فلسفة الحجاب
إن الفلسفات التي ذكرناها من قبل للحجاب كانت في أغلبها مسوغات وضعها مخالفو الحجاب الذين سعوا إلى إظهاره - حتى في صيغته الإسلامية - على أنه شيء مخالف للمنطق والعقل، ومن الطبيعي أن المرء إذا افترض أمراً ما منذ البداية على أنه أمر خرافي، فإن مسوغاته التي ينحتها تتناسب مع تلك الخرافة، ولو أن الباحثين كانوا محايدين في بحثهم هذه المسألة، لأدركوا أن فلسفة الإسلام في الحجاب لا تدخل ضمن أي من تلك المسوغات الفارغة التي قالوا بها.
إننا فيما يتعلق بحجاب المرأة في الإسلام نقول بفلسفة خاصة تؤيدها النظرة العقلية، وإذا حللناها نجد أنها أساس الحجاب في الإسلام.
كلمة (الحجاب)
قبل أن ندخل في التفاصيل ما استنبطناه في هذا الشأن لا بد لنا أن من أن نشير إلى نقطة مهمة، وهي المعنى اللغوي لكلمة (الحجاب) التي تستعمل في عصرنا هذا لتدل على الستر الذي تلبسه المرأة. كلمة الحجاب تعني اللباس والارتداء، كما تعني الستارة والحاجب، وأكثر استعمالها للستارة، وهو ما يحجب شيئاً عن شيء ويحول بينهما.
ويمكن القول، لغوياً، إن كل ما يرتديه الإنسان ليس حجاباً، إنما الحجاب هو ما يخفي الإنسان كما لو كان وراء ستارة. جاء في قصة سليمان في القرآن الكريم وصف لغروب الشمس هكذا:«حتى توارت بالحجاب» (سورة ص: الآية 32) أي إلى أن اختفت الشمس وراء ستارة، كما إن الحاجز الذي يفصل القلب عن المعدة يسمى الحجاب، وفي العهد الذي كتبه أمير المؤمنين (ع) لمالك الأشترقال: "فلا تطولن احتجابك عن رعيتك". أي كن بين الناس ولا تختفي بين جدران الدار، ولا تجعل بينك وبين الناس حجاباً، بل عرض نفسك لملاقاة الناس وللاختلاط بهم حتى يتمكن المستضعفون والفقراء من أن يشكوا إليك حاجاتهم، فلا تكون جاهلاً بما يدور حولك.
ولابن خلدون في مقدمته فصل بعنوان (فصل في الحجاب) وكيف يقع في الدول، وإنه يعظم عند الهرم فيقول أن الحكومات في بدء تشكيلها لا تضع حائلاً بينها وبين الناس، ومن ثم يظهر الحائل والستار ويعظم شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى حدود لا تحمد عقباها، فهنا يستعمل ابن خلدون كلمة الحجاب بمعنى الحاجز والستارة، لا بمعنى الرداء واللباس.
أما استعمال الحجاب للمرأة فمصطلح جديد نسبياً. وفي مصطلح الفقهاء القدامى كانت كلمة (الستر) هي المستعملة بمعنى الحجاب اليوم، فهم يستعملون في كتاب الصلاة والنكاح - اللذين يتناولان هذا الموضوع - كلمة (الستر) بدل (الحجاب). وكان من الأفضل لو أن هذه الكلمة لم تتغير وبقيت على حالها كالسابق (الستر)، وذلك لأن معنى الحجاب الشائع هو الستارة فاستعمالها لتستر المرأة قد يعني بقائها وراء الستارة، ولعل هذا هو الذي دفع بالكثيرين إلى الظن بأن الإسلام يريد المرأة أن تبقى وراء الستارة وحبيسة الدار دائماً، فلا تخرج منها.
إن الحجاب الذي يأمر به الإسلام للمرأة ليس البقاء في الدار وعدم الخروج منه, فليس في الإسلام ما يدعو إلى حبس المرأة. فقد كان هذا سائداً في بعض البلدان قديماً, كما في الهند وفي إيران,إلا أن هذا ليس من الإسلام في شيء.
إن حجاب المرأة في الإسلام يعني أن على المرأة أن تستر بدنها عند اختلاطها بالرجل، وأن لا تتبرج وتتزين. وهذا ما تقوله الآيات الخاصة وتستند إليه أو تعتمده فتاوى الفقهاء.
دعونا نبيّن حدود هذا الحجاب الإسلامي بحسب ما ورد في القرآن الكريم والسنّة النبوية.
