موقعية المرأة في جهاد المقاومة*- كلمة للشيخ نعيم قاسم في دورة أقامها مشروع التأريخ
موقعية المرأة في جهاد المقاومة*
- كلمة للشيخ نعيم قاسم في دورة لتأهيل الكاتبات أقامها مشروع التأريخ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا الجهد الكبير لمشروع التأريخ لدور المرأة ، في المقاومة والمواجهة والجهاد ، يُعتبر عملاً نبيلاً ومؤسِّساً ومهماً ، و نحن بحاجة في الواقع إلى تأريخ كل حركة المقاومة ، سواءً على مستوى أداء الأخوات أو الشباب أو الأطفال أو الحركة الاجتماعية بشكل عام، لأنَّ حجم التضحيات التي حصلت خلال فترة قصيرة من الزمن كانت كبيرة جداً بمقياس عطاءات الشعوب، وإذا ما قيست بالثُّلة القليلة من المجاهدين والمجاهدات التي واجهت تحدياتٍ خطيرة، وحقَّقت إنجازاتٍ وانتصارات ما كانت لتحصل لولا تسديد الله جل وعلا. سأحاول مع الأخوات الكاتبات والمهتمات بهذا الشأن، أن أستعرض مجموعة من النقاط التي أعتبرها مفيدة في إطار هذا اللقاء الذي ينعقد بطريقة متخصِّصة.
أولا - التفاعل مع الشهادة استطاعت الأخت والأم والزوجة والبنت أن تقدِّم نموذجاً مهماً في تلقِّي معنى الشهادة، وهذه ميزةٌ يجب التركيز عليها، فالمعروف بأنَّ عاطفة الأمومة والأخوة والبنوة والزوجية غالبة بشكل عام، وخاصة في مجتمعاتنا، إلى درجةٍ تمنع الرجال عادة من الإقبال على الجهاد والتضحية، بحيث تشكِّل هذه العاطفة عائقاً في الإقدام على العمل الجهادي. لكن ما رأيناه في ساحتنا الجنوبية وفي كل المناطق اللبنانية التي شاركت ورفدت المقاومة وقدَّمت لها، أنَّ هذه العاطفة تألَّقت بالإيمان بالله تعالى فكانت أقوى من العاطفة الشخصية، وعلى الرغم من آلام تضحيات الأحبة، فقد سيطرت الأمهات والزوجات والأخوات والبنات على مشاعرهن، وأبرزت الافتخار بعطاءات الأبناء والأزواج والأخوة، وهذا مالم يكن مألوفاً على مستوى الواقع، ولذا كان موقف النساء في تلقِّي أخبار الشهادة مفاجئاً وعظيماً. حتى لو افترضنا أن تتعالى المرأة على الجراحات على المستوى النظري، لكنَّ العبرة في التطبيق العملي، فكم من نظرياتٍ قيلت ثم وجدنا أنها لم تؤثِّر مباشرة في القلوب والنفوس. ولا أخفيكن أنَّه في الأيام الأولى لسقوط الشهداء، كنَّا نفكِّر كيف ندخل إلى العائلات؟ وكيف نتحدَّث معهم ونُخبرهم بشهادة ولدهم؟ لكنَّ المفاجأة الكبرى أنَّ ردات الفعل الأولى كانت عظيمة و إيجابية اكثر مما كنَّا نتوقع. فهذه الأم التي كانوا يقولون عنها بأنَّها لا تتحمَّل، وعندها مرضٌ في القلب، وعندها ضغط مرتفع، ويمكن أن تصاب بنكسةٍ كبيرة، ولا تتصوَّر أن تخسر ولدها، كأنها شُحنت بطاقةٍ جديدة وإضافية عند شهادة ولدها، فصرخت مزغردةً مفتخرةً صامدةً وصابرة، ما يعني أنَّ كثرة التهويل بضعفها في مواجهة التحديات لا ينسجم مع روحيتها العالية في موقع المقاومة والكرامة والعزة، فهي تعيش بشهادة ولدها طمأنينةً لمساهمتها في هذا الخط، وهنا تنتقل حالتها من القلق والرعب والخوف إلى قوة إضافية واستثنائية ومعنوية تساعدها على التعاطي مع الشهادة، وهذه نقطة إيجابية وموثِّرة تسجَّل لأمهاتنا وأخواتنا بشكل عام، وقد أعطت دفعاً معنوياً للأخوة المجاهدين وللمسيرة بشكل عام. لم يكن هذا الاستنتاج استنتاجاً نظرياً بل كان استنتاجاً عملياً ، رأيناه من خلال التطبيق الواقعي، وصدرت تصريحات من بعض الأمهات والأخوات في وسائل الأعلام، لم تكن مُنسَّقة ولا مُعدَّة سلفاً، عبَّرت عن عمق الإيمان الحقيقي في نفوسهنَّ، وعن مستوى التفاعل مع مسيرة الجهاد والمقاومة، وهذا ما يجب أن نسلِّط الضوء عليه لإبراز هذه النماذج التربوية العظيمة.
