مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

حقيقة الرّسالة الإسلامية من خلال خطبةالزهراء(ع)(3): الصّيام تثبيتاً للإخلاص

حقيقة الرّسالة الإسلامية من خلال خطبة السيدة الزهراء(ع)(3): الصّيام تثبيتاً للإخلاص

والصّيام تثبيتاً للإخلاص..
وبعد هذا البيان الذي تصوّر الزهراء(ع) فيه فلسفة الزّكاة، تكشف لنا فلسفة الصّيام الذي يعتبر لبنةً في البناء التشريعيّ الإسلامي الضّخم فتقول: «والصّيامَ تثبيتاً للإخلاص».
فترسم أمامَ الأجيال الإسلامية الرّائدة هذه الحقيقة الناصعة التي أراد لها الله سبحانه أن تتحقّق بفضل فريضة الصّيام ـ صيام شهر رمضان المبارك.
والصّوم الذي فرض الإسلام طبيعته وحدّد إطاره: هو إقلاع عن المتطلّبات الجسمية: من أكل وشرب وجماع، وفيه تتحقّق عمليّة قهر أعنف الغرائز في كيان الإنسان، فتقهر غريزة المعدة التي تتطلّب الإشباع الدّائم، والغريزة الجنسيّة التي تتطلّب سدّ حاجتها بإلحاح متواصل. ولا يقف الأمر عند هذا الحد، وإنّما يتعدّاه إلى صوم الجوارح، فللعين صومٌ عن رؤية المحرمّات، وللأُذن صومٌ عن سماع المحظورات، وللّسان صوم عن قول المنكرات، ولليد والرّجل كذلك صومٌ عن الإعتداء أو السّرقة أو السّير في درب لا يقرُّه حكم الله تعالى.
وهذه الأُمور الأخيرة وإن لم تكن مباحةً في غير شهر رمضان، إلا أنّ شهر الصّوم قد أُعطي تمييزاً عن غيره من سائر الأيام، فربّما قد تحدث هذه الأمور لدى البعض من النّاس، ولكنّها لا تضرُّ بصلاة أو زكاة أو نحوها، إلا الصّيام فإنّ وجود مثل هذه المنكرات يخرج الإنسان عن كونه صائماً.
وثّمة نقطة أُخرى تلوح لنا كشعاع ينبثق من فريضة الصّيام، هي: أنّ المسلم الذي استطاع أن يكبت أشدّ غرائزه إلحاحاً وأعظمها خطراً فانتصر عليها هازئاً
بالمادّة وأوضارها، إنّ إنساناً هذا شأنه سيملك من الطّاقات ما يجعله أقدر على مواجهة طواغيت الارض وقلع معالمهم في حياته وواقعه، بل إنّ إنساناً قهر نفسه ومتطلّبات جسده، هو أقدر على أن ينتصر لمبدئه الذي استجاب هو لندائه فمنع نفسه عن لذاذاتها ومشتهياتها ليدكّ صروح أعدائه، وإن ادلهم الخطب وازدحم الدّرب بالمخاطر.
يمتنع المرء عن الطّعام والشّراب، وهو قادر على تناولها بعيداً عن أعين الناس في خلواته في وحدته، ولكنّه يقهر نفسه ولذاذاته لأنّه يستشعر بتقوى الله فاطر الأرض والسّماء، وحينئذ يبرهن على فاعليّة إيمانه وعلى مدى إخلاصه لله سبحانه.
أجل إنّ في الصوم تتحقق أبعاد الإخلاص لله سبحانه فتتجسّد واقعاً ملموساً لأنّ الصوم لا يتطرّق إليه الرّيا(1) لأنّه ترك لأعز شيء في الحياة هو الطعام هو اللذة المطلقة هو متطلّبات الجسم.
والصوم -بعد ذلك- دورة تربوية يتلقّى الإنسان فيها مختلف الدُّروس الجديدة، فتخلق لديه عاداتٍ جديدة حتّى المعدة نفسها تعتاد على التّقسيم الجديد في وجبات الطّعام، فكيف بالسلوك؟
إنّ إنساناً اعتاد ترك الكذب والغيبة والنّميمة، والنّظر المحرّم والسخرية لمدة شهر واحد، أصبح يملك من القدرة على الإستمرارية في هذا السلوك الإسلامي زمناً. وهو شهرٌ في كلّ سنة ليس بالأمر الهيّن، إنّه يؤلّف نسبة مئوية جدُّ كبيرة من العمر يعيشها الإنسان في كنف الإستقامة وفي رحاب مدرسة إسلامية تصهر السُّلوك المعوج وتبيد جراثيمه. والصوم حين يمتلك هذه المزايا التي تنعكس إلى شدّ العبد بربه شداً وثيقاً، هو الذي أملى على الزّهراء(ع) -وهي خرّيجة مدرسة الوحي- أن تعلن عن كون الصّيام تثبيتاً للإخلاص، فهو تثبيت لإخلاص الإنسان لربّه بعد استجابته لندائه، وتركه لكلّ لذاذاته تقرُّباً له وانقياداً لتلقيناته المباركة، وعلى هذا التقدير يصبح الصوم اختباراً لدى استجابة المرء لأوامر ربه الكبير المتعال، وحين يستجيب المرء لذلك فقد حاز التثبيت لإخلاصه، وربح بعد ذلك مرضاته تعالى.
____________
(1) المجالس السنية ج 5 ـ محسن العاملي.

المصدر: الزّهَراء فاطمة بنت محمد صلى الله عليه وآله: الشهيد عبد الزهراء عثمان محمد (الكتابُ الذي أحرز الجائزة الثانية في مُباراة التأليف عن حياة الصديقة الزهراء عليها السلام).

التعليقات (0)

اترك تعليق