إن كلمة الحجاب لا ترد في الآيات الخاصة بهذا الموضوع، لقد وردت هذه الآيات في سورتي النور والأحزاب، وهي تحدد حجاب المرأة وحدود اختلاط المرأة بالرجل بغير أن ترد كلمة الحجاب. أما الآية التي ترد فيها الكلمة فهي الآية التي نزلت بشأن نساء النبي (ص).
نعلم جميعاً أن في القرآن الكريم آيات خاصة بنساء النبي (ص)، وأولى هذه الآيات هي التي تقول: «يا نساءَ النبيَ لستنَ كأحد من النساء» أي إن هناك اختلافاً بينهن وبين سائر النساء. لقد عني القرآن عناية خاصة بنساء النبي (ص) وبكونهن يجب أن يبقين في بيوتهن، سواء أثناء حياته أو بعد وفاته، لأسباب سياسية واجتماعية في الأغلب الأعم، فهو يخاطبهن صراحة بقوله:
«وقرنَ في بيوتكنَ» كأن القرآن يريد من (أمهات المؤمنين) اللواتي كان لهن مقام كبير بين المسلمين أن لا يسئن الاستفادة من ذلك المقام، وأن لا يصبحن وسائل بيد أشخاص من محبي ذواتهم ومن محبي الفتن. وكما نعلم، كانت عائشة واحدة من (أمهات المؤمنين) ولكنها خالفت هذا الأمر فأثارت حوادث سياسية فاجعة للعالم الإسلامي. وقد تأسفت في ما بعد على ذلك ولطالما كانت تقول: وددت لو كان لي العديد من الأبناء من رسول الله وأراهم يموتون جميعاً، ولا أخرج فيما خرجت فيه.
وهذا نفسه السبب الذي من أجله منعت زوجات النبي (ص) من الزواج بغيره بعده، أي لكي لا يسئ الزوج الثاني استغلال مركز الزوجة الكبير بين المسلمين فيحدث الفتوق ويثير الفتن، وعليه فإن هذا التشديد والتوكيد إنما يختص بنساء النبي (ص) لما ذكر من أسباب.
على كل حال، فإن الآية التي وردت فيها كلمة: حجاب هي الآية 54 من سورة الأحزاب التي تقول: «وإذا سألتموهنَ متاعاً فاسألوهنَ من وراء حجاب».
فإذا قيل في التاريخ أو في الحديث أنه حصل كذا بعد نزول آية الحجاب أو قبل نزولها، فالمقصود هي الآية المذكورة الخاصة بنساء النبي (1) وليس آيات سورة النور، التي تقول: «قل للمؤمنينَ يغضوا من أبصارهم» إلى قوله سبحانه «قل للمؤمنات يغضضن... » وإلى آيات سورة الأحزاب«يدنين عليهن من جلابيبهن... » إلخ.
أما لماذا تغيرت كلمة الستر التي كانت رائجة قديماً عند الفقهاء وأصبحت اليوم يعبر عنها بكلمة (الحجاب) فلا اعلم لذلك تفسيراً، وقد يكون السبب هو الخلط بين الحجاب الإسلامي والحجاب الذي كان سائداً بين الأقوام في السابق، وهذا ما سوف نوضحه أكثر فيما بعد.
الوجه الحقيقي لقضية الحجاب
في الحقيقة إن قضية الستر. أو بالتعريف الحديث، قضية الحجاب، ليست في وارد البحث عما إذا كان الأفضل أن تظهر المرأة في المجتمع متسترة أم عارية، إن روح القضية تتلخص في هذا السؤال:
هل ينبغي أن تكون المرأة والتمتع بها مباحاً للرجل؟ هل يجوز لكل رجل في كل مجتمع أن يتمتع بكل امرأة إلى الحد الأقصى، عدا الزنا، أم لا؟
إن الإسلام الذي ينظر إلى روح كل قضية، يقول: لا.
إن الرجل لا يجوز له ذلك إلا في المحيط العائلي وفي ظل قانون الزواج ووفق شروط وتعهدات ثقيلة. ففي هذه الظروف وحدها يجوز للرجل أن يستمتع بالمرأة كزوجة، أما في المجتمع الخارجي فإن تمتع الرجل بامرأة أجنبية ممنوع، كما أن المرأة ممنوع عليها أن تنيل أي رجل كان ما يشاء منها، وبأي شكل كان، عدا زوجها.
