مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

السيدالقائد الخامنئي في طفولته ومرحلة البلوغ

السيدالقائد الخامنئي في طفولته ومرحلة البلوغ: دور والدته الحيوي في تربيته


ولد السيّد الخامنئي في العام  1940م في بيت بسيط متواضع. والده هو السيّد جواد الذي كاد يطير فرحا لولادة ابنه الثاني"السّيد علي". والسيّد جواد من أبرز زهّاد وعلماء مدينة مشهد المقدّسة الذي كان قد تتلمذ على يده ثلّة من طلبة العلوم الدينية هناك. وأمّه كريمة حجّة الإسلام "السيد هاشم نجف آبادي".
أمّا جدّه فهو السيد حسين الخامنئي من علماء آذربيجان، كان يقيم في مدينة النجف الأشرف، حيث قصدها بعد إقامته في إحدى أحياء محافظة تبريز التي تعرف باسم "خيابان"، وقد كان علما في التقوى والعلم والزهد. وكان زوج عمّة السيد الخامنئي العالم الشهيد الشيخ محمد الخياباني وقد اشتهر بهذا اللقب أثر تصديه لإمامة الجماعة في مسجد "كريم خان" في حي خيابان، على الرغم من أنّ ولادته كانت في قرية "خامنه" التابعة لمحافظة تبريز، كان الشيخ من أبرز مجاهدي عصر المشروطة ثمّ مثّل أهالي تبريز في المجلس النيابي رافعاً صوته وشاهراً سلاحه ضد الفوضى والأزمات التي كانت تعصف بالمجتمع، وواقفا بوجه النظام الشاهنشاهي المستبد، حتى توّج جهاده بالشهادة بعد أن خاض غمارالجهاد المرير.
وقد ترعرع "السيد علي" في أحضان أمه التي غذّته بعشق أهل بيت النبي(ص) والأئمّة الأطهار(ع) والتي سعت جادة لتربية وتهذيب وليدها، حيث غذّته منذ نعومة أظفاره بالمعارف الإسلامية القيمة. وبفضل هذه النشأة وسط هذه الأسرة العريقة المنفتحة على العلم والفضيلة تربى على تلك الملكات الأخلاقية.
لقد تطرّق السيد القائد في بعد أحاديثه الى أسرته مشيرا لدور والدته الحيوي في التربية وشغفها بالإسلام وتلاوة القرآن قائلا:
"كنا ثمانية أخوة وأخوات من زوجتين لأبي، رزقه الله من الأولى ثلاث بنات وعندما توفّيت تزوّج الثانية وقد رزقها الله أربعة اولاد وبنت، أنا الثاني من بينهم... كان والديّ فاضلين، فأمي سيدة فاهمة، متعلمة، شغفة بمطالعة الكتب، ذات ذوق شعري وفن فريد، كانت مولعة بأشعارحافظ الشيرازي، كما كانت ملمة إلماماً تاماً بمعارف القرآن، ترتّله بصوت حزين غاية في الروعة والجمال. وما زلت أذكر جيداً كيف كنّا نجتمع حولها حين كنّا صغاراً لتقرأ علينا القرآن، فإذا ما بلغت آية بشأن أحد الأنبياء أخذت تحدّثنا عن حياته، ومنها سمعت للمرة الأولى قصة النبيين موسى وإبراهيم وسائر الأنبياء(ع). ولم تكن لتنسى بعض أشعارحافظ والإستشهاد بها فيما يتعلّق بما كانت تقرأه علينا من القرآن الكريم. وقد كانت كسائرالأمهات مثالاً في العاطفة والحنان والمحبّة، شغفةً بأولادها، ساهرةً الليالي من أجل راحتهم وسلامتهم.
أما والدي فقد كان عالما دينيّا كبيراً، إلا أنّه كان على العكس من والدتي، فقد كان أغلب أوقاته صامتاً لا يتكلّم إلاّ قليلاً، وأعتقد أن سبب ذلك إنما يُعزى لطيلة مدة دراسته في الحوزة العلمية وقضائه لأكثرأوقاته منفردا في غرفته. كان والدي تركي اللسان، فنحن ننتمي إلى محافظة تبريز (وهي من المحافظات الناطقة باللغة التركية)، أما والدتي فهي فارسية اللسان. الأمرالذي جعلنا نتمكّن من التحدّث باللغتين التركية والفارسية".

