مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

والدة الشهيد فضل الله داوود إبراهيم

والدة الشهيد فضل الله داوود إبراهيم

تستفيق الجبال على وشوشات الرجال في الصباحات، وعلى حرارة أقدامهم المنغرسة حتى الذوبان، وتكاد لا تميز نور الصباح من نور جباههم، وكأنهم بدور أبت الافول، ولئن استشهدوا تبقى دماؤهم تنير الدروب.
تعرفهم من عيونهم التي تشي بما فاض الفؤاد من حب وعشق للرحيل، يلونون الحاضر والمستقبل بألوان الربيع الزاهية كقلوبهم، لا يموتون بل هم الحياة.. هم امتداد الحق في هذه الدنيا..
واليوم قد استضافنا الشهيد فضل الله داوود إبراهيم في عالمه الخاص، حيث سنتعرف على البعض من القصص عن حياة هذا الشهيد من خلال مقابلة أجريت مع والدة الشهيد.
الشهيد فضل الله هو من مواليد بلدة بنت جبيل، بزغ نور محياه في تشرين من العام 1968، وهو الولد الأول للعائلة.
ومع بدايات تشكل شخصية هذا الفتى، برزت ملامح الرجولة في تصرفاته. وفي حديث مع الوالدة أشارت إلى هذه الميزة فيه منذ الصغر، حيث قالت: إن "فضل الله" كان قد بلغ من العمر أربع سنوات حين رزقها الله بأخيه الأصغر، وفي يوم اضطرت لتلبية دعوة اجتماعية فعرض عليها فضل الله بسنواته الأربع أن يعتني بأخيه لحين عودتها فيطعمه ويهتم به.
تضيف الوالدة: "كنت أتخذ ابني "فضل الله" صديقاً لي، لقد وقف إلى جانبي في مسؤوليات عديدة وعمره لا يتجاوز السنوات الأربع.. اعتمدت عليه في شراء بعض الحاجيات، وأذكرُ أنه في إحدى المرات أرسلته لشراء اللحمة وكتبت ما أريد على ورقة وأرسلتها معه، والملفت انه كان يستعجل اللحام حتى لا يتأخر عليّ خوفاً من أن أظن أنه يلهو مع رفاقه في الشارع حتى لا  تهتز صورته أمامي، ومن شدة إعجاب اللحام بوعيه صار يؤخره ليستمع إلى عباراته الواعية".
وسنة بعد سنة أصبح فضل الله يمتاز بوعيه الشديد بين أقرانه حتى أنه في إحدى المرات ذهب لرمي النفايات، كما تقول الوالدة، فتأخر نزلت للسؤال عنه فقال لها أحدهم أنه رمى النفايات وإثر عودته التقى بمجموعة من الشباب الذين يكبرونه سناً يسيرون في تظاهرة حول غلاء المعيشة والوضع الاقتصادي فما كان منه إلا أن ذهب مع المتظاهرين وأخذ يهتف بهتافاتهم، وكان عمره لا يتجاوز الخمس سنوات.. فانتظرته والدته في الشارع وعندما وصل قال لها: "أرجوك لا تضربيني.."، عندها أحست الوالدة بالوعي المبكر لولدها، وأن به شيئاً مختلفاً عن باقي أبناء سنه.
عرف الشهيد فضل الله بأخلاقه الحميدة، وامتاز بين الناس بحيويته وقدرته على مجاراة من يكبرونه سناً، وفي المدرسة كان تلميذاً مجداً، واستمر في تعليمه بالرغم من عمله الجهادي إلى حين استشهاده.
تصف الوالدة طفولة "فضل الله" بالشقاوة الممزوجة بالوعي والذكاء، وهذا لا ينفي تدينه والتزامه المبكرين، فكان يصلي ويقوم بواجباته الدينية منذ سن التكليف، وكان يحب صيام المستحب ولا يأكل طعام الإفطار إلا مع إخوته فهو لا يحب الأكل دونهم. وقد أثر فضل الله بأخوته كثيراً، فكانوا يراقبونه ويقلدون أفعاله، وفي مرة لاحظوا عليه أنه يتوضأ قبل الخروج من المنزل واليوم لا يخرج أحدهم من البيت دون وضوء.
وكانت انطلاقة "فضل الله" من المسجد، ففي البداية كان يبادر إلى تنظيفه والعناية به، بعدها بدأ يقوم بتجميع الأولاد حوله وتثقيفهم وتوعيتهم دينياً، في الوقت الذي استلم فيه مكتبة المسجد، وكان يقوم بتسجيل أشرطة قرآنية ويبيعها في الأسواق دعماً للمسجد.
اهتم الشهيد كثيراً بالفقراء وكان لا يحلو له طعام أو شراب وهناك جائع أو محروم، ويأكل فتات الخبز قائلاً لوالدته أن هذا الفتات هناك أناس لا يجدونه، مع العلم أن عائلته كانت ميسورة مادياً وكانوا يلقبونه بـ"ابن الدلال"، أما هو فعيشه بسيط ولا يحب المظاهر والترف، وتقول الوالدة إنهم عندما سكنوا في بيروت في محلة بئر العبد، كان ناطور المبنى فقيراً جداً لا يملك أي شيء من حاجيات المنزل، فما كان من فضل الله إلا أن طلب من والدته أن تكتب له لائحة بحاجيات المنزل وفعلاً ذهب واشترى هذه الحاجيات دون إخبارها بالأمر، كما أمن له الفرش والبطانيات، وكان الناطور قد دعاه إلى شرب الشاي فلبى دعوته بكل تواضع وأخذ معه المؤونه والأغراض. وتذكر الوالدة أن الناطور تأثر باستشهاده كثيراً وصار يوزع الشاي في الشارع عن روحه.
