مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

 السيدة فاطمة الزهراء (ع)-  من كتاب إنسان بعمر 250 سنة

السيدة فاطمة الزهراء عليهاالسلام- من كتاب إنسان بعمر 250 سنة للإمام السيد علي الخامنئي


المكانة المعنوية للزهراء عليها السلام

الصابرة الممتحنة

إنّ فيوضات السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام لا تنحصر بمجموعة صغيرة تُحسب كمجموعة محدودة في مقابل مجموعة الإنسانية. لو أنّنا نظرنا بنظرة واقعية ومنطقية، فإنّ البشرية مرهونة لفاطمة الزهراء عليها السلام ، وليس هذا جزافاً، إنّها حقيقة، كما أنّ البشرية مرهونة للإسلام والقرآن ولتعاليم الأنبياء عليهم السلام والنبيّ الخاتم صلى الله عليه وآله وسلم. وقد كان هذا الأمر دوماً على مرّ التاريخ وهو اليوم كذلك، وسوف يزداد تألّق نور الإسلام فاطمة الزهراء وسوف تتلمّس البشرية ذلك. ما لدينا من تكليف ووظيفة في هذا المجال، هو أن نجعل أنفسنا لائقين للانتساب إلى هذه العترة. وبالطبع إنّ الانتساب لعترة الرسالة وأن نكون من جملة التابعين لهم والمعروفين بولايتهم أمرٌ صعبٌ، حيث نقرأ في الزيارة أنّنا أصبحنا معروفين بمحبّتكم، وهذا ما يلقي على كاهلنا تكليفاً مضاعفاً.

إنّ هذا الخير الكثير الّذي أعطاه الله تعالى في سورة الكوثر المباركة كبشارة للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم وقال «إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ»1، حيث إنّ تأويله هو فاطمة الزهراء عليها السلام ، في الحقيقة هو مجمع جميع الخيرات الّذي سوف ينزل يوماً بعد يوم من منبع الدين النبويّ على كلّ البشرية والخلائق. لقد سعى الكثيرون من أجل إخفائه وإنكاره ولكنّهم لم يتمكّنوا «وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ»2.
يجب علينا أن نقرّب أنفسنا إلى مركز النّور هذا، وإنّ لازم وخاصية هذا التقرّب هو التنوّر. يجب علينا أن نصبح نورانيّين من خلال العمل، لا بواسطة المحبّة الفارغة، العمل الّذي تمليه علينا هذه المحبّة وتلك الولاية وذاك الإيمان ويطلبه منّا، بهذا العمل يجب أن نصبح من هذه العترة والمتعلّقين بها. ليس من السهل أبداً أن يصير المرء قنبراً في بيت عليّ عليه السلام ، ليس من السهل أن يصبح الإنسان "سلمان منّا أهل البيت"3. نحن مجتمع الموالين وشيعة أهل البيت عليهم السلام نتوقّع من هؤلاء العظماء أن يعتبروننا منهم ومن حاشيتهم. "فلانٌ من ساكني تربة عتباتنا"، قلوبنا تريد أن يحكم علينا أهل البيت بهذه الطريقة وليس هذا الأمر سهلاً، ولا يحصل بمجرّد الادّعاء. إنّ هذا يستلزم العمل والإيثار والتشبّه والتخلّق بأخلاقهم.
انظروا إلى هذه السيدة الجليلة في أيّ سنٍّ حازت على كلّ هذه الفضائل، في أيّ عمرٍ برزت فيها كلّ هذه التألّقات، في عمرٍ قصير لم يتجاوز 18 سنة، 20 سنة، 25 سنة بحسب اختلاف الروايات. وكلّ هذه الفضائل لا تحصل عبثاً، "امتحنك الله الّذي خلقك قبل أن يخلقك، فوجدك لما امتحنك صابرة"4، فإنّ الله تعالى قد امتحن زهراء الطهر، وهي المصطفاة من عباده. إنّ النظام الإلهيّ هو نظام يعتمد على الحساب والكتاب، وما يمنحنا إيّاه إنّما يكون محسوباً بدقّة. إنّه يعدّ كلّ هذا الإيثار والمعرفة والتضحية الخاصّة (وهي من عبيده الخواص)، في سبيل الأهداف الإلهيّة، لذلك جعلها مركز فيوضاته.(05/10/1370)

