مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

كاتب يروي زيارة سماحة قائد الثورة الإسلامية لعائلة الشهيد الآشوري «روبرت لازار»

كاتب يروي زيارة سماحة قائد الثورة الإسلامية لعائلة الشهيد الآشوري «روبرت لازار»

«يا حاجّة! أنا مدين لك باعتذار.. الشخص الذي من المقرر أن يتفضل بالمجيء بعد دقائق إلى منزلكم هو السيد الخامنئي...» ما اكتملت العبارة حتى كانت دموع الوالدة جارية على خدّيها. لكن الأخوين يطلبان فرصة إضافية ليصدّقا ما سمعا، فرصة لا تتعدى الثواني. وتخنق العبرات آلفرد وآلبرت مع أول كلمات يلهجون بها...
لا نتعجّب لتعجّبهم، تعجبهم بنفس درجة تعجبنا عندما دخلنا المنزل المسيحي ووجدنا على الجدار صورتين فقط، إحداهما للشهيد روبرت لازار والثانية تجمع الإمام الخميني والسيد الخامنئي، صورتين قديمتين.
الساعة السادسة والنصف مساء. ليس في المنزل سوى والدة الشهيد وأخويه. الكنّات والأحفاد ذهبوا للكنيسة لإحياء مراسم ليلة ولادة السيد المسيح عليه السلام. الوالدة كانت قبل دقائق تصرّ دائماً على أن نتناول من الفاكهة والحلويات والمكرّزات الخاصة بليلة عيدهم، وها قد زاد إصرارها الآن. أطمئنها بكلمة واحدة: «انتظري حتى يأتي السيد ويخرج، وسنفرغ لكِ الطاولة بأكملها» تبتسم وتجلس على الكنبة إلى جوار شجرة صنوبر صناعية صغيرة. البيت صغير جداً والأمّ قلقة من زيارة على مسؤول في البلاد لهذا البيت الصغير. لكن المشرفين على الزيارة يحاولون طمأنتها بعدم أهمية هذا الشيء. طلبوا منها السماح لهم بتغيير أماكن الكنبات وطاولة الطعام ليتسع المكان بضعة أمتار. يجلس أخوا الشهيد إلى جوار أمّهم.
يفتح آلفرد باب الحديث: «سنة 75 [1996 م] كنتُ قادماً من كاشان إلى طهران فوقع لي حادث مروري. أخذوا وثائقي إلى مدينة قم. ذهبتُ إلى قم فقالوا إن الضابط المسؤول ذهب إلى مسجد جمكران. كان الوقت شهر رمضان. كان أمامي سبيلان. إما أن أترك وأعود إلى طهران وأرجع بعد أيام، أو أذهب إلى جمكران. قلتُ مع نفسي قطعتَ هذا الطريق مرات ومرات كل هذه المدة ولم تذهب إلى جمكران ولا مرة. كانت ليلة الأربعاء وشهر رمضان، ومسجد جمكران يضج بالزوار. قلت: يا صاحب الزمان! إإتني بنبأ عن أخي هل هو حيّ أم شهيد. لم أكن أعرف صاحب الزمان، لكني وجدت الناس كلهم يدعون ويصلون فآنس فؤادي أن أدعُ لأخي المفقود في الجبهة منذ أعوام. وجاءني في تلك اللحظات شخصٌ يوزّع جفاناً من «الآش». وناولني شخص قطعة من الخبز. باختصار انتهى شغلي مع الضابط ورجعتُ إلى طهران. يوم الأربعاء كنتُ في طهران. أخبرونا يوم الخميس من معراج أن أخي قد عاد، وسيشيّع غداً مع 1000 شهيد آخر. غداً كان يوم القدس. والدتي لم تكن تعلم بأيّ شيء. وقع في قلبها شيء. ذهبت لصلاة الجمعة لتشييع الشهداء. كان الزحام عظيماً يومها. ما من تشييع حصل بهذه الحشود. كثير من أبناء حارتنا المسلمين حضروا تشييع جنازة أخي. تجمّعوا في كنيسة مارغيوغيز وراحوا يلطمون الصدور ويردّدون: سيدنا عيسي المسيح صاحب العزاء اليوم.