أما بالنسبة لعمل فضل الله الجهادي فقد نجح في المحافظة على سريته وساعده وضعهم المادي الميسور ي هذا الأمر، فكان يخفي عن والدته أمور عمله، وإذا ما اضطر غياب يومين يقول لها أنه ذاهب إلى بيت خاله، لكنها كانت تحس بأنه منخرط في هذا الخط لشدة اهتمامه بأمر الإسلام والمجاهدين، وتأثره باستشهاد الإخوة في المقاومة، وعلمت بعد شهادته انه كان مدرباً وكان يساهم بالأموال التي تعطيه إياها والدته للمقاومة ولا يأخذ أي شيء من أموال العمل.
شارك الشهيد فضل الله في عملية القنطرة وعملية علمان والشومرية التي استشهد فيها، فبعد عودته من عملية القنطرة طلب إليه المشاركة في عملية الشومرية، فذهب ولكنه أحس بأن والدته ليست بخير لأنها متعلقة كثيراً به، فهي وبالرغم من انه كان في الثامنة عشر من العمر إلا أنها كانت لا تنام حتى تطمئن انه نام قبلها، فكان يطفئ نور غرفته حتى تذهب أمه للنوم، وبعدها يقوم هو للعبادة وليصلي صلاة الليل وقراءة القرآن والدعاء بصوته الجميل.
استشهد فضل الله في عملية علمان الشومرية، وهي واحدة من اكبر الهجمات على القوات الإسرائيلية في لبنان، حيث قامت مجموعة من المجاهدين باقتحام موقعين للعدو، تلة علمان وهو موقع شديد الوعورة والتحصينات، وموقع الشومرية الذي يبعد حوالي 400 متر عن علمان وتمكنت المجموعة من احتلال الموقعين وتطهيرهما وقتل عدد من الجنود والعملاء، وتدمير آليات ودبابات للعدو.
تقول الوالدة عن تلقّيها خبر الاستشهاد بأنّها تأثّرَت كثيراً كما باقي الأُمّهات، ولكن المفاجئ هو الموقف الذي وقفته في تلك الأيّام العصيبة فتقول أنّ الله سبحانه وتعالى، وبفضل دماء الشهيد ودعاءه لها بالتصبر وبفضل السيدة الزهراء(ع) عندما استنجدت بها استطاعت أن تكون من الصّابرين، وطلبت من كل الموجودين عدم الصراخ على ولدها لأنه لا يحب ذلك، وكان يوصيها بطريقة غير مباشرة بعدم الصراخ والنحيب فوق رأسه لأن هذه الأمور تزعج الشهيد. وقالت: "ولدي كان مدللاً،  ....  وما يقال عن الشبان أنهم يلجأون للشهادة بسبب الفقر هذا كلام المفلسين، فنحن عائلة ميسورة وكنت اشتري لابني اجمل وارتب الثياب وأعطيه مصروفاً يزيد عن حاجته، لكنه ترك كل هذه المظاهر والتحق بالخط الذي وجد فيه رضا الله سبحانه وتعالى"، وتضيف الوالدة: "أنا أردتُ أن أقف موقف عزٍّ وفخر لأنّني أردت أن أكرّم إبني بشهادته كما كرمني بشفاعة السيدة الزهراء عليها السلام، وكانت شهادته في أول يوم من شهر رمضان المبارك، فقمت بإعداد الإفطارات اليومية بنفسي وأدعو الناس بمناسبة استشهاد ولدي، وأقدم الحلوى، وأوصي على قالب حلوى عليه صورة الشهيد، ثمّ أوزعه على الحاضرين والمعزّين".
وتختم والدة الشهيد: "الشهيد منذ ولادته ومن أوّل صرخة في صوته حتّى لحظة استشهاده لا يزال أمامي فالأمّ لا تنسى، وكيف أنسى وقد ترك لي رسالة قبل استشهاده يقول فيها: "كم كنتُ أتمنّى أن أبقى في حضنكِ إلاّ أنّ صوت الحسين يناديني".. اللهم انصر المجاهدين، وروحنا فداء للإمام الحسين(ع) والسيدة الزهراء(ع)، فالشهيد أثناء العملية قد نادى: "يا جدّي يا رسول الله"، ونحن مهما فعلنا لسنا بشيء أمام أهل البيت عليهم السلام، ونحن نواسيهم واسأل الله أن يتقبّل منّي هذا القربان وإنشاء الله يكون شفيعي. اللهم انصر المقاومة الإسلامية واحمِ المجاهدين والسيد حسن نصر الله واحمِ السيد القائد وجميع المؤمنين وكل من هو على خطّ الإسلام، واهزم أميركا وإسرائيل..."



المصدر: إرث الشهادة.

التعليقات (0)

اترك تعليق