ثانياً- مشاركة المرأة في المقاومة
شاركت بعض الأخوات والأمهات في الدعم غير المباشر للمجاهدين، سواءً حصل ذلك بإيوائهم، أو التَّستر عليهم، أو توفير المواد التموينية لهم، أو نقل الأخبار النافعة للمقاومة، أو غير ذلك مما يعتبر مساهمةً أو حمايةً للعمل المقاوم. ولا يصحُّ الاستهانة بهذا المستوى من التفاعل، لأنَّه يوفر البيئة المؤاتية لنجاح العمل، وفي هذا المجال تدخل بعض الأعمال الحساسة التي تقترب من المشاركة شبه الفعلية في العمل الجهادي. وعلى الرغم من عدم شمولية هذه المشاركة للكثير من الأخوات والأمهات، لكنَّ النموذج معبِّر، حيث كانت تتمُّ الأمور بحسب الحاجة الميدانية، ولم يكن هدف المقاومة زجُّ الأخوات في المعركة إلاَّ عند الضرورة، وبالمقدار الذي لم يصل إلى مستوى استخدام السلاح والقتال المباشر، نظراً للضوابط الشرعية التي لم تكلِّف المرأة بالقتال، وعدم وجود الضرورة لمشاركتها بحسب طبيعة المقاومة وتوَفُّر العدد الكافي من الشباب، وحمايةً للأخوات من أن يتعرض العدو لهنَّ. مع ذلك فقد اعتقل العدو الإسرائيلي وعملاؤه بعض الأخوات والأمهات، ووضعهن في سجن الخيام لفترة طويلة من الزمن، ومارس بحقهن أشكالاً من التعذيب الجسدي والنفسي، وهذا ما يُسجَّل للمرأة المقاوِمة في تاريخ الجهاد كعلامةٍ مضيئةٍ ساهمت في التحرير والنصر.
ثالثاً - التعبئة
أوجدت التعبئة الثقافية والجهادية والسياسية عند الأخوات نموذجاً حيوياً متفاعلاً في ساحتنا، فلم نعد أمام انفصامٍ في المجتمع بين من يهتم بالمقاومة ومن يتفرج عليها أو لا تعنيه شؤونها وما يرتبط بها، بل أصبحنا أمام حالةٍ متكاملة في الساحة السياسية بين جميع أفراد هذه الساحة من الرجال والنساء، فالشباب معنيون بالجهاد العسكري، والأخوات معنيات بالجهاد ودوافعه وآثاره أيضاً، بمعنىً آخر: كان العمل يستهدف بناء مجتمع المقاومة، وقد تحقَّقت خطواتٌ مهمة في هذا الاتجاه، وقد لاحظ المراقبون هذا الأمر من خلال الاندفاعة القوية للشباب نحو الجهاد، وقناعةِ الأخوات بتكليفهن الشرعي في دعم هذا التوجه وفي تربية الأطفال والشباب عليه. هذه التعبئة هي من آثار جهاد الإمام الحسين(ع) وجهاد السيدة زينب(عها)، فالمجالس التي تنعقد لإحياء عاشوراء تغرس هذه الروحية في المؤمنين والمؤمنات، وتبني قاعدةً ثقافية وجهادية صلبة وواعية، ما يؤدي إلى الالتزام بالقيادة الشرعية التي تعمل في هذا الاتجاه. كما أن أخواتنا يمتلكن الوعي الكافي للمشاركة السياسية التي تستلزم فهم طبيعة الخطر الإسرائيلي ومستلزمات مواجهته، وحجم الضغط الدولي علينا لمصلحة العدو، وذلك من خلال وجود أخواتنا في الميدان، ومشاركتهن في المسيرات، وحضورهن في الندوات والمحاضرات ومجالس تأبين الشهداء... كلها مظاهرُ تأييدٍ ودعم ومناصرة وحضور. وهي ليست مشاركةً سطحية أو تقليدية، بل هي مشاركة واعية وهادفة. لقد استطاع حزب الله تخطِّي الحواجز التي سبَّبت الفصل الحاد بين دور الرجل ودور المرأة على الأصعدة السياسية والجهادية والاجتماعية، وأوجد شراكةً فعلية في الهم، وأخرج المرأة من دائرة التقوقع والانعزال والانحصار المنزلي إلى دائرة التأثير في البنية المجتمعية النهضوية للمقاومة. أصبحنا أمام نساء يتَّخذن المواقف السياسية ويدافِعْن عنها، ويترصَّدن أخبار المقاومة والانتفاضة، ويراقِبْن تأثير الحركة الدولية على وضعنا، ويعْملنَ للمساهمة في بناء المجتمع المقاوم. إنَّها حالة تكاملية تستثمر الطاقات الفاعلة للنساء في المجتمع.
رابعاً - المسؤولية والدور
نؤكد على مسؤولية المرأة في أن تكون جزءاً من العمل الجهادي، ليس بطريقة استعراضية وإنما بطريقه واقعية، وهذه النظرة تستلزم أن يبرز دورها حيث يستلزم الأمر ذلك، فتكون مهيَّأة ومعبَّأة لتقوم بدورها المناسب في التوقيت والزمان المناسبين، والمثالان المعبِّران على هذا الطرح وهذه الرؤيا ما حصل مع السيدة الزهراء(ع) والسيدة زينب(ع). كنَّا نقرأ في السيرة بأنَّ السيدة الزهراء كانت تعلِّم النساء، وتُسأل في المسائل الشرعية فتجيب، ولم نتعرَّف على السيدة الزهراء(ع) كصاحبة موقف سياسي بارز إلا بعد وفاة الرسول(ص)، عندما استلزم الأمر أن تقف في المسجد بين المسلمين لتخطب خطبتها المشهورة وتعبِّر عن الحق والموقف الإسلامي وموقفها من التطورات، فلم نرَ السيدة الزهراء(ع ) بارزة في مثل هذا الموقف قبل وفاة الرسول(ص )، بل كانت تؤدي دورها وتكليفها في مواقع التعبئة والتربية والتوجيه، وعند بروزها في هذا الموقف، لم يكن بالإمكان أن يقوم أحدٌ مقامها، وبالتالي إن لم تقف هي فسيخسر الإسلام موقفاً سياسياً في هذه المحطة وفي هذا المنعطف. أمَّا السيدة زينب(ع)، فيكاد يكون تاريخها عادياً في الإطلالة المجتمعية العامة، فهي منصرفة لشؤونها المنزلية والتربوية وما تقوم به في ساحة عملها الإسلامي مع النساء، لكنْ عندما انطلقت مسيرة الحسين (ع) وبرزتْ كربلاء، وجدنا دورها قد برز في كربلاء وما بعد كربلاء بشكل مباشر، كإنسانةٍ تُعبئ، وتطرح الأفكار بين الناس، وتُبرز أهداف ونتائج كربلاء، وتفضح الخصوم وتناقشهم وتتحداهم بجرأة كما حصل مع يزيد وابن زياد، ما يدلُّ على المطلوب من المرأة في أن تُحسن اختيار اللحظة المناسبة للقيام بالدور الذي لا يمكن أن يقوم به أحد غيرها، وليس المطلوب أن تكون دائماً في الموقع نفسه، لاعتبارات لها علاقة بظروفها من ناحية، وباحتياجات الساحة من ناحية أخرى، فلا نريد أن نفتعل موقفاً أو حضوراً للمرأة في أي موقعٍ كيفما كان، نريدها أن تكون في الموقع الذي يستلزم أن تكون فيه، وتستطيع أن تعطي فيه ما لا يستطيع أحدٌ أن يعطي فيه غيرها، ولنا في تربية وأداء السيدة الزهراء(عها) والسيدة زينب(عها) أسوة حسنة.