تقدم أحد المسؤولين وقال: «يا حاجّة! أتذكرين في سنة 86 [2007 م] قلتِ إنكِ تريدين زيارة القائد؟ سيحضر السيد الآن لمنزلكم...». الوالدة كأنها ذاهلة عن ما يدور من حديث، ولا تتعجب حتى من عبارة «الحاجّة». إنها في عالمها الخاص. تقول: «قلتُ للجميع ليتَ السيد يأتي لزيارتنا أو نذهب لزيارته». يذهب آلفرد ويأتي بصحيفة قديمة. «صحيفة همشهري، المنطقة 11 بطهران، 12 دي 86 [2 کانون الثاني 2008 م]». فيها لقاء بنصف صفحة مع والدة الشهيد، وكتبوا في مناشيت «الوالدة في لقاءاتها المتعددة مع مسؤولي مؤسسة الشهداء طلبت منهم أن يوفروا فرصة للقاء القائد، لكنها بقيت دون جواب. يودّ قلبها أن ترى القائد وتتوقع تحقيق هذا الأمل».
تجاوزت الساعة السابعة مساء. تمسك الوالدة بزمام الحديث: «عندما ذهبتُ في قوافل السائرين إلى النور، لم أذهب لمكان استشهاد ولدي، كان بعيداً جداً. وما الفرق؟ كل الشهداء أولادي. دفنّا ولدي في مقبرة الأقليات الدينية على طريق ساوة. أزوره دوماً. كنت هناك قبل يومين. وسنذهب في عيد الفصح أيضاً. وفي عشرة الفجر أيضاً نذهب يوماً لمسح الغبار عن قبره...».
في هذه الأثناء وصل قائد الثورة. ذهبت الوالدة لاستقباله. يتقدم الأخوان ويسلمان بأدب. تقول الوالدة: «تحية لك.. تحية لكل شعب إيران». يقول القائد: «حفظك الله». تجيب الوالدة: «في ظلكم». ويدعو السيد: «حشر الله ابنكم مع أوليائه». يجلس الجميع وتقول الأم: «امتلأ كوخي الصغير. فرحتُ كثيراً لأنك تفضلت بالمجئ...» اختناقها بالعبرات لا يسمح بإتمام الكلمات. تتريث لحظات وتتابع: «قلتُ للجميع إن القائد هو لي أنا أيضاً. وهل هو للمسلمين فقط؟ إنه لكل الشعب».
يعتذر قائد الثورة لأنه وصل متأخراً ويبدي فرحته لهذا اللقاء في ليلة عيد الآشوريين. يسأل عن الشهيد كالعادة. يجيب آلفرد: «بقيتْ أيام قليلة على انتهاء خدمته العسكرية. لكنه لم يرض بالعودة. استشهد بعد قبول إيران بالقرار. قيل في البداية إنه وقع أسيراً. بعد ذلك عندما ذهبنا إلى رفيقه في القتال قال إنه كان خلف الرشاش إلى آخر لحظة. ألححنا عليه أن ينسحب إلى الوراء فلم يفعل. إلى أن سقطت قذيفة على خندقنا فجرح. وقعنا في الأسر. قالوا: أين الباقين؟ فقلنا لم يبق أحد. ضربوني بعقب البندقية على رأسي فغبت عن الوعي. عدتُ إلى الوعي في بعقوبة. سألتُ هل جئتم بأحد معي؟ فقالوا لا». وكانت هذه بداية قصة ثمانية أعوام من جهل أمّ مصير ابنها ذي الـ 22 ربيعاً.
يقول السيد إن هؤلاء مفاخرنا، لا لعائلة الشهيد فحسب بل لكل البلاد. يشير إلى أمن البلاد الذي هو ثمرة هذا الجهاد. ثم يشير للأمّ ويقول: «هذا ما يعلمه الجميع، لكن النقطة المهمة هي أن خلف هذا الجهاد هناك جهاد هذه السيدة. هذه المعنويات قيمة جداً. بعض الأحيان يبدي أحدهم جزعاً وثبوراً بحيث يمنع الباقين من مواصلة الطريق، لكن رضا الأم والأب وصبرهما يخلق هذه الأجواء. أين ما ذهبت من عوائل الشهداء وجدت الأمهات في الغالب بمعنويات أرفع من الآباء. نحن الرجال لا نستطيع أن ندرك مشاعر الأمهات. الرجال أيضاً يحبون أبناءهم لكن الأمهات يختلفن». يؤيد آلفرد كلام القائد: «ذهبتُ إلى معراج، وحين شاهدتُ الجثمان عرفته. كان أخي ضخم القوام جداً. عرفته من عظامه. ولكن قالوا يجب أن تأتي أمه لتؤيّد هويته». تخرج الأم من ذكرياتها: «ولدي كان بطلاً».