في رواية أن سطوع نور فاطمة الزهراء عليها السلام أدّى إلى أن تنبهر عيون الكروبيين من الملأ الأعلى، "زهر نورها لملائكة السماء"5. فماذا نستفيد نحن من هذا النور والسطوع؟ يجب علينا الاهتداء بهذا النجم الساطع إلى الله وإلى طريق العبودية الّذي هو الصراط المستقيم، الّذي سلكته فاطمة الزهراء عليها السلام ، فوصلت إلى تلك المدارج والمقامات العالية. وإن جعل الله طينتها طينة متعالية، فلأنّه كان يعلم أنّها تخرج مرفوعة الرأس من الامتحان في عالم المادّة والناسوت "امتحنك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة"6، هذه هي القضية. فالله تعالى إذ تلطّف بلطفه الخاصّ على تلك الطينة، فجانب من القضية هو أنّه يعلم بأنّها تخرج مرفوعة الرأس من الامتحان، وإلا فإنّ الكثيرين كان لديهم طينة طيّبة، لكن هل تمكّن الجميع من الصبر على الامتحان؟ هذا جانب من حياة الزهراء عليها السلام الّتي نحتاج إليها لنجاة أنفسنا، فالحديث ورد من طريق الشيعة أنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة عليها السلام : "يا فاطمة اعملي فإنّي لا أغني عنك من الله شيئاً"7، أي يجب عليك أن تفكّري وتهتمّي بنفسك، فكانت تهتمّ بنفسها منذ صغرها وإلى نهاية عمرها القصير.