صحيح أن ظاهر المسألة يبدو هكذا. إذن، ماذا تفعل المرأة؟ هل تخرج متحجبة أم عارية؟ أي إن القضية تبدو كأنها تدور حول المرأة فحسب. وقد يطرح السؤال أحياناً بلهجة من يرثي لحال المرأة، فيقول: هل الأفضل أن تكون المرأة حرة أم أن يحكم عليها بالأسر تحت طيات الحجاب؟ إلا أن روح القضية وباطنها شيء آخر، وهي: هل للرجل أن يكون مطلق الحرية في التمتع بالمرأ جنسياً - عدا الزنا أم لا؟ أي إن المستفيد في القضية هو الرجل، لا المرأة، أو، على الأقل، فائدة الرجل في هذه القضية أكثر من فائدة المرأة. فكما يقول (ويل دورانت): "إن الفستان القصير نعمة لكل العالم، عدا الخياطين".
إذن، فروح القضية هي: قصر التمتع بالمرأة على الحياة الزوجية بين الزوجين شرعيين، أو حرية التمتع وانسحاب ذلك على المحيط الاجتماعي أيضاً. إن الإسلام يؤيد الشرط الأول من الفرضية.
نعم، إن الإسلام يرى اقتصار هذه المتع الجنسية على الزوجين في حياة عائلية مشروعة يفيد، أولاً نفسياً، وفي تحسين الصحة النفسية عند المجتمع، ويفيد كذلك في تمتين العلاقات العائلية بين أفراد العائلة، وفي توطيد الروابط بين الزوجين، كما يفيد اجتماعياً، وفي الحفاظ على قوى المجتمع ونشاطه، ناهيك عن فائدته في رفع قيمة المرأة في عين الرجل.
يمكن تلخيص فلسفة الحجاب الإسلامي في نظري، في عدة أمور، بعضها نفسي، وبعضها عائلي، وبعضها اجتماعي وبعضها يرفع من مقام المرأة، ويحول بينها وبين التبذّل أو الابتذال.
إن جذور الحجاب في الإسلام تستقي من أرضية أوسع ومنبع أعمق.
فالإسلام يريد أن يحصر جميع أنواع التلذذ الجنسي، البصري واللمسي وغير ذلك، ضمن حدود الحياة الزوجية وقوانين الزواج، لكي يتجه المجتمع نحو العمل وبذل الجهد، وهذا يغاير النظم الغربية في العصر الحاضر، إذ إنها تمزج العمل بالمتع الجنسية. إن الإسلام يريد أن يفصل بين هذين المحيطين فصلاً تاماً، ولمصلحة عليا لا يمكن الإحاطة بها بعجالة.
في ما يلي توضيح الأمور الأربعة المذكورة بشيء من التفصيل:
1- الاطمئنان النفسي:
إن انعدام (الحرمة) بين المرأة والرجل، وحرية المعاشرة بلا قيد أو شرط، تزيد من هيجان الرغبة الجنسية، تظهرها على صورة تعطش روحي وحاجة غير قابلة للإشباع. إن الغريزة الجنسية غريزة قوية عميقة الأغوار، كلما استجبت لها ازدادت عتواً؛ كالنار التي تزداد اشتعالاً كلما لقمتها حطباً. 1 ولكي نفهم هذا يجب أن نلاحظ أمرين:
الأمر الأول: كما إن التأريخ يذكر لنا مشاهير البخلاء الشرهين الذين يندفعون بحرص شديد ومحير للعقول لاكتناز المال، وكيف إنهم كلما ازدادوا ثروة ازدادوا حرصاً وطمعاً، فإنه يذكر لنا أيضاً عن مشاهير الحريصين الشرهين على الصعيد الجنسي، فهؤلاء أيضاً لا يقفون عند حد في امتلاك النساء الجميلات، وربما هم الذين سببوا فكرة (الحريم) وكثيرون مثلهم ممن لهم القدرة على ذلك.
يقول (كريستنسن) في كتابه (إيران الساسانيين):
"في لوحة الصيد في طاق بستان نشاهد بضع نساء فقط من الثلاثة آلاف امراة اللواتي كان خسرو (برويز) يحتفظ بهن في حريمه، فهو لم يكن يشبع أبداً من هذه الرغبة. فحيثما أخبروه عن وجود امرأة جميلة، باكرة كانت أم ثيباً أم ذات أولاد، فسرعان ما كان يضمها إلى حريمه. وإذا رغب في تجديد حريمه، كتب الرسائل إلى ولاته يدرج فيها أوصاف النسوة اللواتي يريدهن، فكان أولئك كلما عثروا على امرأة تطابق تلك الأوصاف بهثوا بها إليه".