يعود القائد ليمسك زمام الكلام: «الأقلية المسيحية، سواء الأرمنيون منهم أو الآشوريون، خرجوا من اختبار الثورة والحرب مرفوعي الرأس، كإيرانيين أوفياء عقلاء شجعان و أصحاب بصيرة». تقول الأمّ وقد راحت تخرج من ذهول بداية اللقاء: «في كرمانشاه أقاموا مؤتمراً صحفياً. قلتُ إنني لا أجيد التحدث بالفارسية، فقالوا لا عليك. تحدثتُ أفضل من الجميع. قلتُ نحن المسلمين والمسيحيين يجب أن نضع يداً بيد ونبني إيران. قلتُ أعطوني سلاحاً لأذهب وأقاتل». نظر السيد وقال: «لو أعطوها لذهبتْ حقاً! معنوياتها عالية جداً...» ضحكة الحاضرين تذيب جليد اللقاء. تواصل الأم: «كنتُ أسأل الله أن أرى في يوم من الأيام صداماً وهو ...» عطفها لم يسمح لها بإتمام الجملة. تريّثت لحظات وتابعت بصوت يحبسه البكاء: «رأيته و ارتحت». تمانِع سقوط الدمع وتواصل: «لأننا لم نكن أهل حرب، جاءوا وفعلوا ما فعلوا...» يؤيد القائد كلام الوالدة: «الآخرون أيضاً هكذا، غير مستعدين لتحمّل استقلالنا».
تحدث الأم ولدها بشيء باللغة الآشورية ويسأل آلفرد القائد بتردّد: «هل تأكل الكعك المنزلي؟» تتفتح أسارير الوالدة حين يجيب السيد بالإيجاب. واضح أنها هي التي أعدّت الكعك. تقول للقائد بفرح: «أقول أعطوني عملاً وشغلاً لأخدم بلادي». يقول السيد بوجه منبسط: «كلامك هذا نفسه عمل كبير. كان التبيين من أعمال الأنبياء. الكثير من الناس يسيرون في الطريق الخطأ لأنهم لا يعلمون. لو كان هناك بيان وإيضاح لاتضح الطريق. نفس هذه السمة لدى هذه السيدة وتحدّثها بهذا الكلام عمل كبير. لقد قامت السيدات في الحرب بأعمال كبيرة. ذهبن للجبهات، ومرّضن الجرحي، لكن البيان أهمّ من كل شيء. نفس كلامك هذا سواء في الكنيسة أو خارج الكنيسة، وإبداء هذه المعنويات عمل مهم جداً. أطال الله عمرك وحفظك على هذه المعنويات».
يتناول القائد قطعة من الكعك ويقول لمن حوله: «كعك لذيذ جداً، ألا تأكلون؟» تقول الأم وولداها: «هنيئاً مريئاً».. يسير صحن الكعك نحو الحاضرين ولا يعود. تقول الأم: «يجب أن تأكل الفاكهة أيضاً، والمكرّزات أيضاً». ثم تقول بخجل: «بيتي صغير...» لا يسمح السيد بمواصلة خجلها: «القلب يجب أن يكون كبيراً. عندما يكون للإنسان هدفه، فسيكون كل مكان حسناً. يقول الشاعر: أنا مبتهج الفؤاد أين ما تكون معي/ حتى لو كان منزلي في قعر بئر».
يعطون القائد صحيفة اللقاء مع الوالدة. يلقي نظرة ويقول: ما هو تاريخها؟ حين يسمع إنها تعود لسنة 86 [2008 م] يقول بحسرة: «قديمة جداً؟ ليتنا جئنا قبل هذا. ليتكم جئتم أو جئتُ أنا».
