كلمة الحاجة عفاف الحكيم في ذكرى أربعين فقيد العلم والجهاد سماحة الشيخ محمد خاتون في 30-1-2016م
كلمة الحاجة عفاف الحكيم بمناسبة أربعين فقيد العلم والجهاد سماحة الشيخ محمد خاتون في 30-1-2016م
لقد كانت من نعم الله تعالى التي أحاطت بعزيزنا سماحة الشيخ محمد خاتون- الذي ارتحل عنا في هذه الأيام إلى جوار ربه الكريم- أنه نشأ وترعرع في بيئة علمية دينية عريقة، فهو سليل عائلتين كريمتين في بلدة جويا. أجداده لأمه آل نورالدين، وأجداده لأبيه آل خاتون.
والده هو الشاعر المرحوم الشيخ علي خاتون، وجده لأبيه هو الفقيه الشيخ محمد علي خاتون، وجدنا معاً لجهة الأم هو العلامة المقدس السيد نورالدين نورالدين إضافة إلى سلسلة من الأجداد والأبناء والأحفاد وعدد من العلماء المعروفين من أنسباء العائلة.
وكغيره من طلاب العلوم الدينية في تلك المرحلة، ذهب إلى النجف بعد الارتباط بشقيقتي أم زهراء، وهناك توطدت العلاقة الحميمة بينهم وبين عائلة السيد عباس الموسوي وسماحة السيد حسن نصرالله حفظه الله.
ولكن بعد سنة ونيف، كانت أجواء النجف والعراق عامة تغلي بسبب تفاقم أوضاع القمع والبطش الذي نال من العلماء المتحلقين حول سماحة المرجع الكبير السيد محمد باقر الصدر على يد أزلام الطاغية صدام بحيث رحل بعضهم واعتقل آخرون لمدة أسبوعين، ثم أطلق سراحهم وألقي بهم على الحدود العراقية، وكان من بينهم سماحة الشيخ العزيز، وذلك في العام 1978م، فكان أن عادوا جميعاً مع سماحة السيد عباس إلى بعلبك، وأقاموا فيها لمتابعة التحصيل العلمي والسعي لتأسيس حوزتي –الإمام المنتظر والزهراء(ع)- وبدء الفاعلية الكبيرة على صعيد النشاطات الثقافية والتبليغية. وحيث كانت هذه المجموعة المباركة من العلماء المجاهدين مصداقاً لقول رسول الله(ص) (العلماء ورثة الأنبياء) أي ورثة العلوم والوظائف والمسؤوليات. باعتبار أن [الاسلام من دون علماء-كما يقول الإمام الخميني(رض)- كالبلاد من دون أطباء]
وهكذا بدأ النهوض المبارك لبذر البذور الطيبة، وكان أن برز سماحة الشيخ خاتون منذ البداية في مجال التدريس والتبليغ، وتميز بصفات متعددة هامة: منها توقد الذهن وحيوية الحركة والعطاء والإخلاص والزهد ونكران الذات، بحيث غاص مع الناس وعايشهم عن قرب متفاعلاً مع همومهم ومشاكلهم، عاملاً مع رفاق الدرب على النهوض بهم دينياً وروحياً وثقافياً، وناقلاً إليهم في تلك الأثناء الصورة المشرقة للثورة الإسلامية وأبعاد الارتباط بفكر ونهج الإمام الخميني المقدس، والالتزام بأوامر الولي الفقيه لكونه من تلك الثلّة التي ارتبطت بالإمام ارتباطاً وثيقاً وبات لديها وضوح بالرؤية ووضوح بالعمل لجهة مواجهة العدو الصهيوني ومقاومته بشتى السبل. لذا شارك في انطلاقة مسيرة حزب الله والمقاومة الإسلامية منذ ساعاتها الأولى وتحمّل فيها -كما بيّن سماحة الأمين العام حفظه الله- الكثير من الأعباء الثقيلة والمسؤوليات الكبيرة طوال ثلاثة وثلاثين عاماً قضاها متنقلاً في مسؤوليات عدة لمنطقة الجنوب والبقاع والشمال والعمل الثقافي المركزي وغيره من المهام، باذلاً في ذلك الجهود المتواصلة إذ لم ينفك أبداً عن عالم التبليغ والتدريس وإعطاء المحاضرات، إضافة إلى الجلسات القرآنية والسهرات العامرة بنبض الشباب المتعطش للأجواء الروحية التي كان ينثرها في حديثه الشيّق المفعم بالإخلاص.. وصولاً إلى العلاقات الواسعة التي تميز بها وإلى الجلسات العائلية الأسبوعية الحميمة والتي كان يسعى جاداً إلى عدم التقصير بها.
