسول الله(ص)، أما في الدين فتقوم الليل كله وتصوم النهار، وفي الجمال تشبه الحور العين، وأما سكينة فغالب عليها الاستغراق مع الله تعالى فلا تصلح لرجل(1)
إن هذه الكلمة الذهبية من سيد شباب أهل الجنة(ع) تفيدنا درساً بليغاً عن مكانة ابنته (سكينة) من الشريعة المقدسة وأن اختها الطاهرة مهما حازت الثناء الغير متناهي لا تبلغ شأوها، ولا تجاريها في رهبانية وتجرد عن اللذات وانقطاع عن الدنيا الفانية، وكيف لا تكون كذلك وهي ابنة معدن القداسة عجنت طينتها بماء النزاهة فكانت متأثرة بحسن التربية، وكرم الأخلاق، فهي مثال السؤدد، وقد جللها الشرف مطارفاً من الحياء والعفة، فقول الإمام الشهيد(ع): (غالب عليها الاستغراق مع الله)، يشير إلى أنّ ابنته الكريمة كانت سابحة بين أمواج الفناء في الله سبحانه (إن لم نقل البقاء بالله) وقد انعكست في مرآة نفسها لواعج الجلال والجمال الإلهى، فأينما توجهت لا تجد إلا تلك الصفات المنتقشة فيها المعاني القدسية، ولا ترى لغيرها كياناً ولا تعتبر لأي جمال خطراً ولا لأي مال معتبراً ولا تحسب أن لسوى ما شاهدته مدكراً.
وإذا كان عشق الإنسان يعشي البصر عن غير المعشوق ولا يشعر العاشق بكل ما يلاقيه عند توجه مشاعره نحوه، كما لم تشعر النسوة بألم قطع المدية أيديهن عند توجه مشاعرهن نحو الصديق يوسف(ع) «وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ»(2).
فالعشق الحقيقي لمظاهر الجمال الإلهي أولى بأن يقف سدا دون ما سواه كما لم يشعر أصحاب الحسين عليهم‌السلام بما لاقوه من ألم الجروح الدامية(3) بعد تكهربهم بولاء سيد الشهداء وتوجه مشاعرهم نحو الجمال القدسي الإلهي ونزوع أنفسهم إلى الغاية القصوى من القداسة.
وابنة النبوة «السيدة سكينة» بلغت من عظيم مجاهدة النفس إلى حد لم يبق لها نزوع إلا إلى صقع القداسة والاندفاع إلى مركز الفناء في الله عز وجل وليس لها لفتة إلى نواميس الحياة والانعطاف إلى لوازم المعاشرة مع الناس فهي بين عبادة وزهادة وتذكير وتفكير وهذا معنى الاستغراق مع الله تعالى.
وكانت من اللاتي شغلتهن الآخرة عن الأولى فلا يرين لغير المولى تعالت آلاؤه كياناً يجلب النظر إليه ولا إلى معاشرة من ليست هي مثلها في السلوك والرياضة.
وكان ما شاهدته السيدة سكينة «حق اليقين» وهو أرقى مراتب السالكين فان أهل الكشف والسلوك بعد أن عرفوا اليقين بأنه الاعتقاد المطابق للواقع الثابت الذي لا يزول وهو في الحقيقة مؤلف من علمين: علم بالواقع وعلم بمحالية خلافه ذكروا له مراتب ثلاثة فإنه إن حصل من الاستدلال والنظر كالعلم الحاصل بوجود النار من الدخان سموه «علم اليقين».
وإن حصل بالكشف والمشاهدة كمعاينة جرم النار وكالكشف الحاصل للخلص من المؤمنين الذين اطمأنت قلوبهم بالله وتيقنوا بمعاينة قلوبهم أن الله نور السموات والأرض سموه «عين اليقين».
وإن حصل بالاتصال المعنوي لأهل الشهود والفناء الذين لا يرون في الوجود شيئاً إلا (ذات الحق) تعالى شأنه كما قال سيد العارفين أمير المؤمنين(ع) لو كشف الغطا ما ازددت يقيناً(4) سموه (حق اليقين).
وقد أشار الكتاب العزيز إلى هذه المراتب فقال سبحانه:«كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ»(5) يريد جل شأنه أنه لو حصل الاستدلال بالطرق الصحيحة والنظر فيما ورد من الآيات والروايات بوجود ما أعد الله للعاصين لحصل العلم اليقيني بوجود النار الكبرى، ثم ترتقي الحالة إلى الكشف عنها حتى كأنهم يشاهدونها بنفسها. وهو المراد من قوله تعالى بعد ذلك: ثم لترونها عين اليقين.
وأما المرتبة الثالثة التي أشار إليها بقوله تعالى: «وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ * فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ * وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ»(6) فلا تحصل إلا لمن نظر إليها بواسطة تجرده عن العوارض وتخلية نفسه عن الشهوات، وانقطاعه عن عالم الملك الزائل(7)
وإن ابنة النبوة حازت أرقى هذه المراتب التي أخبر عنها الإمام الحجة الواقف على سرائر العباد بقوله: (غالب عليها الاستغراق مع الله) فإن الاستغراق هنا عبارة عن الفناء في بحر العظمة الإلهية بحيث لا تكون لها لفتة لوازم الحياة وعوارض الدنيا الفانية.
ومن أجل ذلك أخذت بمجامع قلب أبيها وزاد حنوه عليها حتى استحقت أن يصفها المعصوم بخيرة النساء لما وقف عليها يوم الطف ورآها منحازة عن النسوة باكية نادبة فقال(ع):
لا تحرقي قلبـــي بدمعك حسرة ما دام مني الروح في جثمان
فإذا قتلـت فأنت أولى بالذي تأتيـنه يـا خيـرة النسوان
وهل من المعقول أن حجة الله يخبر عن مبلغ ابنته من الدين وسلوكها مع الله تعالى، ثم يصفها بخيرة النساء وهو يعلم أنها مارقة عن صراط الشريعة، ومتنكبة عن سبيل الحق أو أنها تمرق عنه؟ كلا.
«فَبَشِّرْ عِبَادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ»(8).


الهوامش:
1 ـ إسعاف الراغبين للصبان بهامش نور الأبصار ص ٢٠٢.
2 ـ يوسف ٣١.
3 ـ الخرايج للراوندي ص ١٣٨. طـ الهند.
4 ـ هذه الكلمة نقلها الألوسي في تفسيره روح المعاني ج ٣ ص ٢٧ عند قوله تعالى (كيف تحي الموتى) عن أمير المؤمنين علي (ع) ومثله أبو السعود في تفسيره على هامش تفسير الرازي ج ٤ ص ٥٧٠ عند قوله تعالى في الأنفال (واذا تليت عليه آياته زادتهم ايماناً) والخفاجي في شرح الشفا ج ٤ ص ٤ باب عقد قلب النبي ونسبها عماد الدين الأموي في حياة القلوب على هامش قوة القلوب لأبي طالب المكي ج ٢ ص ٢٥١ إلى بعض السلف.
5 ـ التكاثر/ ٥ ـ ٦.
6 ـ الواقعة/ ٩٥.
7 ـ هذه المراتب الثلاثة ذكرها ابن حجر في الفتاوي الحديثية ص ٢٢٠.
8 ـ سورة الزمر/ ١٨.


المصدر: من كتاب السيدة سكينة ابنة الإمام الشهيد أبي عبدالله الحسين عليه السلام: السيد عبد الرزاق الموسوي المقرّم. ط1، دار الأضواء، ١٤٢٢ هـ.ق.

التعليقات (0)

اترك تعليق