كيف كانت حياتها؟ كانت إلى ما قبل الزواج حينما كانت فتاة، تعامل أباها، وهو على ذلك القدر من العظمة، بحيث كنّيت بـ "أمّ أبيها". في الوقت الذي كان نبيّ الرحمة والنور ومؤسّس الحضارة الحديثة والقائد العظيم للثورة الخالدة يرفع راية الإسلام. وما كنّيت بـ "أمَ أبيها" اعتباطاً، فقد كانت الزهراء إلى جانب أبيها، تزيل بيديها الصغيرتين غبار الحزن والغمّ عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، سواء في مكّة أم في شعب أبي طالب مع كل شدائدهما، أم عندما بقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم وحيداً مكسور القلب بوقوع حادثتين في فترة قصيرة، هي وفاة خديجة عليها السلام ووفاة أبي طالب عليه السلام حيث أحسّ النبيّ بالغربة. هذا هو منشأ كنيتها بـ "أم أبيها".
لقد كانت السيّدة الزهراء عليها السلام في سنّ سبع سنوات - بشأن تاريخ ولادتها يوجد روايات مختلفة - حين حدثت قضية شُعب أبي طالب. لقد كانت هذه القضية مرحلة صعبة جداً في تاريخ صدر الإسلام، أي أنّ دعوة النبيّ كانت قد بدأت وصارت علانية، وبالتدريج بدأ أهل مكّة - وخصوصاً الشباب، وبالأخص العبيد - يقبلون ويؤمنون به، ورأى صناديد قريش كأبي لهب وأبي جهل وغيرهما أنّه لا بدّ من إخراج النبيّ وكلّ من معه من مكّة، وهذا ما فعلوه. فأخرجوا عدداً كبيراً منهم وقد بلغوا عشرات الأُسر بما في ذلك النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأسرته وأبو طالب نفسه، مع أنّ أبا طالب كان يُعدّ من الوجهاء الكبار . فخرجوا من مكّة ولكن إلى أين يذهبون؟ وصادف أن كان لأبي طالب ملكٌ في بقعة قريبة من مكّة - لعلّها تبعد عدّة كيلومترات في شعاب جبلٍ، يُدعى شُعب أبي طالب. كأنّه عبارة عن تلّة صغيرة، فقال لهم أبو طالب فلنذهب إلى هذه الشعب. فكِّروا في هذا الأمر! النهارات في مكّة شديدة الحرارة، والليالي في غاية البرودة، فهذا وضعٌ لا يمكن أن يُتحمّل. فقد عاشوا طيلة ثلاث سنوات في هذه الشعب. فكم تحمّلوا من جوعٍ وصعابٍ ومحنٍ، الله وحده يعلم. فمن المراحل الصعبة لحياة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم كانت هذه الشعب. ولم تكن مسؤولية النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في هذه المرحلة منحصرة في القيادة بمعنى إدارة مجموعة، بل كان عليه أن يتمكّن من الدفاع عن عمله أمام هؤلاء الّذين كانوا واقعين في المحنة.
من الواضح أنّه عندما تتحسّن الأوضاع، فإنّ كلّ من يكون حول القيادة يصبح راضياً عن الأوضاع ويقول: رحم الله أباه فقد أوصلنا إلى هذا الوضع الجيّد. وأما عندما تسوء الأحوال فيصاب الجميع بالحيرة والتردّد، ويقولون: إنّه هو الّذي أوصلنا إلى هذا الوضع السيّئ! ولم نكن نريد أن نصل إلى هذا الحدّ! وبالطبع، يصمد من كان لديه إيمان قويّ، ولكن في النهاية إنّ كل الصعاب كانت تنهال على الرسول. وفي هذه الأثناء، وعندما كان النبيّ يقاسي أشدّ أنواع المحنة، توفّي - وفي ظرف أسبوعٍ واحد - أبو طالب الّذي كان الداعم للنبيّ ويُعتبر أمله، والسيّدة خديجة الكبرى الّتي كانت تقدّم أكبر عونٍ روحيّ له، فكانت حادثة عجيبة جداً، أصبح النبيّ بعدها وحيداً فريداً.
إن مَن يترأس مجموعة معيّنة، يعلم ما معنى مسؤولية المجموعة. ففي مثل هذه الظروف يصبح الإنسان متحيّراً. انظروا إلى دور فاطمة الزهراء عليها السلام في مثل هذه الظروف. عندما يتأمّل الإنسان في التاريخ فإنّ هذه الموارد الّتي ينبغي أن تكون ملحوظةً في الزوايا والتفاصيل، للأسف لم يتمّ فتح أي بحث لها. لقد كانت فاطمة الزهراء عليها السلام كأمّ ومشاور وممرّضة بالنسبة للنبيّ. هناك حيث قيل "فاطمة أمّ أبيها". إنّ هذا متعلّق بذاك الوقت، أي عندما كانت بعمر ست أو سبع سنوات. وبالطبع، في البيئة العربية وفي البيئات الحارّة، تنمو البنات بصورةٍ أسرع من الناحية الجسمية والعاطفية، كبنتٍ في عمر عشر أو 12 سنة في أيامنا هذه. وهذا ما يؤدّي إلى الشعور بالمسؤولية. ألا يمكن أن يكون ذلك قدوةً لأيّ فتاة، بحيث تشعر بالمسؤولية والنشاط فيما يتعلّق بالقضايا المتعلقة بها بشكل سريع؟ إنّ هذا الرأسمال العظيم للنشاط الموجود فيها، كانت تنفقه من أجل أن تزيل غبار التكدّر والغمّ عن وجه أبٍ لعلّه قد مرّ على عمره أكثر من 50 سنة وقد قارب سن الهرم. ألا يمكن أن يكون هذا بالنسبة للفتاة نموذجاً وقدوةً؟ هذا مهمٌّ جداً.(07/02/1377)