إضراب هؤلاء كثيرون في التاريخ. أما اليوم فلم يعد للحريم وجود بصورته القديمة، وإنما هو موجود بشكل آخر. كما إن أحداً لم يعد بحاجة اليوم إلى أن يكون له مثل خسرو برويز أو أن هارون الرشيد وما كان لهما من المال والثراء. إذ إن الرجل المعاصر، وإن لم يبلغ من الإمكانات عشر ما كان لخسرو وبرويز وهارون الرشيد إلا إنه قادر بفضل المدينة الغربية على أن يتمتع بعدد من النسوة لا يقل عما كان يتمتع بهن أولئك الأباطرة.
الأمر الثاني: هل خطر ببالك يوماً أن تفكر في ماهية ما تحس به من الرغبة في (التغزل)؟ إن جانباً واسعاً من الأدب العالمي يختص اليوم بالحب والغزل، حيث يقوم الرجل بالتغزل والهيام بحبيبته، فيتضرع على أعتابها، ويستعظمها ويستصغر نفسه، وتأسره أتفه التفاتة منها، وينوح على فراقها، وربما يندب حظه على ذلك.
فلم كل هذا؟ لماذا لا يفعل الإنسان مثل هذا بالنسبة لحاجاته الأخرى؟ هل طرق سمعكم أن بخيلاً يعبد المال، أو وضيعاً يعبد الجاه قد توسل لبلوغ المال أو الجاه بمثل هذا التغزل؟ هل رأيتم أحداً يتغزل بالخبز مثلاً؟ ثم لماذا يعجب المرء بأشعار الأخرين وتغزلهم؟ لماذا يلتذّ الناس بقرأة ديوان حافظ إلى هذا الحد؟
أليس ذلك لأن الجميع يرونه ينطق على لسان غريزة فيهم عميقة ربما تستوعب وجودهم كله؟ ما أشد شطط الذين يقولون أن العامل الرئيس في نشاط الإنسان هو العامل الإقتصادي!
إن للإنسان موسيقى خاصة يعزفها لعشقه الجنسي، مثلما أن له موسيقى خاصة يعزفها للمشاعر المعنوية، ولكنه لا يضع على الإطلاق موسيقى خاصة لحاجاته المادية الدنيوية الأخرى، كالماء والخبز مثلاً.
إنني لا أزعم أن الحب كله جنسي ولا يصح لي أن أقول أن حافظاً وسعدي وغيرهما من شعراء الغزل، قد تغزلوا بلسان الحب الجنسي، فهذا بحث آخر ينبغي شرحه في مجال آخر.
ولكن المسلّم به هو أن الكثير من الحب والغزل قد أنشده الرجل للمرأة. وهذا يكفي لكي نعرف إن توجه الرجل إلى المرأة ليس من نوع التوجه إلى الماء والخبز الذي يمكن إشباعه بملء المعدة بالماء والخبز، بل إنه يظهر إما بصورة الحرص والشره وحب التنوع، أو بصورة حب وعشق وعزل. وهذا ما سوف نشرحه في ما بعد لنرى كيف يشتد الحرص الجنسي، ومتى يكون بصورة حب وغزل وللحد الذي يسمو وقد تراه يتخذ مسحة عرفانية أو روحية.
وعلى كل حال، فإن الإسلام أولى عناية تامة لهذه الغريزة العجيبة، هناك أحاديث وروايات كثيرة عن خطر (النظرة) وخطر الاختلاء بالمرأة، وأخيراً خطر هذه الغريزة التي تربط الرجل والمرأة برباط شديد.
لقد وضع الإسلام تدابير خاصة لتطويع هذه الغريزة وتقويمها، فعين ما ينبغي للرجل وللمرأة كليهما أن يفعلا. فبالنسبة (للنظر) مثلاً وضع للرجل والمرأة واجباً واحداً مشتركاً، إذا قال سبحانه:«قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروحهم».«قل للمؤمنات يغضضنَ من أبصارهن ويحفظن فروجهن».
خلاصة هذا الأمر أن على الرجل والمرأة أن يمتنعا عن النظر إلى المحارم، فلا يحدقا النظر بعضهما إلى بعض بنظرات فيها الشهوة والرغبة، أو الشره والابتذال.
أي أن نظر أحدهما إلى الأخر لا يكون بقصد التلذذ، وهناك واجب يختص بالنساء، وهو أن يسترن أبدانهن عن الرجال الأجانب، وأن لا يظهرن زينتهن في المجتمعات ولا أن يبدين التغنج والدلال. إن عليهن أن لا يرتكبن أمراً أو يفعلن فعلاً، من شأنه، بأي شكل أو صورة أو لون أو ذريعة يستثرن الرجل من خلاله، أو يحركن غرائزه بشكل مثير.