خامساً - تأمين الخلفية
تحتاج المقاومة إلى خلفية داعمة لها وراء الجبهة، فلا يكفي مجرد الاستعداد للقتال وتواجد المقاومين في الخطوط الأمامية، ولا نتعقَّل نجاح المقاومة إذا ما كانت مؤلفة من مجموعات مسلَّحة منقطعة عن مجتمعها. لذا كانت المقاومة الإسلامية تعمل دائماً على أساس أن الجبهة هي المظهر المباشر للمواجهة، ويتضمن ما خلفها كل أشكال الدعم الأخرى الثقافية والاجتماعية والتربوية والسياسية... وهذا ما ساهم في الانتصار. المجاهدون رمز الجهاد وتحقيق الانتصار، وكل ما في الجبهة الخلفية عوامل مساعدة ضرورية لنجاح المقاومين، فالجبهة الخلفية رصيد جهادي كبير، وتماسكها مع المجاهدين تحقق الأهداف بأعلى نتائج مثمرة. لقد ظنَّ العدو أنَّ مشكلته مع المسلحين فاكتشف بأنَّ مشكلته مع كل المجتمع بأطيافه المختلفة. لا يمكن التفكير بالمقاومة الناجحة بمعزلٍ عن الضمانات الاجتماعية للمجاهدين وعوائل الشهداء والجرحى، وكذلك بتوفير المستلزمات التربوية والصحية لهم، ومن الطبيعي أن تساعد البيئة الثقافية والتربوية في تقوية هذه الجبهة. إنَّ ساحتنا قوية بفضل هذا التواصل، فحالة التكافل الاجتماعي التي أُنشأت عبر المؤسسات المختلفة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الرصيد الجهادي، ولم تترك المقاومة الجوانب الحياتية محل الحاجة لعوائل المجاهدين والشهداء والناس، كي لا تشكِّل الثغرة الخلفية القاتلة التي تؤذي مسار الجهاد.
سادساً - الضعف قوة في مجاله
لسنا بحاجة للتقليد الأعمى والمشابهة للآخرين في محاولة إخراج المرأة بصورة استعراضية أو ملفتة للنظر، فالأمر ليس مميزاً على المستوى الجهادي، بعبارة أوضح، لم تلجأ المقاومة للتعبئة العسكرية للنساء، ولم تقم بجهد واسع له علاقة بالتدريب وتهيئة الأخوات للقتال المباشر. ربما كان هذا الأمر محل تساؤل داخلي وخارجي في آنٍ معاً، لكن القرار الذي اتخذته المقاومة في هذا الشأن، هو أنَّ عدد الشباب المستعدين للقتال يكفي لساحتنا بالنسبة لمساحتها ومتطلباتها، فلماذا نزج الأخوات في هذه المعركة؟؟ فلنترك الأخوات عامل احتياط للمواقف المناسبة والضرورة المناسبة، وهذا منسجمٌ مع التكليف الشرعي الذي يكلِّف الرجال بالقتال ولا يكلِّف النساء به. أبقت المقاومة العنوان النسائي المستخدم في المعركة قوياً من خلال قوة الحماية الخلفية التي يؤمنها المجاهدون، إضافة إلى دورهن في التعبير والتظاهر والدعم والموقف، وكلها أقوى من القوة العسكرية لدى المرأة. لا يجوز تعطيل القوة الذاتية الموجودة عند الأخوات في الضعف الإلهي الذي بثَّه فيهن، فدورهنَّ منسجم مع ما أودع الله فيهن، وهنَّ أنجح في الدور الإعلامي والثقافي والتعبوي والتربوي، ما يساعد على تحقيق الأهداف والنتائج التي لا يمكن تحقيقها بعسكرة أداء الأخوات، ما يدعونا إلى تجنب الدور العسكري المباشر لهنَّ، وبالفعل لاحظنا أن الدور النسائي في هذا الاتجاه كان دوراً مؤثراً سواءً في الجنوب أو البقاع الغربي أو القرى المحتلة، ولولا هذا التميُّز وهذه الخصوصية للمرأة لم يكن بالإمكان أن نحصل على هذا الدور المتكامل مع المقاتلين، لقد لمسنا ثمار هذا التكامل في الساحة بشكل عملي..