فكان في حركة دؤوب لا تهدأ ولا تعرف الكلل أو الملل. حركة اتصل نهارها بليلها فكان حقاً كطبيب دوار بطبه حتى آخر أيامه الشريفة، إذ كنا نسأل لنطمئن عليه فنعلم أنه ذهب إلى الجنوب أو البقاع، إلى اجتماع هنا ولقاء هناك، وقبل أن يبدأ بالعلاج ترخص من الأطباء لزيارة الأماكن المقدسة الأثيرة إلى نفسه، مراقد أهل البيت الذين ارتبطت مسيرة حياته في كامل لحظاتها بهم. فبدأ بمشهد المقدسة ثم انتقل إلى نجف أمير المؤمنين(ع) وكربلاء الإمام الحسين وأبي الفضل العباس وغيرها، وعاد ليبدأ العلاج مسلماً نفسه للأطباء بكل طمأنينة وتسليم وتوكل على الله وهذا بشهادة الأطباء الذين تحيروا وانبهروا بمقومات ومميزات هذه الشخصية الربانية الفذة.
وقفة يسيرة مع تلك المميزات:
ان أول تلك المميزات التي كانت محل التفات الجميع هي علاقة سماحته بالقرآن الكريم، تلك العلاقة الحميمة والعميقة والصافية والمبحرة، إذ كانت لديه عناية خاصة بكتاب الله تبارك وتعالى ومتابعة التفاسير، كان في الواقع قارئاً للقرآن، وفاهماً للقرآن، وحافظاً للقرآن، وعليه فقد كان منطقه القرآن. لذا كان يجذب السامعين من خلال كلماته ودروسه وخطبه التي كانت مليئة بالآيات الكريمة حيث اعتمد في أسلوبه المميز الرواية في تفسير الآية، فإذا كانت الرواية حاضرة وجاهزة كان يستخدمها في فتح آفاق الآية، مسهباً في شرحه بسلاسة وعمق بحيث لا تبقى نقاطاً غير واضحة في الشرح.
وأما الميزة الثانية التي كانت تستوقفنا:
فهي علاقته بنهج البلاغة وبتفاصيل السيرة العطرة لأمير المؤمنين(ع) وأهل البيت عموماً.. وهذا ما كان ملحوظاً في استشهاده الدائم في الخطابات والدروس والمحاضرات، كان يملك حافظة عظيمة للقرآن ولنهج البلاغة وكانت هذه من ميزاته الشخصية إضافة إلى أدعية أهل البيت(ع)، فالقرآن والنهج شكلا ركيزتين أساسيتين ومنبعاً لما يملكه من مخزون ثقافي هائل على هذا الصعيد إذ كان في ما نعلم يواظب على قراءة سورة ياسين كورد يومي صباحي، إضافة إلى المواظبة على زيارة عاشوراء والزيارة الجامعة ودعاء العهد وزيارة آل ياسين.
كما كان يعتمد بعض الأدعية كورد يومي لأربعين يوماً ثم يغيّر إلى أدعية ثانية، وكان يقول أن الانسان من الصعب أن يعلم أي الأدعية لها تأثير على نفسه، وأن تأثير الدعاء يختلف من شخص لآخر. لذا من الأفضل أن يقرأ الانسان كل الأدعية الموجودة ولو بالسنة مرة أو في العمر مرة، وبالعموم كان يحث كثيراً على الدعاء، وعلى الارتباط بالقرآن الكريم.
وأما الميزة الثالثة فكانت الخلق الكريم:
إذ كان يملك خلقاً رفيعاً وقلباً صافياً مفعماً بنور الإخلاص والمحبة للناس كل الناس. كان لشدة تواضعه لا يجعل بينه وبين الآخرين حواجز، كان يتقن حسن الظن بالآخرين ويُوجد الأعذار لهم فلا يحمل ضغينة أو غل اتجاه أحد، كان حسن الظن ملكة راسخة لديه وملازمة له ولذا كان محبوباً جداً ومؤثراً جداً..
فجلساته حتى العابرة منها والعادية كانت تتصف باللطافة والفائدة، وأحاديثه كانت محل سرور الصغير والكبير بحيث إذا جلس معهم لا ينسوه.
كان صاحب همّة عالية، ولذا كان لا يقول لا، لأي تكليف، كانت السيارة محل سكنه اليومي من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، إلى البقاع والهرمل وسوريا يقطع مسافات شاسعة يومياً، قال أحدهم ممن جاء معزياً من تلك المناطق كنا ننتظر مجيئه بفارغ الصبر فإذا حلّ بيننا شعرنا بأن روح سماحة السيد حسن حلّت بيننا.
كانت لا تغريه المناصب ولا المظاهر بحيث لا يعطيها أي أهمية، فكم من شخص من المحبين من أبناء بلده عرض أن يبني له بيتاً في البلد فكان يبتسم معرضاً عن كل متاع الدنيا.