إن الرجل سريع التهيج أو الإثارة، وإنه لمن الخطأ القول بأن لتقبل الإنسان الإثارة حدوداً إذا ما بلغها عاد إليه الهدوء. فكما إن الإنسان، رجلاً كان أم امرأة، لا حدود لحبه المال والحياء ولا يشبعه منهما شيء، كذلك هو في غريزته الجنسية، فما من رجل يشبع من النظر إلى وجه جميل، وما من امرأة تشبع من اجتذاب قلوب الرجال، وأخيراً، ما من قلب يشبع من الهوى والهوس إن لم تقل الحب والغزل.
ولكن الطلب غير المحدود، من جهة أخرى، لا يمكن تحقيقه، شئناً أم أبينا، ويكون دائماً مصحوباً بشعور بالحرمان، وهذا الحرمان بدوره يؤدي إلى الاضطرابات الروحية والأمراض النفسية.
ترى، ما سبب ازدياد الأمراض النفسية في الغرب؟ ربما يكون السبب الرئيسي هو الحرية الجنسية، والإثارات الشهوانية التي تواجه الرجل يومياً وكل ساعة وربما كل دقيقة عبر الجرائد والمجلات والسينمات والمسارح والحفلات الرسمية وغير الرسمية، وحتى في الشوارع والحدائق والأزقة.(3)
أما لماذا اختصت المرأة بالحجاب في الإسلام، فذلك لأن حب الظهور والتظاهر والتجمل تختص به المرأة، ومن حيث امتلاك القلوب يكون الرجل هو القنيص والمرأة هي القناص. كما إن الرجل من حيث امتلاك جسد المرأة يكون هو القناص وتكون المرأة هي القنيص. إن حب المرأة التجمل والظهور بأبهى زينة ينبع من نزوعها إلى اصطياد الرجل، إذ لم يلحظ في أي مكان من العالم أن ارتدى الرجل ملابس أو تزين بزينة لغرض الإثارة الجنسية. إن المرأة هي التي تسعى، بحكم طبيعتها، إلى الظهور بهذه المظاهر لإيقاع الرجل في شباكها وأسره بحبائل حبها، لذلك فإن الانحراف الذي يكمن في التبرج والتعري أشد خطراً من الانحرافات الخاصة بالأنثى. ولهذا خص الإسلام الإناث بالحجاب دون الرجال.
إننا سوف نتوسع في بحثنا بشأن خطورة اشتداد الغريزة الجنسية، وكيف إن هذه الغريزة - وعلى العكس مما يقوله أناس من أمثال راسل - الداعي لتحريرها من كل قيد، وبتوفير كل وسائل الإثارة والتهيج التي لا يمكن إشباعها أبداً. وسوف نواصل كذلك كلامنا على الإنحراف (النظري) في الرجال، والانحراف في التبرج عند النساء.
2- إستحكام الروابط العائلية
لا شك في أن كل ما يوطد العلاقة العائلية، ويتسبب في استحكام الروابط بين الزوجين يكون مفيداً للحياة العائلية، ويستوجب الاستزادة بين منه على قدر الإمكان، على العكس من ذلك، فإن كل ما يضعف من هذه الروابط بين الزوجين ويوجد بينهما الفتور والانكماش، يكون مضراً بالحياة العائلية، يستوجب مكافحته والقضاء عليه.
كل هذا ما دمنا نعتقد أن العائلة والتشكيل الأسري للمجتمع والدولة مهمان في إقامة النظام الاجتماعي الأمثل.
إن خطر الاستمتاع والتلذذ الجنسي بالمحيط العائلي وضمن العلاقة الزوجية المشروعة يزيد من استحكام وتمتين الروابط الزوجية المشروعة يزيد الزوجين اقتراباً من بعضهما. إن فلسفة الحجاب ومنع المتعة الجنسية إلا عن طريق الحياة الزوجية المشروعة، من وجهة نظر علم الإجتماع، يساهم في بناء العائلة، وهذا يعني إن الزواج الشرعي يسبغ السعادة والراحة على نفسية طرفي الزواج ومزاجهما. أما في حال التحرر الجنسي فيكون الزوجان القانونيان، من جانب وضعهما النفسي، طرفين متنافسين، ويرى كل منهما الآخر حائلاً في طريقه، وتكون النتيجة أن الحياة العائلية في هكذا أسرة ستقوم على أساس من العداء والنزاع والنتافر.