سابعاًً - الأنسنة والمسار الإسلامي
توصَّلت مسيرتنا الإسلامية الجهادية إلى تحويل الاهتمام النسائي من الشؤون الدنيوية المادية وما يستغله الغرب فيها إلى الاستقامة والحجاب والموقف، وهذا الأمر ليس سهلاً. هناك فرقٌ بين أن يكون الحجاب نتيجة تثقيفٍ ديني بحت، وبين أن يكون الحجاب نتيجة ارتباطٍ جهادي منطلق من الموقف الديني، فالالتزام الديني العادي أمرٌ تقليدي بشكل عام، ولكنَّ الأداء الجهادي يحمل تحدياً، إنَّه تحدٍ سياسي وتحدٍ جهادي وتحدٍ ثقافي. الحجاب اليوم أفضل بكثير منه قبل عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة، فهناك تحول شبابي على مستوى الأخوات باتجاه الحجاب، حيث أخرجن الحجاب من الدائرة التقليدية والأعراف الاجتماعية إلى الالتزام الذي يتحدى ويأخذ أبعاداً تتجاوز مجرَّد اللباس إلى الطاعة الهادفة، إنَّه لباسٌ يحمل كل معاني الجهاد والموقف والتضحية، وهذه نقطة مهمة في الاستفادة من القطاع النسائي لتوجيه الاهتمام باتجاه الالتزام والاستقامة في مقابل الإغواء وعيش الجسد.
كما استطاع حزب الله أن يخرج من دائرة التعلق بالعناوين الغربية التي تتحدث عن حقوق المرأة، فلم يكن بحاجة لاستعارة هذه العناوين والإستغراق في الحديث عنها، وهي مادة دائمة في الاستخدام الغربي بسبب عوامل تاريخية وظروف خاصة لديهم، بل انصرف إلى تكوين المنظومة الإسلامية في حياة المرأة بصرف النظر عن ردة الفعل على المنظومة الغربية، فلم يكن العمل النسائي يجيب عن أسئلة حقوق المرأة المطروحة في الغرب فقط، بل كان يعبِّر عن طبيعة نظرة الإسلام للمرأة، ويعطي النتائج المتوخاة كثمرة لهذا الالتزام، مع إمكانية الإجابة عن أي ملابسات من خلال المنظومة الكاملة للإسلام. فإذا استطاع في العمل النسائي أن يحلَّ هذين الاشكالين: إشكال النظرة الإغوائية للمرأة، وإشكال عناوين التحرر التي أصبحت ضاغطة كعناوين يطرحها الغرب، واستبدلهما بأنسنة المرأة بدل إبراز أنوثتها، واعتمد الإسلام كمسار تشريعي لحاجاتها ودورها، نكون قد حصلنا على إيمانٍ والتزامٍ إسلامي وسرنا في الطريق الصحيح.
ثامناً -المقاومة واجب
في الوقت الذي تُعد المقاومة عدتها وتوفِّر المقومات المادية اللازمة لها، لا تغفل في أية لحظة عن إيمانها بأنَّ النصر من عند الله تعالى، أمَّا متى؟ وكيف؟ وأين؟ فعلمه عند الله تعالى، وما علينا إلاَّ أن نقوم بتكليفنا وواجبنا في الدفاع عن الأرض ورفض الاستسلام، وقد ساعدت هذه الرؤية على الطمأنينة النفسية والروحية عند المجاهدين والمجاهدات، فلم يعد النصر هدفاً ولا الشهادة هدفاً، إنما الهدف هو القيام بالواجب سواء أدَّى إلى النصر أو الشهادة. عندما اتجهت المقاومة باتجاه الشهادة الكربلائية، ظن البعض بأنَّ الشهادة الكربلائية هي إطلاقٌ للإمكانات في دائرة الموت والقتل، وهذا أمرٌ خاطئ، فالشهادةُ الكربلائية قرارٌ والتزامٌ واستعدادٌ بسلوكِ هذا الطريق الذي يمكن أن يؤدي إلى الشهادة، ولا يُسأل سالكوه عمَّا بعد الشهادة طالما أن الشهادة توصِلُ لمرضاة الله تعالى، فإنْ لم تحصل الشهادة فالنصر هو النتيجة الطبيعية لهذا السلوك الجهادي. المقاومون لا يرمون بأنفسهم إلى التهلكة، ولا يذهبون إلى الجهاد من دون تخطيط وإعداد العدة والقيام باللازم، من هنا كان الأداء المقاوم أداءً حكيماً ومبرمجاً ومنظماً، وكانت التوجيهات السياسية لقيادة المقاومة توجيهات تأخذ بعين الاعتبار كل الظروف والمعطيات، وقد أُديرت المعارك المختلفة إدارة ناجحة وحكيمة، ولم تكن يوماً غوغائية، ما أدهش العالم. ظنُّوا بأنَّ المقاومة مندفعة إلى درجة التهوُّر وجرِّ الآخرين معها، فتبيَّن أنَّها مقاومةٌ مندفعة بشجاعة لكنْ بحكمة، وهي تعرف إلى أين ستصل، واندفاعتُها مقيدةٌ بانضباطٍ شرعي، وليست عشوائية، وهذا ما أثبتته التجربة في كل المتابعة العسكرية والثقافية والسياسية، ما جعل للمقاومة مكانة حقيقية عند الناس والعالم. وهي ليست جيشاً نظامياً بل مقاومة، تعمل بمبدأ الكرِّ والفرِّ، وليست على عجلة من أمرها لتحقيق إنجازاتٍ ميدانية، فهي تثابرُ لتحقق أهدافها بثبات، لتستمرَّ شعلةُ الجهاد، فتنتصر في اللحظة المناسبة التي تأتي بعد حين بإذن الله تعالى. إنَّ المطلوب استمرار شعلة الجهاد في فلسطين وفي كل موقع يتطلب ذلك، مهما تأخَّر وقتُ النصر، ومهما كانت التعقيدات، فإنَّ أصحاب الحق منصورون بإذن الله تعالى، قال تعالى:"وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ"(1). صدق الله العلي العظيم.
* ألقيت في الدورة الثانية لتأهيل الكاتبات في مشروع التأريخ لدور المرأة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بتاريخ 19/01/2003. 1- سورة الصافات، الآيات: 171-173.