تمثل الأسرة في الإسلام اللبنة الأساسية والبنية التحتية للمجتمع، فإذا ما كانت الأسرة طاهرة نجيبة أمكنها تربية فرد قد يكون سببا لإنقاذ أمة، والعكس صحيح فإذا ما كانت طالحة منحرفة، فقد تمدّ الأمة بفرد قد يساهم في فساد الأمة وانحرافها. وقد ترعرع السيد القائد في ظل أسرة فاضلة الى جانب تهذيبه لنفسه في الحوزات العلمية المقدسة، الأمر الذي جعله اليوم يعد أهم أركان النظام الإسلامي، فهو الولي الفقيه وولي أمر المسلمين الذي يحمل بشجاعة مشعل هداية الأمة وانحرافها. وقد ترعرع السيد القائد في ظل أسرة فاضلة إلى جانب تهذيبه لنفسه في الحوزات العلمية المقدسة، الأمر الذي جعله اليوم يعد أهم أركان النظام الإسلامي، فهو الولي الفقيه وولي أمر المسلمين الذي يحمل بشجاعة مشعل هداية الأمة من الظلمات إلى النور. وقد كان له منذ الطفولة وعندما اكتملت دراسته الإبتدائية، والتحق بالحوزة العلمية اهتماما فائقا بالعبادة والدعاء والمناجاة، كما كان يهتم بدعاء عرفة ولم يكن قد بلغ سن التكليف الشرعي كما يشير الى ذلك في بعض أحاديثه، وهنا يحدّثنا السيد القائد بأنه مدين في تلك التربية الاسلامية لتلك الأسرة الفاضلة قائلا:
"أذكرجيدا أنّنا كنا نتّجه مع أمنا التي كانت مولعة بالدعاء والقيام بالأعمال المستحبة إلى زاوية في ساحة الدار الصغيرة، ونجلس هناك رعايةً لاستحباب الإصحار بالدعاء والانكشاف أمام السماء، وأذكر أنّ الطقس كان حاراً جداً وكان النهار طويلاً، ونستغرق ساعات وساعات في أداء أعمال عرفة التي كانت تتضمن الذكر، الدعاء، والصلاة، وكنا نساعد أمنا في القراءة". ويؤكد السيد القائد "أنّنا لم نكن نشعر بالتعب وأنّ السبب يعود في ذلك إلى التفاتنا لمعاني ومضامين الدعاء والصلاة، ولو عاش شبابنا اليوم ذلك لذاقوا طعم حلاوة الدعاء والصلاة ولما شكوا التعب والملل أبداً" فمن يتعب من الصلاة إمّا أنّه لا يفهم معنى الصلاة، أو أنّه لا يلتفت لما يقول فيها، وإلاّ فيستحيل التعب منها".
 
لقد تربى السيّد القائد في أحضان هذه الأسرة المنفتحة على التوحيد الخالص والمعرفة الإيمانية الحقة التي أعدته لاقتحام كافة معتركات الحياة وظروفها الصعبة القاسية.
فمن الناحية المادية والاقتصادية لم تكن حال هذه الاسرة بالشيء الذي يذكر، ومع ذلك فقد عاش حياة عزيزة كريمة بفضل تلك الروحية والطهارة الممزوجة بالقناعة والتي كانت تسود حياتهم وأجواءهم.
لقد تزامنت مرحلة طفولة السيد مع أيام الحرب العالمية الثانية واحتلال ايران من قبل الحلفاء، ومع أنّ مشهد لم تقذف بها الحرب في أتونها، وكانت السلع والبضائع والمواد الغذائية فيها من الرخص والوفرة بحيث لا يمكن مقارنتها مع اقرانها من سائر المدن الإيرانية، إلا أن أسرة السيد غالباً ما كانت تقتات على الشعير ونادرا ما كانت تتناول الخبز، ويتحدث السيد عن تلك الفترة قائلاً:
"كانت تمر علينا الليالي الطوال التي لم توقد فيها النار في البيت، وكنا نشتري الزبيب أو اللبن أحيانا بتلك النقود التي كانت تعطيها لنا جدتنا ونتناولها مع الخبز".