وهذا هو السبب الذي يحدو بشبابنا اليوم إلى التهرب من الزواج، فكلما عرضت عليهم الزواج قالوا: إن الوقت لم يحن بعد، وأننا ما زلنا صغاراً على الزواج، أو تذرعوا بشتى الأعذار للهروب من الوقوع في: (شرك) الزواج، بينما كان الزواج في السابق من حلى أمنيات الشبان، وقبل أن يرخص سعر المرأة إلى هذا الحد ببركة المدينة الأوروبية الحديثة، كانت ليلة الزفاف لا تقل في نظر الشاب عن (عرش السلطان).
كان الزواج يتم قديماً بعد قضاء مدة من الانتظار والأمل، ولهذا كان الزوجان يعتقدان أن أحدهما كان سبباً في سعادة الآخر.
أما اليوم فإن التمتع الجنسي خارج محيط الزواج باغ حدّاً لم يعد هناك ما يدعو إلى التطلع نحوه والشوق إليه.
إن المعاشرة الحرة بين الفتى والفتاة الخالية من كل قيد أظهرت الزواج في صورة الواجب أو التكليف الذي ينبغي توصية الشباب به، أو يجب أن يفرض على الشباب بالقوة، كما تقترح بعض الصحف هنا أو هناك.
إن الاختلاف بين المجتمع الذي يقصر الروابط الجنسية على الروابط الزوجية الشرعية، والمجتمع الذي لا يضع قيوداً على هذه الروابط، هو أن الزواج في المجتمع الأول يعتبر نهاية لفترة الحرمان، فيما هو في المجتمع الثاني بداية لفترة الحرمان، ففي المجتمع الذي تكون فيه العلاقات الجنسية حرة، يضع عقد الزواج الخاتمة لفترة حرية الفتى والفتاة ويضطرهما على الوفاء بعقد الزوجية، بينما في المجتمع الإسلامي يكون الزواج خاتمة لعهد الانتظار والحرمان.
إن نظام حرية الروابط الجنسية يحمل الشبان على تأخير موعد الزواج وتكوين عائلة وأبعاد أو إرجاء ذلك إلى أبعد حد ممكن، فلا يقدمون على الزواج إلا بعد أن تضعف قواهم ويخفت نشاطهم وتهبط فورة الشباب عندهم، وفي هذه الحالة فهم لا يريدون المرأة إلا للإنجاب، وأحياناً للخدمة، ثم إن هذا النظام يضعف الروابط الزوجية القائمة نفسها، وبدلاً من أن تكون الحياة الزوجية قائمة على أساس من التحاب والتوادّ والتفاهم، بحيث يرى كل من الزوجين أنه سعيد بزوجه، نجدهما على العكس من ذلك، إذ إن كل منهما ينظر إلى الآخر نظرة الرقيب وإن الآخر يسلبه حلايته ويقيد حركاته، حتى شاع استعمال (السجان) بحيث ينعت به الزوجان بعضهما بعضاً. فبدلاً من أن يقول الرجل أنه قد تزوج، يقول أنه قد اتخذ لنفسه سجاناً.
في مثل هذه الأجواء، لماذا؟ لأنه كان قبل الزواج حراً، يذهب حيثما يشاء، يرقص مع من يشاء، يغازل من يشاء، بغير أن يقول له أحد شيئاً، ولكن الزواج قد وضع حداً لتلك الحرية،فإذا تأخر في ليلة من الليالي يكون موضع تأنيب الزوجة، وإذا راقص في حفلة احداهن بشيء من الحماس، عنفته زوجته على ذلك، من هنا يتضح مدى ما يصيب الحياة الزوجية في مثل هذا النظام من الضعف والشك والريبة وفقدان الثقة.
يرى بعضهم - مثل برتراند راسل - إن الحيلولة دون المعاشرة الحرة إنما هي لمجرد تطمين الرجل بشأن ميلاد أبنائه من صلبه، ولذلك فهم يقترحون استعمال موانع الحمل، بينما القضية ليست قضية النسب وطهارته فحسب، بل هناك أيضاً قضية خلق أطهر العواطف وأنبلها بين الزوجين، وتوطيد وحدتهما واتحادهما الكاملين في إطار الحياة العائلية، وهذا الهدف لا يمكن بلوغه إلا بامتناع الزوجين عن التمتع الجنسي من غير طريق شريك الحياة، وأن يمتنع الزوج عن النظر برغبة إلى غير زوجته، وأن تمتنع الزوجة عن محاولة إغراء رجل غير زوجها، وهذا لا يحصل إلا أن يكون الطرفان قد امتنعا، حتى قبل الزواج، عن كل تمتع جنسي غير مشروع.