في مثل هذا العالم ربّى النبيّ الأكرم بنتاً صارت لائقةً بأن يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويقبّل يدها! إنّ تقبيل يد فاطمة الزهراء عليها السلام ، من قبل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم لا ينبغي أن يؤخذ أبداً على معنىً عاطفيّ. فهذا أمرٌ خاطئٌ جداً، لو تصوّرنا أنّه يقبّل يدها فقط لأنّها ابنته ولأنّه يحبّها. هل شخصيةٌ بمثل هذه العظمة، وبمثل تلك العدالة والحكمة، الّتي كانت في النبيّ وهو يعتمد على الوحي والإلهام الإلهيّ ينحني ويقبّل يد ابنته؟ كلا، إنّ هذا أمرٌ آخر وله معنىً آخر. إنّه يحكي عن أنّ هذه الفتاة وهذه المرأة عندما ترحل من هذه الدنيا في عمر 18 أو 25 - قيل 18 وقيل 25 - تكون في أوج الملكوت الإنسانيّ وشخصاً استثنائيّاً. هذه نظرة الإسلام إلى المرأة.(04/10/1370)
أمّا المقام المعنويّ لهذه السيّدة العظيمة، بالنسبة لمقامها الجهاديّ والثوريّ والاجتماعيّ، فهو أعلى بدرجات. فاطمة الزهراء عليها السلام في الظاهر هي بصورة بشر، وامرأة، وامرأة شابّة أيضاً؛ ولكنها في المعنى هي حقيقةٌ عظيمة ونورٌ إلهيٌّ ساطع، وعبدٌ صالح، وإنسانٌ مميّز ومصطفى. هي شخصٌ قال فيه الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام : "يا عليّ أنت إمام أمّتي وخليفتي عليها من بعدي، وأنت قائد المؤمنين إلى الجنّة، وكأنّي أنظر إلى ابنتي فاطمة قد أقبلت يوم القيامة على نجيبٍ من نور عن يمينها سبعون ألف ملك، وعن يسارها سبعون ألف ملك، وبين يديها سبعون ألف ملك، وخلفها سبعون ألف ملك تقود مؤمنات أمّتي إلى الجنّة"8، أي أنّه يوم القيامة يقود أمير المؤمنين عليه السلام الرجال المؤمنين، وتقود فاطمة الزهراء عليها السلام النساء المؤمنات إلى الجنّة الإلهيّة. فهي عِدْل أمير المؤمنين عليه السلام . هي الّتي إذا وقفت في محراب العبادة فإنّ آلاف الملائكة المقرّبين لله يخاطبونها ويسلّمون عليها ويهنّئونها ويقولون لها ما كانوا يقولون في السابق لمريم الطاهرة عليها السلام : "يا فاطمة إنّ الله اصطفاك وطهرك واصطفاك على نساء العالمين"9، هذا هو المقام المعنويّ لفاطمة الزهراء عليها السلام .
امرأةٌ أيضاً في سنّ الشباب وصلت بلحاظ المقام المعنويّ، بحسب ما نُقل في الروايات، إلى حيث تحدّثها الملائكة وتظهر لها الحقائق. "المحدَّثة"  أي من تحدّثها الملائكة وتتكلّم معها. وهذا المقام المعنويّ والميدان الوسيع والقمّة الرفيعة هي في مقابل جميع نساء عالم الخلقة. إنّ فاطمة الزهراء عليها السلام في قمّة هذا العلوّ العظيم تقف وتخاطب كلّ نساء العالم، وتدعوهنّ لطيّ هذا الطريق. هؤلاء الّذين كانوا عبر التاريخ - سواء في الجاهلية القديمة أم في جاهلية القرن العشرين - قد سعوا لتحقير المرأة وجعلها متعلّقة بهذه الزخارف والزينة الظاهرية ولا همّ لها سوى الموضة واللباس والزينة والذهب والزخارف، ولا همّ لها سوى أن تقضي هذه الحياة في لهوٍ وعبث، وقد تحرّكوا من أجل ذلك، إنّ منطقهم هو منطق يشبه الثلج والجليد مقابل حرّ شمس المقام المعنويّ لفاطمة الزهراء عليها السلام ، سيذوب وينعدم. يعرّف الإسلام فاطمة - هذا العنصر المميّز والملكوتيّ الممتاز - بعنوان الأنموذج والأسوة للنساء. وهو تلك الحياة الظاهرية والجهاد والعلم والبيان والتضحية وحسن التبعّل والأمومة والزوجة والمهاجرة والضحور في جميع الميادين السياسية والعسكرية والثورية، والتفوّق في جميع الجوانب بحيث يخضع لها كلّ الرجال العظماء، بل هذا أيضاً المقام المعنويّ والركوع والسجود ومحراب العبادة والدعاء والصحيفة والتضرّع والذات الملكوتية وتألّق العنصر المعنويّ وكذلك عِدْل ووزان أمير المؤمنين عليه السلام والنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم . المرأة هي هذه. والقدوة للنساء الّتي يريد الإسلام أن يصنعها هي هذه.(26/10/1368)