- كلمة للشيخ نعيم قاسم في دورة لتأهيل الكاتبات أقامها مشروع التأريخ
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
هذا الجهد الكبير لمشروع التأريخ لدور المرأة ، في المقاومة والمواجهة والجهاد ، يُعتبر عملاً نبيلاً ومؤسِّساً ومهماً ، و نحن بحاجة في الواقع إلى تأريخ كل حركة المقاومة ، سواءً على مستوى أداء الأخوات أو الشباب أو الأطفال أو الحركة الاجتماعية بشكل عام، لأنَّ حجم التضحيات التي حصلت خلال فترة قصيرة من الزمن كانت كبيرة جداً بمقياس عطاءات الشعوب، وإذا ما قيست بالثُّلة القليلة من المجاهدين والمجاهدات التي واجهت تحدياتٍ خطيرة، وحقَّقت إنجازاتٍ وانتصارات ما كانت لتحصل لولا تسديد الله جل وعلا. سأحاول مع الأخوات الكاتبات والمهتمات بهذا الشأن، أن أستعرض مجموعة من النقاط التي أعتبرها مفيدة في إطار هذا اللقاء الذي ينعقد بطريقة متخصِّصة.
أولا - التفاعل مع الشهادة استطاعت الأخت والأم والزوجة والبنت أن تقدِّم نموذجاً مهماً في تلقِّي معنى الشهادة، وهذه ميزةٌ يجب التركيز عليها، فالمعروف بأنَّ عاطفة الأمومة والأخوة والبنوة والزوجية غالبة بشكل عام، وخاصة في مجتمعاتنا، إلى درجةٍ تمنع الرجال عادة من الإقبال على الجهاد والتضحية، بحيث تشكِّل هذه العاطفة عائقاً في الإقدام على العمل الجهادي. لكن ما رأيناه في ساحتنا الجنوبية وفي كل المناطق اللبنانية التي شاركت ورفدت المقاومة وقدَّمت لها، أنَّ هذه العاطفة تألَّقت بالإيمان بالله تعالى فكانت أقوى من العاطفة الشخصية، وعلى الرغم من آلام تضحيات الأحبة، فقد سيطرت الأمهات والزوجات والأخوات والبنات على مشاعرهن، وأبرزت الافتخار بعطاءات الأبناء والأزواج والأخوة، وهذا مالم يكن مألوفاً على مستوى الواقع، ولذا كان موقف النساء في تلقِّي أخبار الشهادة مفاجئاً وعظيماً. حتى لو افترضنا أن تتعالى المرأة على الجراحات على المستوى النظري، لكنَّ العبرة في التطبيق العملي، فكم من نظرياتٍ قيلت ثم وجدنا أنها لم تؤثِّر مباشرة في القلوب والنفوس. ولا أخفيكن أنَّه في الأيام الأولى لسقوط الشهداء، كنَّا نفكِّر كيف ندخل إلى العائلات؟ وكيف نتحدَّث معهم ونُخبرهم بشهادة ولدهم؟ لكنَّ المفاجأة الكبرى أنَّ ردات الفعل الأولى كانت عظيمة و إيجابية اكثر مما كنَّا نتوقع. فهذه الأم التي كانوا يقولون عنها بأنَّها لا تتحمَّل، وعندها مرضٌ في القلب، وعندها ضغط مرتفع، ويمكن أن تصاب بنكسةٍ كبيرة، ولا تتصوَّر أن تخسر ولدها، كأنها شُحنت بطاقةٍ جديدة وإضافية عند شهادة ولدها، فصرخت مزغردةً مفتخرةً صامدةً وصابرة، ما يعني أنَّ كثرة التهويل بضعفها في مواجهة التحديات لا ينسجم مع روحيتها العالية في موقع المقاومة والكرامة والعزة، فهي تعيش بشهادة ولدها طمأنينةً لمساهمتها في هذا الخط، وهنا تنتقل حالتها من القلق والرعب والخوف إلى قوة إضافية واستثنائية ومعنوية تساعدها على التعاطي مع الشهادة، وهذه نقطة إيجابية وموثِّرة تسجَّل لأمهاتنا وأخواتنا بشكل عام، وقد أعطت دفعاً معنوياً للأخوة المجاهدين وللمسيرة بشكل عام. لم يكن هذا الاستنتاج استنتاجاً نظرياً بل كان استنتاجاً عملياً ، رأيناه من خلال التطبيق الواقعي، وصدرت تصريحات من بعض الأمهات والأخوات في وسائل الأعلام، لم تكن مُنسَّقة ولا مُعدَّة سلفاً، عبَّرت عن عمق الإيمان الحقيقي في نفوسهنَّ، وعن مستوى التفاعل مع مسيرة الجهاد والمقاومة، وهذا ما يجب أن نسلِّط الضوء عليه لإبراز هذه النماذج التربوية العظيمة.
ثانياً- مشاركة المرأة في المقاومة
شاركت بعض الأخوات والأمهات في الدعم غير المباشر للمجاهدين، سواءً حصل ذلك بإيوائهم، أو التَّستر عليهم، أو توفير المواد التموينية لهم، أو نقل الأخبار النافعة للمقاومة، أو غير ذلك مما يعتبر مساهمةً أو حمايةً للعمل المقاوم. ولا يصحُّ الاستهانة بهذا المستوى من التفاعل، لأنَّه يوفر البيئة المؤاتية لنجاح العمل، وفي هذا المجال تدخل بعض الأعمال الحساسة التي تقترب من المشاركة شبه الفعلية في العمل الجهادي. وعلى الرغم من عدم شمولية هذه المشاركة للكثير من الأخوات والأمهات، لكنَّ النموذج معبِّر، حيث كانت تتمُّ الأمور بحسب الحاجة الميدانية، ولم يكن هدف المقاومة زجُّ الأخوات في المعركة إلاَّ عند الضرورة، وبالمقدار الذي لم يصل إلى مستوى استخدام السلاح والقتال المباشر، نظراً للضوابط الشرعية التي لم تكلِّف المرأة بالقتال، وعدم وجود الضرورة لمشاركتها بحسب طبيعة المقاومة وتوَفُّر العدد الكافي من الشباب، وحمايةً للأخوات من أن يتعرض العدو لهنَّ. مع ذلك فقد اعتقل العدو الإسرائيلي وعملاؤه بعض الأخوات والأمهات، ووضعهن في سجن الخيام لفترة طويلة من الزمن، ومارس بحقهن أشكالاً من التعذيب الجسدي والنفسي، وهذا ما يُسجَّل للمرأة المقاوِمة في تاريخ الجهاد كعلامةٍ مضيئةٍ ساهمت في التحرير والنصر.