كانت مساحة دار البيت حوالي 60 إلى70م2 وله غرفة واحدة وسرداب، وإذا ما حلّ عليهم ضيف، أخلت الأسرة تلك الغرفة واجتمعت في ذلك السرداب، إلى أن تبرع أحد محبي والده بشراء الدار الملاصقة لدارهم وأهداها له ليصبح عدد الغرف ثلاثاً.
والملابس والثياب التي كان يرتديها السيّد كانت غالباً تعود لوالده تعيد والدته خياطتها لتصير مناسبة له، وربما كانت تظهر آثار ذلك على ثيابه.

لقد توجه السيد في الرابعة من عمره إلى الكتّاب لتعلّم القرآن وحين بلغ السابعة التحق بالمدرسة الابتدائية، فالمتوسطة، ويتحدث السيد عن ذكرياته في الكتاب والمدرسة قائلا:
 "إنّ أوّل مركز دراسي التحقت به في السنوات التي سبقت المدرسة كان الكتّاب وقد كان لي من العمر أربع أو خمس سنوات، أرسلوني وأخي الذي كان يكبرني بثلاث سنوات ونصف الى مركز للبنات، وكان أكثر التلاميذ من البنات، والمعلم كان امرأة أيضاً، طبعا آنذاك كنت صغيراً جداً. ما أستطيع قوله هنا، وحسب تجربتي، أنّه لا ينبغي إلحاق الأطفال الذين لهم من العمر أربع أو خمس سنوات بالمدارس والكتّاب وما شابه ذلك، حيث لا تنطوي على أيّة فائدة تذكر، وأعتقد أنّي لم أستفد أبدا من ذلك المركز، حيث كان الغرض  تعلم القرآن الذي لم يكن يدرّس في المدارس الأكاديمية. ثمّ نقلونا بعد مدة شهر أو شهرين إلى  مركز للبنين وكان المعلم رجلاً عجوزا وهو يشبه، إلى حدٍ بعيد، ما تشاهدونه من صور في القصص القديمة. كنت أصغر تلميذ آنذاك ولأني كنت أصغر الجميع وهاشمياً وابن عالم، فقد كان المعلم يجلسني إلى جانبه، مخرجاً بعض العملات الورقية الزهيدة من جيبه قائلا لي: إمسح هذه النقود بالقرآن لتزداد بركتها! كان المسكين يعتقد بأنّ بركة نقوده ستتضاعف بتلك الطريقة حيث لم يكن له من دخل وعائدات. ما زلت أذكر أنّ اليوم الأول الذي ذهبنا فيه إلى ذلك المركز كان يوما قاتماً، تعساً، سيئاً حيث جعلني أبي مع أخي الأكبرفي غرفة كبيرة جداً لعلّها تعادل نصف هذه القاعة التي لم يكن لها نوافذ وكان يسودها الظلام الدامس، بخلاف اليوم الأوّل الذي توجهت فيه للمدرسة الابتدائية فقد كان يوماً رائعاً، والاطفال يلعبون ويقفزون، وقد شاطرناهم اللعب كذلك. كان صفّنا يبدو كبيراً جداً بل هكذا كان يخيّل إليّ فإنّما كنت أنظر إليه بعين الطفولة وكان عدد التلاميذ هو الآخر كثيراً جداً حيث كان يتراوح عددهم بين ثلاثين إلى أربعين تلميذا. وقد كان بصري ضعيفاً، ويبدو أنّه لم يلتفت أحد لذلك بما فيهم أنا نفسي حيث لم أكن أعلم بذلك، إلاّ أنّي قد اكتشفت بعد سنوات، ومن خلال التجربة أنّي لا أستطيع أن أرى الأشياء بصورة جيدة، وحين اطّلع والدي على الأمراشترى لي نظارة طبّية، وكان أوّل استعمالي لها حين بلغت الثالثة عشرة من العمر، الأمر الذي جعلها تترك بصماتها السيئة على أغلب نشاطاتي الدراسية فلم أكن أرى المعلم أو السبورة وما يكتب عليها بصورة واضحة. ولم تكن الحال مثل اليوم حيث الأجهزة المتطورة التي تشخص مبكراً درجة الرؤية فإذا ما كانت ضعيفة، عيّنوا له ما يناسبه من نظارة. وما يجدر ذكره هو أنّ مدرستنا كانت أهلية تشتمل على بعض الدروس والبرامج الدينية ولذلك كان كادرها التدريسي والإداري من الأفراد المعروفين بتديّنهم والتزامهم. الأمر الذي لم يكن سائدا في سائر المدارس الحكومية، التي كانت تفتقر للدروس والبرامج الدينية ولم يكن هناك من يهتم بهذه الأمور. كان اسم مدير مدرستنا على ما أذكر السيد "تديّن" توفي قبل بضعة سنوات، وكنت على ارتباط وثيق به حين كنت رئيسا للجمهورية، أزوره ويزورني ولم ينقطع بيننا الاتصال الهاتفي...".