حياتها عليها السلام الجهادية والسياسية

توجد نقطةٌ في حياة الزهراء المطهّرة عليها السلام يجب الالتفات إليها. علماً أنّنا لن ندخل في بيان المقامات المعنوية لهذه السيدة الجليلة، ولسنا قادرين على أن ندرك هذه المقامات ونفهمها. وفي الحقيقة أنّ أوج قمّة المعنوية الإنسانية والتكامل البشريّ، الله تعالى وحده، هو الذي يعرف هؤلاء العباد ومن هم بمستواهم ويرى مقامهم. لهذا ما كان يعرف فاطمة الزهراء عليها السلام سوى أمير المؤمنين عليه السلام وأبيها صلى الله عليه وآله وسلم وأولادها المعصومين عليهم السلام . الناس في ذلك الزمان والأزمنة اللاحقة، ونحن في هذا الزمن، لا يمكننا أن نشخّص ذلك التألّق والتلألؤ المعنويّ الّذي كان موجوداً فيها. فنور المعنويات الساطع لا يمكن أن يأتي إلى عين أيّ أحد، وتعجز عيوننا الضعيفة والقاصرة عن أن ترى تجلّي الإنسانية الساطع الّذي كان موجوداً في هؤلاء العظماء. لهذا، لن ندخل في مجال الحديث المعنويّ عن فاطمة الزهراء عليها السلام . لكن في حياتها اليومية توجد نقطة مهمّة وهي الجمع بين حياة امرأة مسلمة في سلوكها مع زوجها وأبنائها وقيامها بمسؤولياتها في البيت من جهة، وبين مسؤوليات الإنسان المجاهد الغيور الّذي لا يعرف التعب في التعامل مع الأحداث السياسية المهمّة بعد رحيل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ، حيث جاءت إلى المسجد وخطبت واتّخذت المواقف ودافعت وتحدّثت وكانت من جهاتٍ أخرى مجاهدة بكلّ ما للكلمة من معنىً، لا تعرف التعب وتتقبّل المحنة والصعاب. كذلك من الجهة الثالثة، كانت عابدة ومقيمة للصلاة في الليالي الحالكة وتقوم لله خاضعة خاشعة له، وفي محراب العبادة كانت هذه المرأة الصبية كالأولياء الإلهيين تناجي ربّها وتعبده.
هذه الأبعاد الثلاثة مجتمعةً تمثّل النقطة الساطعة لحياة فاطمة الزهراء عليها السلام . لم تفصل بين هذه الجهات الثلاث. بعض الناس يتصوّر أنّ الإنسان عندما يكون مشغولاً بالعبادة، وهو أهل الذكر، لا يمكنه أن يكون سياسياً. أو بعض آخر يتصوّر أنّ أهل السياسة، سواء من الرجال أم النساء، إذا كانوا حاضرين في ميدان الجهاد في سبيل الله بفاعليّة، إذا كنّ من النساء، لا يمكنهنّ أن يكنّ ربّات منزل يؤدّين وظائف الأمومة والزوجية والخدمة، وإذا كان رجلاً لا يمكنه أن يكون ربّ منزل وصاحب دكّان وحياة. يتصوّرون أنّ هذه تتنافى فيما بينها وتتعارض في حين أنّ هذه الأمور الثلاثة لا تتنافى مع بعضها بعضاً ولا توجد ضدّية بينها من وجهة نظر الإسلام. ففي شخصية الإنسان الكامل تكون هذه الأمور معينة بعضها بعضاً.(22/09/1368)
تعتبر شخصية الزهراء المطهّرة عليها السلام في الأبعاد السياسية والاجتماعية والجهادية شخصية مميزة بحيث إنّ جميع النساء المجاهدات والثوريات والمميّزات والسياسيات في العالم يمكنهنّ أن يأخذن الدروس والعبر من حياتها القصيرة والمليئة بالمحتوى والمضمون. امرأةٌ وُلدت في بيت الثورة، وأمضت كلّ طفولتها في حضن أبٍ كان في حالة مستمرّة من الجهاد العالميّ العظيم الّذي لا يُنسى. تلك السيّدة الّتي كانت في مرحلة طفولتها تتجرّع مرارات الجهاد في مكّة، وعندما حوصرت في شعب أبي طالب، لمست الجوع والصعاب والرعب وكلّ أنواع وأصناف الشدائد في مكة، وبعد أن هاجرت إلى المدينة أضحت زوجة رجلٍ كانت كلّ حياته جهاداً في سبيل الله، وفي كلّ المدّة، الّتي كانت نحو 11 سنة، في حياتها المشتركة مع أمير المؤمنين، لم تمرّ سنة أو نصف سنة على هذا الزوج لم يكن فيها في جهادٍ في سبيل الله ولم يذهب إلى ميدان المعركة. وكانت هذه المرأة العظيمة والمضحية زوجةً لائقةً لرجلٍ مجاهدٍ وجنديّ وقائد دائمٍ في ميدان الحرب. فحياة فاطمة الزهراء عليها السلام إذاً، وإن كانت قصيرة ولم تبلغ أكثر من عشرين سنة، لكنّها من جهة الجهاد والنّضال والسعي الثوريّ والصبر الثوريّ والدرس والتعليم والتعلّم، والخطابة والدفاع عن النبوّة والإمامة والنظام الإسلاميّ هي بحرٌ مترامٍ من السعي والجهاد والعمل وفي النهاية الشهادة أيضاً. هذه هي الحياة الجهادية لفاطمة الزهراء عليها السلام الّتي هي عظيمة جداً واستثنائية وفي الحقيقة لا نظير لها، ويقيناً ستبقى في أذهان البشر -سواء اليوم أم في المستقبل- نقطةً ساطعةً واستثنائية.(26/10/1368)