ثالثاً - التعبئة
أوجدت التعبئة الثقافية والجهادية والسياسية عند الأخوات نموذجاً حيوياً متفاعلاً في ساحتنا، فلم نعد أمام انفصامٍ في المجتمع بين من يهتم بالمقاومة ومن يتفرج عليها أو لا تعنيه شؤونها وما يرتبط بها، بل أصبحنا أمام حالةٍ متكاملة في الساحة السياسية بين جميع أفراد هذه الساحة من الرجال والنساء، فالشباب معنيون بالجهاد العسكري، والأخوات معنيات بالجهاد ودوافعه وآثاره أيضاً، بمعنىً آخر: كان العمل يستهدف بناء مجتمع المقاومة، وقد تحقَّقت خطواتٌ مهمة في هذا الاتجاه، وقد لاحظ المراقبون هذا الأمر من خلال الاندفاعة القوية للشباب نحو الجهاد، وقناعةِ الأخوات بتكليفهن الشرعي في دعم هذا التوجه وفي تربية الأطفال والشباب عليه. هذه التعبئة هي من آثار جهاد الإمام الحسين(ع) وجهاد السيدة زينب(عها)، فالمجالس التي تنعقد لإحياء عاشوراء تغرس هذه الروحية في المؤمنين والمؤمنات، وتبني قاعدةً ثقافية وجهادية صلبة وواعية، ما يؤدي إلى الالتزام بالقيادة الشرعية التي تعمل في هذا الاتجاه. كما أن أخواتنا يمتلكن الوعي الكافي للمشاركة السياسية التي تستلزم فهم طبيعة الخطر الإسرائيلي ومستلزمات مواجهته، وحجم الضغط الدولي علينا لمصلحة العدو، وذلك من خلال وجود أخواتنا في الميدان، ومشاركتهن في المسيرات، وحضورهن في الندوات والمحاضرات ومجالس تأبين الشهداء... كلها مظاهرُ تأييدٍ ودعم ومناصرة وحضور. وهي ليست مشاركةً سطحية أو تقليدية، بل هي مشاركة واعية وهادفة. لقد استطاع حزب الله تخطِّي الحواجز التي سبَّبت الفصل الحاد بين دور الرجل ودور المرأة على الأصعدة السياسية والجهادية والاجتماعية، وأوجد شراكةً فعلية في الهم، وأخرج المرأة من دائرة التقوقع والانعزال والانحصار المنزلي إلى دائرة التأثير في البنية المجتمعية النهضوية للمقاومة. أصبحنا أمام نساء يتَّخذن المواقف السياسية ويدافِعْن عنها، ويترصَّدن أخبار المقاومة والانتفاضة، ويراقِبْن تأثير الحركة الدولية على وضعنا، ويعْملنَ للمساهمة في بناء المجتمع المقاوم. إنَّها حالة تكاملية تستثمر الطاقات الفاعلة للنساء في المجتمع.
رابعاً - المسؤولية والدور
نؤكد على مسؤولية المرأة في أن تكون جزءاً من العمل الجهادي، ليس بطريقة استعراضية وإنما بطريقه واقعية، وهذه النظرة تستلزم أن يبرز دورها حيث يستلزم الأمر ذلك، فتكون مهيَّأة ومعبَّأة لتقوم بدورها المناسب في التوقيت والزمان المناسبين، والمثالان المعبِّران على هذا الطرح وهذه الرؤيا ما حصل مع السيدة الزهراء(ع) والسيدة زينب(ع). كنَّا نقرأ في السيرة بأنَّ السيدة الزهراء كانت تعلِّم النساء، وتُسأل في المسائل الشرعية فتجيب، ولم نتعرَّف على السيدة الزهراء(ع) كصاحبة موقف سياسي بارز إلا بعد وفاة الرسول(ص)، عندما استلزم الأمر أن تقف في المسجد بين المسلمين لتخطب خطبتها المشهورة وتعبِّر عن الحق والموقف الإسلامي وموقفها من التطورات، فلم نرَ السيدة الزهراء(ع ) بارزة في مثل هذا الموقف قبل وفاة الرسول(ص )، بل كانت تؤدي دورها وتكليفها في مواقع التعبئة والتربية والتوجيه، وعند بروزها في هذا الموقف، لم يكن بالإمكان أن يقوم أحدٌ مقامها، وبالتالي إن لم تقف هي فسيخسر الإسلام موقفاً سياسياً في هذه المحطة وفي هذا المنعطف. أمَّا السيدة زينب(ع)، فيكاد يكون تاريخها عادياً في الإطلالة المجتمعية العامة، فهي منصرفة لشؤونها المنزلية والتربوية وما تقوم به في ساحة عملها الإسلامي مع النساء، لكنْ عندما انطلقت مسيرة الحسين (ع) وبرزتْ كربلاء، وجدنا دورها قد برز في كربلاء وما بعد كربلاء بشكل مباشر، كإنسانةٍ تُعبئ، وتطرح الأفكار بين الناس، وتُبرز أهداف ونتائج كربلاء، وتفضح الخصوم وتناقشهم وتتحداهم بجرأة كما حصل مع يزيد وابن زياد، ما يدلُّ على المطلوب من المرأة في أن تُحسن اختيار اللحظة المناسبة للقيام بالدور الذي لا يمكن أن يقوم به أحد غيرها، وليس المطلوب أن تكون دائماً في الموقع نفسه، لاعتبارات لها علاقة بظروفها من ناحية، وباحتياجات الساحة من ناحية أخرى، فلا نريد أن نفتعل موقفاً أو حضوراً للمرأة في أي موقعٍ كيفما كان، نريدها أن تكون في الموقع الذي يستلزم أن تكون فيه، وتستطيع أن تعطي فيه ما لا يستطيع أحدٌ أن يعطي فيه غيرها، ولنا في تربية وأداء السيدة الزهراء(عها) والسيدة زينب(عها) أسوة حسنة.