واستطرد السيد مشيراً الى حبه لبعض الدروس قائلا:
"لا أتذكّر أيّ الدروس كنت أحبّ في الصف الأول، الثاني، الثالث، والرابع، إلاّ أنّي كنت عاشقا أواخر الدراسة الابتدائية، أي الصف الخامس والسادس، للجغرافيا والتأريخ والرياضيات سيّما الهندسة. طبعا كنت مبدعاً في الدروس الدينية، خاصة القرآن الذي كنت أتلوه بصوت عالٍ. فقد كنت قارىء المدرسة. كانت "التربية الدينية" إحدى المواد الدراسية في تلك المدرسة، وقد جعلتها فصولا منفصلة عن بعضها وقمت بحفظها.
بدأت في الصف الخامس والسادس أقلد منبر الشيخ فلسفي الذي كانت تبثّ محاضراته من المذياع. وكنت أحظى بتشجيع والدي ومعلّمي".

لم تكن تلك الدروس التقليدية لتشغل سماحة السيّد عن الالتحاق بمدرسة "نواب" ودراسة العلوم الدينية إلى جانب تلك الدروس، إضافة إلى ملء فراغه بممارسة الرياضة وبعض الألعاب السائدة في ذلك العصر. وقد تكلم السيد عن الرياضة والألعاب قائلا:
"لقد طرح سؤال بشأن اللعب. نعم كنت أمارس اللعب إلاّ أنّي كنت ألعب في الزقاق؛ فلم يكن هناك من مكان مناسب للعب في البيت. وقد كانت ألعاب الأطفال متنوعة آنذاك. كانت من بينها الألعاب الرياضية أيضا؛ ككرة الطائرة والقدم وما إلى ذلك من الألعاب التي كنا نمارسها. لقد كنت شغفا بها، والآن أيضا إذا أردت أن أمارس بعض الألعاب الجماعية، مع أولادي طبعا، فاني أحبّذ الكرة الطائرة فهي لعبة ممتازة. لا شك أنّ بعض الألعاب تترتب عليها بعض الفوائد، إلاّ أنّ البعض الآخر لا يستهدف سوى ملء الفراغ، وقد كنا نلعب لعبة باسم "ذئبي في الهواء" ولا تنطوي على أيّة فائدة أو مفهوم.
الشيء الذي أعتقد أنّه يلفت انتباهكم وتتّطلعون لسماعه هو أنّني كنت معمماً في مرحلة الطفولة، أي بين سن العاشرة والثالثة عشرة، وهو ما قصده السائل، وكنت أرتدي الزيّ الحوزوي من عمامة وعباءة و... وهكذا كنت أذهب بهذا الزي إلى المدرسة، ولم أكن أخلع العمّة إلاّ في فصل الصيف، وأذهب إلى المدرسة حاسر الرأس، وحين يحل فصل الشتاء، كانت والدتي هي التي تلف العمامة على رأسي، ولا غرابة فهي ابنة أحد علماء الدين وأخوها كذلك، ولذلك كانت بارعة في لفّها. وهكذا كنت في المدرسة، وكانت هذه القضية تسبب لي بعض الإحراج سيّما في أوساط الأطفال، إلّا أنّ العمامة والزيّ الديني لم يكونا ليحولا بيني وبين اللعب وبعض الحركات التي كانت تخفف من وطأة ذلك الإحراج".