يفضي الكلام إلى وضع المسيحيين في إيران. يقول آلفرد: بعد الثورة أصبح موضوع الدين أوضح، والآن حتى أسقف الآشوريين إيراني، بينما كان يأتي في السابق من العراق. وأسقف الأرمنيين يأتي من لبنان. يتذكر قائد الثورة أسقف الأرمنيين الفقيد آراك مانوكيان الذي صاحب الإمام الخميني (رحمه الله) منذ بداية الثورة. ثم يتحدث قليلاً عن الآشوريين الذين يعتقد أنهم أقدم المسيحيين بعد مسيحيي فلسطين (مسقط رأس النبي عيسى عليه السلام). يسترسل الكلام إلى اللغة الآشورية وقربها من العربية والعبرية وحتى الفارسية. ينحّي آلفرد الفاكهة والمكرّزات جانباً ويشير إلى قماش مطرز على الطاولة كتب عليه باللغة الآرامية: «ايدوخون هو بريخا» ويقول: معناها «عيدكم مبارك». يعتبر السيد هذا شبهاً لغوياً، فـ «ايدوخون» قريبة من كلمة «عيد»، و«بريخا» شبيهة بكلمة «بركة».
حان وقت الوداع، وقدّم قائد الثورة هدية لوالدة الشهيد وقال: «عيدكم مبارك إن شاء الله. كانت ليلة طيبة». يقول الأخوان والأمّ سوية: «كانت ليلة لا تنسى أبداً بالنسبة لنا». يقول السيد: «نحن نهدي للمسلمين قرآناً، ولو كنتُ أستطيع أن أجد إنجيلاً جيداً لجئتُ به، هذه الأناجيل الآن هي عموماً روايات وليست كلام الوحي. طبعاً يوحنا ولوقا وبطرس و... هم كبار المسيحية وقد استشهد بعضهم. هؤلاء نقلوا المسيحية إلى إيران وبلاد الروم و... . وإلّا فالمسيحية ديانة شرقية. وقد كان فيهم أنبياء ونواب أنبياء. الحواريون من عظماء الدين. في الإسلام كل من ينكر عصمة السيد المسيح والسيدة مريم يخرج من الإسلام. هكذا هو احترامنا للمسيحية. والإنجيل أيضاً مثل القرآن والتوراة نزل من السماء. لكن الأناجيل الحالية، هذه التي قرأتُها، رواية وليست ذلك الشيء الذي نزل من السماء. لو حصلنا على ذلك الأنجيل لوضعناه على أعيننا احتراماً له».
كان آلبرت ساكتاً مطئطي الرأس طوال اللقاء تقريباً، لكنه قال عندما شاهد القائد يهمّ بالذهاب: «الدكتور أحمدي نجاد كان قد زار منزلنا. قال ماذا تحتاجون، فقلنا له سلامة القائد. مجرد مجيئكم إلى هنا يعادل عندنا الدنيا». أجابه القائد: «معنويات الوفاء هذه ثمينة جداً. البعض لهم نظرة مادية فقط، لكن هذه معنويات».
حسب الدارج طلب السيد السماح له بالذهاب. وقف وأعطى الأولاد والأحفاد قبل خروجه هدايا تصلهم عن طريق الآباء. يقول أحد الحاضرين همساً: «شقيقة الشهيد أيضاً في أرومية»، فأعطاها القائد هدية تصلها عن طريق والدتها. ثم ودّعهم وانصرف لزيارة عائلة شهيد مسيحي آخر.
رحنا نجمع الأدوات والوسائل، وإذا بالوالدة تتذكر وعدنا لها في البداية، فراحت توزّع الفاكهة والمكرّزات بالإجبار على المرافقين والحاضرين. نقول لها بإصرار إن الأحفاد سيعودون الآن وتبقين من دون أسباب ضيافة، لكنها ترفض وتقول: «لو كانوا أخبروني أن السيد يريد القدوم لضحّيت بكبش أمام قدميه، فما قيمة هذه الأشياء؟»

المصدر : khamenei.ir

بقلم: محمد تقي خرسندي

التعليقات (0)

اترك تعليق