خامساً - تأمين الخلفية
تحتاج المقاومة إلى خلفية داعمة لها وراء الجبهة، فلا يكفي مجرد الاستعداد للقتال وتواجد المقاومين في الخطوط الأمامية، ولا نتعقَّل نجاح المقاومة إذا ما كانت مؤلفة من مجموعات مسلَّحة منقطعة عن مجتمعها. لذا كانت المقاومة الإسلامية تعمل دائماً على أساس أن الجبهة هي المظهر المباشر للمواجهة، ويتضمن ما خلفها كل أشكال الدعم الأخرى الثقافية والاجتماعية والتربوية والسياسية... وهذا ما ساهم في الانتصار. المجاهدون رمز الجهاد وتحقيق الانتصار، وكل ما في الجبهة الخلفية عوامل مساعدة ضرورية لنجاح المقاومين، فالجبهة الخلفية رصيد جهادي كبير، وتماسكها مع المجاهدين تحقق الأهداف بأعلى نتائج مثمرة. لقد ظنَّ العدو أنَّ مشكلته مع المسلحين فاكتشف بأنَّ مشكلته مع كل المجتمع بأطيافه المختلفة. لا يمكن التفكير بالمقاومة الناجحة بمعزلٍ عن الضمانات الاجتماعية للمجاهدين وعوائل الشهداء والجرحى، وكذلك بتوفير المستلزمات التربوية والصحية لهم، ومن الطبيعي أن تساعد البيئة الثقافية والتربوية في تقوية هذه الجبهة. إنَّ ساحتنا قوية بفضل هذا التواصل، فحالة التكافل الاجتماعي التي أُنشأت عبر المؤسسات المختلفة أصبحت جزءاً لا يتجزأ من الرصيد الجهادي، ولم تترك المقاومة الجوانب الحياتية محل الحاجة لعوائل المجاهدين والشهداء والناس، كي لا تشكِّل الثغرة الخلفية القاتلة التي تؤذي مسار الجهاد.
سادساً - الضعف قوة في مجاله
لسنا بحاجة للتقليد الأعمى والمشابهة للآخرين في محاولة إخراج المرأة بصورة استعراضية أو ملفتة للنظر، فالأمر ليس مميزاً على المستوى الجهادي، بعبارة أوضح، لم تلجأ المقاومة للتعبئة العسكرية للنساء، ولم تقم بجهد واسع له علاقة بالتدريب وتهيئة الأخوات للقتال المباشر. ربما كان هذا الأمر محل تساؤل داخلي وخارجي في آنٍ معاً، لكن القرار الذي اتخذته المقاومة في هذا الشأن، هو أنَّ عدد الشباب المستعدين للقتال يكفي لساحتنا بالنسبة لمساحتها ومتطلباتها، فلماذا نزج الأخوات في هذه المعركة؟؟ فلنترك الأخوات عامل احتياط للمواقف المناسبة والضرورة المناسبة، وهذا منسجمٌ مع التكليف الشرعي الذي يكلِّف الرجال بالقتال ولا يكلِّف النساء به. أبقت المقاومة العنوان النسائي المستخدم في المعركة قوياً من خلال قوة الحماية الخلفية التي يؤمنها المجاهدون، إضافة إلى دورهن في التعبير والتظاهر والدعم والموقف، وكلها أقوى من القوة العسكرية لدى المرأة. لا يجوز تعطيل القوة الذاتية الموجودة عند الأخوات في الضعف الإلهي الذي بثَّه فيهن، فدورهنَّ منسجم مع ما أودع الله فيهن، وهنَّ أنجح في الدور الإعلامي والثقافي والتعبوي والتربوي، ما يساعد على تحقيق الأهداف والنتائج التي لا يمكن تحقيقها بعسكرة أداء الأخوات، ما يدعونا إلى تجنب الدور العسكري المباشر لهنَّ، وبالفعل لاحظنا أن الدور النسائي في هذا الاتجاه كان دوراً مؤثراً سواءً في الجنوب أو البقاع الغربي أو القرى المحتلة، ولولا هذا التميُّز وهذه الخصوصية للمرأة لم يكن بالإمكان أن نحصل على هذا الدور المتكامل مع المقاتلين، لقد لمسنا ثمار هذا التكامل في الساحة بشكل عملي..