ثم، إن المرأة التي تحررت وغدت من أتباع (راسل) أو أنصار مدرسة (الأخلاق الجنسية الجديدة) وأمثالهم، فراحت تهمل زوجتها وتبحث عن الحب في مضان أخرى، فتتصل اتصالاً جنسياً مع من تحب، ما الذي يضمن أنها لكيلا تحمل من زوجها الشرعي الذي قد لا تحبه أن تتوسل باستعمال موانع الحمل معه، ولا تستعملها مع عشيقها، ثم تلصق أبنائها غير الشرعيين مع زوجها الشرعي؟
بديهي أن امرأة متحررة كهذه ترغب في أن يكون أولادها من صلب العشيق الذي تحب، لا من صلب الزوج الذي تكره أو لا تحب، على الرغم من أن القانون يمنعها من أن تحمل من غير زوجها القانوني. وكذلك الحال مع الرجل ذي العشيقة، فهو أيضاً يحب أن يكون له أولاد من عشيقته التي يحبها، لا من زوجته القانونية.
إن الإحصاءات الأوروبية تؤكد أنه على الرغم من انتشار وسائل منع الحمل، فإن عدد الأطفال غير الشرعيين عدد مخيف ومرعب.
3- المجتمع المتين
إن إخراج التمتع الجنسي من المحيط الزوجي إلى المحيط الاجتماعي يضعف من قوة العمل والنشاط في المجتمع، وعلى العكس مما يقوله مناوئو الحجاب من أن الحجاب يشل نصف أفراد المجتمع عن العمل، فإن السفور وإشاعة العلاقات الجنسية الحرة يسبب شلل قوى المجتمع.
إن ما يوجب شلل قوى المرأة والحجر على مؤهلاتها ليس هو الحجاب الذي يصوره خصومه بصورة سجن المرأة الذي يحرمها من النشاطات الأدبية والاقتصادية والاجتماعية. إذ لا يقول أن على المرأة أن تكون جليسة الدار، ولا يقول أن ليس لها حق الارتواء من مناهل العلم، بل أنه يرى تحصيل العلم والمعرفة فريضة على الرجل والمرأة كليهما، ولا هو يحرم المرأة من أي نشاط اقتصادي خاص.
إن الإسلام لا يمكن أن يرغب في أن تبقى المرأة عاطلة عن العمل فتكون عالة غيرها إطلاقاً. إن ستر البدن، عدا الوجه والكفين، لا يحول دون قيام بأي عمل من الأعمال، ثقافياً كان أم اجتماعياً أم اقتصادياً، إن ما يؤدي إلى شلل قوى المجتمع هو تلويث محيط العمل بالأهواء الشهوانية التي لا حدود لسعارها ولا شواطئ ولا اكتفاء.
قل لي بالله عليك، إذا جلس الفتى مع فتاة على مقلعد الدرس، ثم تكون الفتاة قد سترت جسمها ولم تضع شيئاً من الأصباغ على وجهها، فهل يدرس الاثنان بصورة أفضل ويتوجهان إلى ما يشرحه الأستاذ توجهاً أعمق، أم إذا كان بجانب فتاة ترتدي فستاناً قصيراً يرتفع عن ركبتيها بما لا يقل عن الشبر!؟ ثم قل لي إذا كان الرجل وهو في الشارع أو في السوق أو في المكتب أو في العمل يرى المرأة وهي في وضع محرك للشهوة ومثير للانفعال والغريزة، فهل يكون أقدر على انجاز العمل والانهماك فيه؟! أم في محيط خالٍ من كل ذلك؟ إذا لم تصدقوا، فاسألوا الذين يشتغلون في مثل هذا الجو.
إن كل مؤسسة أو شركة أو دائرة تريد أن تجري الأمور فيها بدقة وعلى أحسن وجه، تمنع حصول مثل هذا الجو في محيطها، وإن لم تصدقوا هذا، فتحققوا منه.
الحقيقة هي أن السفور الفاضح الشائع عندنا (4)، والذي أخذنا نسبق فيه حتى الأوروبيين والأمريكيين، إنما هو من خصائص المجتمعات الرأسمالية الفاسدة الغربية، وهو واحد من نتائج حب المال والتبذل لدى أصحاب الملايين الغربيين، بل إنه واحد من الوسائل والطرق التي يتوسلون بها لتخدير المجتمعات الإنسانية وإجبارها على أن تكون مجرد مجتمعات تستهلك ما تنتجه مصانعهم.