لقد واصل السيد ممارسته للألعاب الرياضية حتى إبّان مرحلة شبابه، إلا أنّ متعته آنذاك وكما يصفها هو، هي الحضور في أوساط طلاب العلوم الدينية والاستغراق في البحث والنقاش:
"للأسف لم تكن لنا هوايات كثيرة آنذاك كالتي نشاهدها اليوم في عصرنا الحاضر. كانت هناك الحدائق العامة والمنتزهات، إلاّ أنّها كانت قليلة ولا تلبي الحاجة،على سبيل المثال، كان في مدينة مشهد منتزه واحد داخل المدينة وأجواؤه ملوّثة وفاسدة للغاية. ولم تكن طبيعة أسرتنا المحافظة لتسمح بالذهاب والتنزه هناك. لقد كانت تمثل مراكز تستهدف نشر الرذيلة والفحشاء. وقد كانت السلطة الحاكمة آنذاك تسعى لإفساد الأماكن العامة وإغراقها بالشهوات واللذات المستهجنة؛ قطعا كانت تمرّ هذه الأمور وفق برامج وخطط مدروسة، هكذا كنا نعتقد. ثم تيقّنا من ذلك بعد أن اطلعنا على بعض الحقائق والدسائس بهذا الخصوص. ولذلك كنّا محرومين من متعة التنزّه في الحدائق. كانت متعتي وبنيتي إبّان مرحلة الشباب في حضوري وسط الطلاب، أثناء الاستراحة وتجاذب أطراف الحديث في كافة الأمور، وكانت أجواء المدرسة ممهدة لتلك الجلسات والنقاشات، أضف إلى ذلك فقد كنا نجتمع في مسجد "كوهرشاد" مع بعض العلماء الأعلام، الفضلاء، وطلبة العلوم الدينية ونخوض في الأبحاث العلمية، الثقافية والدينية، كانت هذه نزهتي ومتعتي آنذاك.
كما كنت وما زلت أمارس الرياضة، ومما يؤسف له أن بعض الشباب قد عزفواعن الرياضة وهذا ليس من الصواب. كنا نمارس رياضة السيرعلى الأقدام وتسلّق الجبال، وكنت استغرق عدة ليال وأيام في تسلق جبال مشهد منتقلا من هذا إلى ذاك، والسير على الأقدام من هذه القرية إلى تلك، وكان يشاركني في ذلك بعض الاصدقاء. وما أجمل تسلق جبال البرز في طهران بهذا الارتفاع العظيم. وما زلت أتسلق هذه الجبال عدة مرات كل أسبوع. وللأسف فإني لا أرى إلا النزر اليسير من أهالي طهران ممن يأتون هناك، رغم لطافة الجوّ وروعة مناخه. إني لأشعر بالأسف من هذا الفراغ الذي يجب أن يملأه الشباب، ينبغي أن يمارس الجميع الرياضة وفي طليعتهم شريحة الشباب طبعا".