سابعاًً - الأنسنة والمسار الإسلامي
توصَّلت مسيرتنا الإسلامية الجهادية إلى تحويل الاهتمام النسائي من الشؤون الدنيوية المادية وما يستغله الغرب فيها إلى الاستقامة والحجاب والموقف، وهذا الأمر ليس سهلاً. هناك فرقٌ بين أن يكون الحجاب نتيجة تثقيفٍ ديني بحت، وبين أن يكون الحجاب نتيجة ارتباطٍ جهادي منطلق من الموقف الديني، فالالتزام الديني العادي أمرٌ تقليدي بشكل عام، ولكنَّ الأداء الجهادي يحمل تحدياً، إنَّه تحدٍ سياسي وتحدٍ جهادي وتحدٍ ثقافي. الحجاب اليوم أفضل بكثير منه قبل عشرين أو ثلاثين أو أربعين سنة، فهناك تحول شبابي على مستوى الأخوات باتجاه الحجاب، حيث أخرجن الحجاب من الدائرة التقليدية والأعراف الاجتماعية إلى الالتزام الذي يتحدى ويأخذ أبعاداً تتجاوز مجرَّد اللباس إلى الطاعة الهادفة، إنَّه لباسٌ يحمل كل معاني الجهاد والموقف والتضحية، وهذه نقطة مهمة في الاستفادة من القطاع النسائي لتوجيه الاهتمام باتجاه الالتزام والاستقامة في مقابل الإغواء وعيش الجسد.
كما استطاع حزب الله أن يخرج من دائرة التعلق بالعناوين الغربية التي تتحدث عن حقوق المرأة، فلم يكن بحاجة لاستعارة هذه العناوين والإستغراق في الحديث عنها، وهي مادة دائمة في الاستخدام الغربي بسبب عوامل تاريخية وظروف خاصة لديهم، بل انصرف إلى تكوين المنظومة الإسلامية في حياة المرأة بصرف النظر عن ردة الفعل على المنظومة الغربية، فلم يكن العمل النسائي يجيب عن أسئلة حقوق المرأة المطروحة في الغرب فقط، بل كان يعبِّر عن طبيعة نظرة الإسلام للمرأة، ويعطي النتائج المتوخاة كثمرة لهذا الالتزام، مع إمكانية الإجابة عن أي ملابسات من خلال المنظومة الكاملة للإسلام. فإذا استطاع في العمل النسائي أن يحلَّ هذين الاشكالين: إشكال النظرة الإغوائية للمرأة، وإشكال عناوين التحرر التي أصبحت ضاغطة كعناوين يطرحها الغرب، واستبدلهما بأنسنة المرأة بدل إبراز أنوثتها، واعتمد الإسلام كمسار تشريعي لحاجاتها ودورها، نكون قد حصلنا على إيمانٍ والتزامٍ إسلامي وسرنا في الطريق الصحيح.
ثامناً -المقاومة واجب
في الوقت الذي تُعد المقاومة عدتها وتوفِّر المقومات المادية اللازمة لها، لا تغفل في أية لحظة عن إيمانها بأنَّ النصر من عند الله تعالى، أمَّا متى؟ وكيف؟ وأين؟ فعلمه عند الله تعالى، وما علينا إلاَّ أن نقوم بتكليفنا وواجبنا في الدفاع عن الأرض ورفض الاستسلام، وقد ساعدت هذه الرؤية على الطمأنينة النفسية والروحية عند المجاهدين والمجاهدات، فلم يعد النصر هدفاً ولا الشهادة هدفاً، إنما الهدف هو القيام بالواجب سواء أدَّى إلى النصر أو الشهادة. عندما اتجهت المقاومة باتجاه الشهادة الكربلائية، ظن البعض بأنَّ الشهادة الكربلائية هي إطلاقٌ للإمكانات في دائرة الموت والقتل، وهذا أمرٌ خاطئ، فالشهادةُ الكربلائية قرارٌ والتزامٌ واستعدادٌ بسلوكِ هذا الطريق الذي يمكن أن يؤدي إلى الشهادة، ولا يُسأل سالكوه عمَّا بعد الشهادة طالما أن الشهادة توصِلُ لمرضاة الله تعالى، فإنْ لم تحصل الشهادة فالنصر هو النتيجة الطبيعية لهذا السلوك الجهادي. المقاومون لا يرمون بأنفسهم إلى التهلكة، ولا يذهبون إلى الجهاد من دون تخطيط وإعداد العدة والقيام باللازم، من هنا كان الأداء المقاوم أداءً حكيماً ومبرمجاً ومنظماً، وكانت التوجيهات السياسية لقيادة المقاومة توجيهات تأخذ بعين الاعتبار كل الظروف والمعطيات، وقد أُديرت المعارك المختلفة إدارة ناجحة وحكيمة، ولم تكن يوماً غوغائية، ما أدهش العالم. ظنُّوا بأنَّ المقاومة مندفعة إلى درجة التهوُّر وجرِّ الآخرين معها، فتبيَّن أنَّها مقاومةٌ مندفعة بشجاعة لكنْ بحكمة، وهي تعرف إلى أين ستصل، واندفاعتُها مقيدةٌ بانضباطٍ شرعي، وليست عشوائية، وهذا ما أثبتته التجربة في كل المتابعة العسكرية والثقافية والسياسية، ما جعل للمقاومة مكانة حقيقية عند الناس والعالم. وهي ليست جيشاً نظامياً بل مقاومة، تعمل بمبدأ الكرِّ والفرِّ، وليست على عجلة من أمرها لتحقيق إنجازاتٍ ميدانية، فهي تثابرُ لتحقق أهدافها بثبات، لتستمرَّ شعلةُ الجهاد، فتنتصر في اللحظة المناسبة التي تأتي بعد حين بإذن الله تعالى. إنَّ المطلوب استمرار شعلة الجهاد في فلسطين وفي كل موقع يتطلب ذلك، مهما تأخَّر وقتُ النصر، ومهما كانت التعقيدات، فإنَّ أصحاب الحق منصورون بإذن الله تعالى، قال تعالى:"وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ* إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ* وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ"(1). صدق الله العلي العظيم.
* ألقيت في الدورة الثانية لتأهيل الكاتبات في مشروع التأريخ لدور المرأة في مقاومة الاحتلال الإسرائيلي، وذلك بتاريخ 19/01/2003. 1- سورة الصافات، الآيات: 171-173.
اترك تعليق