حياتها عليها السلام العلمية والعبادية

في أجواء العلم كانت عالمةً عظيمة. تلك الخطبة الّتي ألقتها فاطمة الزهراء عليها السلام في مسجد المدينة بعد رحيل النبيّ، هي خطبة، بحسب كلام العلامة المجلسيّ، يجب على فطاحل الفصحاء والبلغاء والعلماء أن يجلسوا ويفسّروا معاني كلماتها وعباراتها؛ فهي من العمق بحيث إنّها بلحاظ جمالية الفن كأجمل وأعلى كلمات نهج البلاغة. فاطمة الزهراء عليها السلام تذهب إلى مسجد المدينة وتقف مقابل الناس وترتجل ولعلّها تتحدّث لمدّة ساعة بأعذب وأجمل العبارات وأكثرها بلاغةً.(25/09/1371)
نحن الّذين نُعدّ من أهل الخطابة والكلام الارتجاليّ نفهم كم أنّ هذه الخطبة عظيمة. فتاة ابنة 18 أو 20 سنة وفي الحدّ الأكثر 24 سنة -بحسب الاختلاف في تاريخ ولادتها- ومع كلّ تلك المصائب والصعاب أتت إلى المسجد وخاطبت الجمع الغفير من وراء الحجاب (الستار)، وكلّ كلمة من هذه الخطبة بقيت في التاريخ.
العرب معروفون بقوّة حافظتهم. فيأتي شخصٌ وينشد قصيدة من 80 بيتاً وبعد أن ينتهي يقوم 10 أشخاص ويكتبون هذه القصيدة، وهذه القصائد الّتي بقيت إلى يومنا هذا، في الأغلب هكذا حُفظت. فالأشعار في الأندية -أي تلك المراكز الاجتماعية- كانت تُتلى وتُحفظ، وهذه الخطب وهذه الأحاديث كانت تحفظ غالباً بهذه الطريقة. لقد جلسوا وكتبوا وحفظوا وبقيت هذه الخطب إلى يومنا هذا. والكلمات الجوفاء لا تبقى في التاريخ، فليس كلّ كلام يُحفظ، فلقد قيل الكثير الكثير، وألقي الكثير من الخطب والكثير من الأشعار ولكن لم تبقَ كلّها، ولم يعتنِ أحدٌ بها. كلّما نظر الإنسان إلى ذاك الشيء الّذي حفظه التاريخ في قلبه، وبعد مرور 1400 سنة، يشعر بالخضوع، وهذا إنّما يدلّ على هذه العظمة. برأيي إنّ هذا يُعدّ بالنسبة للفتاة الشابّة قدوة.(07/02/1377)
إنّ حياة فاطمة الزهراء عليها السلام في جميع الأبعاد كانت مليئة بالعمل والسعي والتكامل والسموّ الروحيّ للإنسان. وكان زوجها الشاب في الجبهة وميادين الحرب دائماً، وكانت مشاكل المحيط والحياة قد جعلت فاطمة الزهراء عليها السلام مركزاً لمراجعات الناس والمسلمين. إنّها ابنة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم المفرّجة للهموم، وقد صارت في حياتها في تلك الظروف بمنتهى العزّة والسموّ، وقامت بتربية أولادها الحسن والحسين وزينب، وإعانة زوجها عليّ عليه السلام ، وكسب رضا أب كالنبيّ. وعندما بدأت مرحلة الفتوحات والغنائم لم تأخذ بنت النبيّ ذرّة من لذائذ الدنيا وزخرفها ومظاهر الزينة والأمور الّتي تميل لها قلوب الشابات والنساء.
وكانت عبادة فاطمة الزهراء عليها السلام عبادة نموذجية. يقول الحسن البصريّ: الّذي كان أحد العبّاد والزهّاد المشهورين في العالم الإسلاميّ، حول فاطمة الزهراء عليها السلام إنّ بنت النبيّ عبدت الله ووقفت في محراب العبادة حتى "تورّمت قدماها"10. ويقول الإمام الحسن المجتبى عليه السلام إنّ أمّه وقفت تعبد الله في إحدى الليالي -ليلة الجمعة- "حتى انفجر عمود الصبح". ويقول الإمام الحسن عليه السلام إنّه سمعها تدعو دائماً للمؤمنين والمؤمنات، وتدعو للناس ولقضايا المسلمين العامة، وعند الصباح قال لها: "يا أمّاه أما تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ فقالت: يا بنيّ الجار ثمّ الدار"11. هذه هي الروحية العظيمة. إنّ جهاد تلك المكرّمة في الميادين المختلفة هو جهاد نموذجيّ، في الدفاع عن الإسلام،
 وفي الدفاع عن الإمامة والولاية، وفي الدفاع عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وفي حفظ أكبر القادة الإسلاميين وهو أمير المؤمنين عليه السلام زوجها. وقد قال عليه السلام مرّة بشأن فاطمة الزهراء عليها السلام : "ما أغضبتني ولا عصت لي أمراً"12. ومع تلك العظمة والجلالة، فإنّها كانت زوجة في بيتها، وامرأة كما يقول الإسلام.