مرحلة الشباب، الدراسة، والزي الديني
كان المجتمع الايراني ملتزما ببعض العادات والتقاليد الوطنية والثقافات والقيم الإسلاميّة، قبل اختراقه من قبل الثقافات الغربية التي سرّبها إليه في البداية المثقفون الانفتاحيون ثم انبرى من بعدهم رضا خان الذي سعى جاداً لمسخ الهوية الثقافية للبلد، حيث تمكّن في خاتمة المطاف ومن خلال ممارسته للعنف والإرهاب والحملات الدعائية، وتسخير الأجهزة الإعلامية أن يضفي على ظاهر المجتمع صيغة الثقافة الغربية فضلا عن تغيره للسنن والعادات والتقاليد. وقد وقف حجة الاسلام والمسلمين السيد جواد الخامنئي بوجه هذا التيارالغاشم مبادراً الى أولاده الصغار بما فيهم "السيد علي" ليلبسهم الزي الديني رغم أوامر رضا خان التي تقضي بمنعه. وهنا يتحدث سماحة السيد عن كيفية اختياره لذلك الزي الديني رغم أوامر رضا خان التي تقضي بمنعه. وهنا يتحدث سماحة السيد عن كيفية اختياره لذلك الزي ودراسته العلوم الدينية في الحوزة العلمية المباركة قائلا:
"لا أتذكر متى بدأت أفكر في مستقبلي وماذا ينبغي أن أكون، إلاّ أنّ ما كان معلوماً لي ولأسرتي منذ البداية هو أن الكل كان يرغب بأن أصبح أحد طلاب العلوم الدينية، وكانت هذه رغبة والدي ووالدتي، وكانت رغبتي أنا شخصياً فقد كنت أحلم بتلك الدراسة. إلاّ أنّه لم يكن من المتوقّع ان أرتدي ذلك الزي منذ نعومة أظفاري. إلاّ أن والدي وبسبب معارضته لكل ما كان يتخذه رضا خان البهلوي من قرارات، ومنها منع ارتداء الزي الديني لم يكن ليسمح لنا بارتداء الملابس التي أراد أن يفرضها علينا رضا خان بالقوة. حيث أجبرالناس على التخلّي عن الزيّ الوطني وارتداء الأزياء الأوروبية كوضع القبعة على الرأس وما شابه ذلك. إضافة لذلك فقد كان والدي يرغب في أن أواصل دراستي في الحوزة العلمية، أنا بدوري كنت أرغب بالدراسة في الحوزة وقد بدأتها عمليا منذ الصف الخامس الابتدائي".
 يبدو أنّ الزيّ الديني لم يكن ليمنع سماحة السيد من مواصلة دروسه التقليدية في المدرسة، فضلا عن ممارسة سائر الأنشطة والفعاليات العلمية بل حتى الألعاب الرياضية. فقد قال سماحته بهذا الشأن:
"كان معلمنا للصف الخامس أو السادس الابتدائي من طلبة العلوم الدينية أيضا، وقد اقترح علينا تدريس جامع المقدمات، وفعلا بدأ بتدريسه لي ولبعض التلاميذ.
وجامع المقدمات يُعدّ أوّل كتاب يدرسه طالب العلوم الدينية، وما زال كذلك حتى يومنا هذا. وكنت قد قرأت بعض هذا الكتاب في الابتدائية، ثم تابعت ما تبقى منه رسميا في الحوزة العلمية. لقد شرعت رسميا بدراسة العلوم الدينية بعد أن أتممت المرحلة الابتدائية ولم اتجه بعدها للدراسة الثانوية، بل قرأت دروسها لوحدي دون الالتحاق بالمدرسة. فقد كان جلّ اهتمامي ينصب على دروس الحوزة العلمية، وعليه فيمكنني القول بأنّي منذ سن الثانية عشرة اخذت افكر جديا في مستقبلي فأصبحت طالبا للعلوم الدينية،ولم يكن الزي الديني ليحول بيني وبين اللعب بأي وجه، أي أنّي كنت معمماً، أمّا حين اللعب كنت أخلع العمة وأجعلها في البيت، وأنطلق إلى الأزقة لأمارس اللعب بكل حرية، فإذا رجعت إلى البيت وحانت الصلاة جعلتها على رأسي وانطلقت مع والدي الى المسجد، وهكذا كنت أمارس حياتي اليومية دون تعقيد أو عناء".
لقد درس آية الله العظمى السيد القائد بعض المقدمات الحوزوية على يد والده العالم الفاضل، وكان يستفيد من العطلة الدراسية لمتابعة دروسه على يد والده في البيت الأمر الذي جعله يطوي دراسته للسطوح قبل أن يتمّ الثامنة عشرمن عمره، ليلتحق بعدها بالبحث الخارج.