ولا شك بأن إعراضه عن الدنيا وصدقه، وإخلاصه، وتواضعه، وأخلاقه الكريمة، وفعالية تأثيره هو الذي دفع الناس للإقبال عليه إذ كان متفهماً لحاجات الناس من حوله. كان دائماً متأهباً ومبادراً وسبّاقاً لحل مشاكلهم والوقوف على همومهم. وحيث بات لشدة محبته وذوبانه في الناس ابنا وأخاً وأباً لأي منهم،
فأموال الخمس التي كانت تأتيه من الأقارب والأصحاب والمحبين، والتي لا يأخذ منها شيئاً كان ينفقها جميعها بل يتدين فوقها ليسد حاجات المحتاجين. حتى أنه كان يعطي البعض من جيبه الخاص وإذا لم يكن معه تدين ليغطي حاجاتهم. فهناك الكثيرين ممن التزم معهم شهرياً بدفع ثمن أدويتهم لصيدلية معينة، أو لحل مشاكلهم وتغطية ما هم مضطرون إليه من مصروف، أو لإجراء عملية أو لتغطية مصاريف تعليم الأولاد وغيره. كان فعلاً كما نسمع (أبو الفقراء والمحتاجين.) وكمثال:
يقول السيد عدنان من بلدة جويا (كنت في أوائل التسعينات في الحج والتقيت بأحد الأصدقاء المقيمين في السعودية، وبعد السلام سألني عن سماحة الشيخ خاتون وطلب مني أن أوصل له أمانة وضعها بظرف وكانت عبارة عن ألف دولار.
وحين عدت ذهبت إلى بعلبك حيث يقيم وسألت عن المنزل فقيل لي إنه أمامك في نفس بناية السيد عباس الموسوي. طلبت من الحارس أن يتصل.. فسمعت عبر النافذة صوتاً يقول- أهلاً عدنان اطلع-
كان الشيخ زميل دراسة.. ورأيته كما عهدته تواضع ومحبة واخلاص وإيمان.. إنه الشيخ محمد.. لفت نظري في تلك اللحظة حذاء براه الزمن.. سلّمته الأمانة ففتح الظرف بلهفة وأسرع إلى الخارج، نادى لامرأة وناولها الظرف.. قلت في نفسي لعل الحاجة جعلته يفرح بالهدية.. لكن لا. فالذين يعيشون حياة أهل البيت لا تعني لهم الأموال شيئاً..
وعاد الشيخ إليّ وعلى وجهه آثار الارتياح بعد أن رأيت المرارة عند الدخول.. شيخنا ما الخبر؟ فقال أجلس يا عدنان تلك امرأة جاءتني من هنيهة تطلب مساعدتها بمبلغ ألف دولار لعلاج ابنها، وكنت محتاراً فدعوت الله ليعطيني لأتمكن من مساعدتها، وها قد استجاب الله ووصّلت الأمانة لها.. لذلك انفرج الهم عني)
نعم إنها نبذة مختصرة لحياة مفعمة بالعطاء، لنموذج من النماذج الربانية الأصيلة والوفية والمخلصة والتي ساهمت عبر سيرها وسلوكها الرفيع ليس فقط بصناعة تاريخ عزيز على أرضنا بل أيضاً ساهمت بتخفيف ألام ومعانات الكثير من المرضى والعجائز والأطفال في بيوت المعوزين من أتباع ومحبي أهل البيت(ع).
إنه نموذج النفس المطمئنة التي عرفت معنى التسليم والتوكل على الله إذ كان في أخر ايامه يحدث من كان حوله بقوله: "إذا كان الله تبارك وتعالى قد جعل خاتمة حياتي بهذا المرض فالحمدلله وإذا كتب ليّ الشفاء فبكون تعلمت الصبر وبالتالي الحمدلله رب العالمين".
إنه النموذج الذي شخّص الأطباء لصبره وجلده واطمئنانه العظيم. ولأجواء هذا الكم الهائل من المحبين الذين توافدوا وبغزارة من كافة المناطق بل داوموا الحضور من شروق الشمس إلى منتصف الليل متلهفين لسماع ما يطمئنهم، حتى قال أحد الأطباء أني حزين لأني لم أوفق إلى معرفته من قبل.. إذا سألته مسألة أجاب بلطف وبطرفة وابتسامة وكأن ليس لديه شيء.
نموذج وصفه سماحة الأمين العام حفظه الله (بالأخ العزيز والحبيب والغالي، والذي كان لي شخصياً منذ العام 1977 أخاً في الروح وزميلاً في الدراسة منذ النجف الأشرف، ورفيقاً مخلصاً على طول الطريق
فهنيئاً لك يا شيخنا العزيز.. هنيئاً لك طريقاً قطعته في العلم والعمل والجهاد.
عفاف الحكيم
27-12-2015
اترك تعليق