هكذا كانت عبادتها وفصاحتها وبلاغتها وحكمتها وعلمها ومعرفتها وجهادها وسلوكها كابنة وزوجة وأمّ، وإحسانها إلى الفقراء. مرّة أرسل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم رجلاً عجوزاً فقيراً إلى بيت أمير المؤمنين عليه السلام وقال له أن يطلب حاجته منهم، فأعطته فاطمة الزهراء عليها السلام جلداً كان ينام عليه الحسن والحسين عليهما السلام حيث لم يكن عندها شيء غيره، وقالت له أن يأخذه ويبيعه ويستفيد من نقوده. هذه هي الشخصية الجامعة لفاطمة الزهراء عليها السلام . إنّها أسوة للمرأة المسلمة.

إنّ على المرأة المسلمة أن تسعى في طريق الحكمة والعلم وفي طريق بناء الذات معنويّا وأخلاقيّاً وأن تكون في الطليعة في ميدان الجهاد والكفاح، وأن لا تهتمّ بزخارف الدنيا ومظاهرها الرخيصة، وأن تكون عفّتها وعصمتها وطهارتها بحيث تدفع بذاتها عين ونظرة الأجنبيّ المريبة تلقائياً، وفي البيت سكينة للزوج والأولاد وراحة للحياة الزوجية، وتربّي في حضنها الحنون والرؤوف وبكلماتها اللطيفة والحنونة أولاداً مهذّبين بلا عُقد، وذوي روحية حسنة وسليمة، وتربّي رجال المجتمع ونساءه وشخصياته. إنّ الأم أفضل من يبني، فقد يصنع أكبر العلماء آلة إلكترونية معقّدة جداً مثلاً، أو يصنعون أجهزة للصعود إلى الفضاء، أو صواريخ عابرة للقارّات، ولكن كلّ هذا لا يعادل أهمية بناء إنسان سامٍ، وهو عمل لا يتمكّن منه إلا الأم، وهذه هي أسوة المرأة المسلمة.(25/09/1371)


هوامش
1- سورة الكوثر، الآية: 1.
2- سورة الصف، الآية: 8.
3- الكافي، ج2، ص 254.
4- روضة المتقين في شرح من لا يحضره الفقيه، ج5، ص 243.
5- بحار الأنوار، ج43، ص 173.
6- تهذيب الأحكام، ج6، ص90.
7- أضواء البيان، الشنقيطي، ج8، ص224.
8- بحار الأنوار، ج 43، ص 24.
9- بحار الأنوار، ج 43، ص 24.
10- المناقب، ج3،ص 341.
11- بحار الأنوار، ج43، ص81-82.
12- بحار الأنوار، ج43، ص 134.
 

مصدر: كتاب إنسان بعمر 250 سنة- محاضرات وكلمات للإمام القائد الخامنئي (حفظه الله) حول المعصومين الأربعة عشر- مركز نون للتأليف والنشر.
 
 


 

التعليقات (0)

اترك تعليق