الاهتمام بالمطالعة:
ومن النشاطات الأخرى التي كان وما زال يمارسها السيد هي متابعته ومطالعته لمختلف الكتب وفي كل المجالات:
"كنت كثير المطالعة في مرحلة الشباب، فبغضّ النظر عن الكتب الدراسية كنت اقرأ الكتب التأريخية، الأدبية، فنون الشعر والنثر، القصص والروايات، كنت أحب الروايات كثيراً وقد قرأت أغلب الروايات المشهورة آنذاك. وقد شغفت بالأحاديث النبوية إثر إجادتي للغة العربية. وما زلت أذكر جيداً تلك الأحاديث التي تعلّمتها في فترة الشباب، كنت أدوّنها في دفتر صغير، والغريب أنّي لا أستحضر بعض الأحاديث التي طالعتها خلال هذا الأسبوع، أو أمس، في حين أتذكر كل ما دونته من أحاديث آنذاك. وعليكم أن تلتفتوا لهذه القضية، فاعلموا أنّ ما تقرأونه اليوم سوف لن يمحى من ذاكرتكم أبدا. حقا إنّ مرحلة الشباب مرحلة ذهبية لا يمكن مقارنتها بما سواها من المراحل.
من جهة أخرى فقد كانت لوالدي مكتبة في البيت وقد طالعت أغلبها، طبعا كنت أستعير بعض الكتب سيّما القصص والروايات من مكتبة صغيرة قرب البيت كانت تعيرالكتب. وكنت أتردّد على مكتبة الحضرة الرضوية المقدسة أوائل دراستي الحوزوية. في سن الخامسة أو السادسة عشر من عمري. وكنت أستغرق في المطالعة إلى الحدّ الذي لم يكن يجعلني أسمع الآذان الذي كان يرفع هناك بأعلى الصوت. كنت قريبا جداً من مكبرات الصوت إلاّ اني لم أكن أسمع، وبعد مدة كنّا نلتفت أنّه مرّت ساعات على أذان الظهر، كنا نستأنس بالكتب. والآن فقد قاربت على الستين من عمري، وكما ترون فإنّ بعضكم بمثابة أولادي والبعض الآخر بعمر أحفادي، والذي ينبغي أن تعلموه بأني لم أكفّ عن المطالعة حتى الآن، بل ما زلت أطالع أكثر من أغلب الشباب".
وهنا أرى من الضرورة بمكان أن أشير إلى خاطرة أخرى عن سماحة السيد القائد لنقف جميعا على اهتمامه الشديد بالمطالعة، فرغم عظم المسؤوليات الملقاة على عاتقه لم يغفل عن تخصيص بعض وقته وتكريسه للمطالعة ويدعو الجميع إلى الاهتمام بها:
"أوصي جميع الأخوة ومهما كانت خطورة الوظيفة التي ينهضون بأعبائها أن لا ينأوا بأنفسهم بعيداً عن المطالعة ومواكبة الأحداث، وألاّ يقولوا بأنّ مهامنا وأعمالنا تحول دون المطالعة والقراءة. لم تقطع علاقتي بالمطالعة إلاّ سنتين بعد انتصارالثورة، وذلك لأنّ طبيعة ظروف عملي كانت قاسية معقدة جداً، كنت أبدأ عملي منذ الساعة الخامسة صباحا حتى الحادية عشر ليلا. فكنت أرجع إلى البيت تعبا مرهقا لأجد صورة أخرى مصغرة لعملي الذي كنت أمارسه خارج البيت، فلم أرجع مرة إلاّ ورأيت الغرفة مملوءة ببعض مسؤولي الدولة، المؤسسات الحكومية، والعلماء الأعلام، فلم تكن هناك من فرصة للخلوة البتّة. كانت تمرّ علينا الليالي والأيام التي لم أرفيها أسرتي وأولادي، مع أنّي كنت في البيت، فحين كنت أرجع إلى البيت كانوا يغطون في نوم عميق وكذلك حين كنت أخرج. هكذا كانت حياتي اليومية.
مع ذلك استأنفت مطالعتي ورغم ممارستي لمهامي في رئاسة الجمهورية. وما زلت أواصل مطالعتي حتى الآن إلى جانب قيامي بوظائفي ولا منافاة، ناهيك عن مطالعاتي العلمية، التأريخية فضلا عن التخصصية".

المصدر:الامام الخامنئي (السيرة والمسيرة)، إعداد مركز باء للدراسات، الدار الاسلامية، ط1، 2002م، بيروت-لبنان.

التعليقات (0)

اترك تعليق