نشرت صحيفة اطلاعات تقريراً صادراً عن اللجنة المشرفة على المواد الاستهلاكية، جاء فيه عن مواد التجميل ما يلي:
"خلال سنة واحدة استوردت البلاد 210 آلاف كيلو من مواد التجميل. مثل (الماتيك) و(الحمرة) و(الكريم) و(البودره) و(الرميل) الخاص بالنساء، وقد بلغت كمية (الكريم) 181 ألف كيلو من هذه الكمية، وقد منحت خلال الفترة المذكورة إجازات باستيراد 1650 علبة بودره و2500 علبة بودره للوجه، 4604 أصابع ماتيك، و2280 قالب صابون للنحافة، و2280 حقنة للتجميل، ويضاف إلى ذلك 3100 قطعة لتظليل العين، و 3400 قطعة لتخطيط العين".(5)
أجل، صار على المرأة الإيرانية، وبحجة (التجدد) و(التقدم) و(مقتنيات العصر) أن تعرض نفسها على المتفرجين كل يوم وكل ساعة بزينة جديدة. فما تصدره لها معامل الرأسماليين في الغرب لكي تكون جديرة بأن تصبح من مستهلكي المصانع الغربية صار عليها أن تكون آلة دعاية له ولترويجه، أما إذا شاءت المرأة الإيرانية أن تتجمل لزوجها الشرعي القانوني، أو للحضور في المحافل النسوية فقط، فإنها ستكون عندئذ قد خذلت الاستعمار الغربي في تحقيق الهدف الذي يصبو لتحقيقه هن طريقها، وهو إفساد أخلاق الشباب، وإضعاف إراداتهم، وجعل النشاط الاجتماعي في سبات عميق أو قل حشره والنأي به بعيداً إلى مهاوي الركود والكسل والخمول.
أما في المجتمعات غير رأسمالية، فقلما نسمع وقوع أمثال هذه الانحدارات باسم حرية المرأة، على الرغم من اتجاهاتها العلمانية أو اللادينية.
4- قيمة المرأة واحترامها
سبق أن قلنا إن الرجل متفوق على المرأة من حيث قواه الجسدية والبدنية، أما من حيث قواه العقلية، فإن تفوق الرجل قابل، في الأقل للبحث والدرس. إن المرأة لا تستطيع أن تقارع الرجل في هذين الميدنين، إلا أن المرأة في ميدان المشاعر والعواطف فقد أثبتت تفوقها على الرجل، إن احتفاظ المرأة بحاجز الحريم بينها وبين الرجل كان على الدوام من الوسائل الغامضة التي ما فتئت المرأة تستخدمها لتوطيد مركزها ومقامها عند الرجل.
إن الإسلام يحث المرأة على استخدام هذه الوسيلة دائماً، بل يقول إن المرأة كلما كانت أعف وأكثر تحفظاً وأشد وقاراً في حركاتها وسكناتها وتجنبت استعراض مفاتنها أمام عيني الرجل، ازدادت في نظره قيمتها وتعاظم عنده مقامها.
وفي ما يأتي من شرح في تفسير سورة الأحزاب سوف نجد أن القرآن الكريم بعد أن يوصي المرأة بالستر، يقول: «ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين».
أي إن الخير في أن تشتهر المرأة بالعفاف، وإن لا تظهر من المبتذلات اللواتي يضعن أنفسهن تحت تصرف الرجال، بهذا الثنائي والاحتشام تنأى بنفسها، بل تبعد عن نفسها مضايقات الحمقى وخفيفي العقول من الشبان و(مراهقي) الرجال - إذا صح التعبير-.
1- انظر صحيح مسلم، ج 4 ص148 - 151.
2- أو كلما وصفها أحدهم بقوله: "الغريزة الجنسية بارود مودع في صندوق من الحياء والعفة" ولا ينبغي تفجيره بإزالة الحياء، وإلغاء العفة (المراجع).
3- ولعلّ ما يمكن إضافته اليوم هو ما باتت تعرضه الفضائيات هذه الأيام وكيف صارت هذه الأمراض أشد وأنكى، حيث استفحل سعار الجنس ولم يعد للحب المقدس معنى إلا في القصص والروايات والأساطير (المراجع).
4- وهذا طبعاً زمن حكم الشاه الذي كانت فيه طهران تسمى باريس الشرق الأوسط، وليس في ظل النظام الحالي الذي يختلف كثيراً عن النظام السابق من هذه الناحية.
5- كل هذا كان زمن النظام السابق طبعاً، ولا ندري، إذا كانت هذه "الصفقات" قد تقلصت الآن أم زادت (المراجع).
المصدر:
كتاب حجاب المرأة المسلمة في القرآن والسنة، الأستاذ الشهيد مرتضى مطهري، دار الكتب العراقية، ط 2011م، بيروت- لبنان.
اترك تعليق