أطفالنا والتربية العبادية
في الوصايا الإسلامية ثمّة تأكيد وحرص شديدين على ضرورة الاهتمام بالتربية الدينية العبادية للطفل، وتعليمه وتشجيعه وتمرينه قبيل البلوغ على أداء الفرائض من الصلاة أو الصوم أو غيرهما من العبادات حتى إذا بلغ سنّ التكليف الشرعي كان على معرفة بهذه العبادات ومهيّئاً لها دون أن يشعر بعبء التكليف أو ثقله.
صحيح أنّ الطفل غير مكلّف بالعبادات ولا يعاقب على تركها إلى حين البلوغ: "رفع القلم عن الصبي حتى يحتلم" إلاَّ أنّ أهله وذويه مسؤولون ومدعوون إلى الاهتمام بتعليمه وتربيته وإعداده وتهيئته لأداء الواجبات واجتناب المحرّمات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم:6]، وفي الحديث عن الإمام الصادق(ع): "لما نزلت هذه الآية {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ} جلس رجل من المؤمنين يبكي، وقال: أنا عجزت عن نفسي وكُلّفت أهلي! فقال رسول الله(ص): "حسبك أن تأمرهم بما تأمر به نفسك وتنهاهم عمّا تنهى عنه نفسك"(1).
إذن ثمّة مسؤولية على الإنسان بأن يهتم بالمستقبل الديني والإيماني لأبنائه كما يهتم بمستقبلهم الدنيوي، وأن يعتني بنظافتهم الروحية كما يعتني بنظافتهم أو صحّتهم الجسدية والنفسية، إلاَّ أنّنا ومع الأسف الشديد نجد أنّ الكثير من الآباء والأُمهات يتعاطون مع هذا الأمر بشيءٍ من اللامبالاة والاستخفاف كما نبّه على ذلك رسول الله(ص) فيما روي عنه: "ويلٌ لأطفال آخر الزمان من آبائهم: يا رسول الله من آبائهم المشركين؟! قال: لا، من آبائهم المؤمنين، لا يعلّمونهم شيئاً من الفرائض، وإذا تعلَّموا منعوهم، ورضوا منهم بعرض يسيرٍ من الدنيا، فأنا منهم بريء وهم مني براء"(2).
وفيما يبدو فإنّ هذه النبؤة لرسول الله(ص) قد تحقّقت، فها نحن نرى بأُمّ العين أنّ الكثير من الناس يمنعون أبناءهم من ارتياد المساجد، ولا يهتمون بتربيتهم الدينية ولا يعنيهم مستقبلهم الإيماني شيئاً! إنّ على الإنسان المؤمن أن يعيش همَّ تربية أبنائه تربية صالحة، كما كان خليل الله إبراهيم(ع) يعيش هذا الهمّ، ولذا نراه لا يكتفي بدعوتهم وتشجيعهم على الصلاة، وإنّما يدعو الله باستمرار أن يوفّقهم لإقامة الصلاة {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء} [إبراهيم:40].
مشروعية عبادات الطفل:
وثمّة سؤال يفرض نفسه هنا بإلحاح وهو: أنّ الطفل هل يؤجَر ويُثاب على ما يأتي به من أعمال عباديّة، أو أنّ عبادته لا تعدو كونها مجرّد تمارين تدريبية ولا يستحقّ عليها شيئاً من الثواب؟
الأقرب إلى الصحة والأكثر ملاءمة لكرم الله وحكمته وعدالته القول: بأنّ عبادات الطفل ليست مجرّد تمارين بل هي مشروعة ويثاب عليها وتدوّن في سجل حسناته، شريطة أن يكون مميّزاً يفقه ما يفعل، وقد استدلّ الفقهاء لذلك -أعني مشروعية عبادات الطفل المميّز- بالقاعدة القائلة: "إنَّ الأمر بالأمر بالشيء هو أمر بذلك الشيء"(3) والمراد بهذه القاعدة: إنّ ثمّة أمراً استحبابياً متوجّهاً إلى الطفل بأداء العبادات فإذا امتثله كان مستحقاً للثواب، أما من أين نستكشف وجود أمر متوجّه إلى الطفل المميّز؟
فالجواب: إنَّا نستكشف ذلك من خلال الأمر المتوجه إلى والده بأن يأمره بالصلاة أو غيرها من العبادات، فإنّ الأمر بالأمر بالشيء هو أمر بذلك الشيء.
وممّا استدلّ به على المشروعية أيضاً: أنّ الأدلة الواردة في الكتاب أو السنّة والدالة على ترتّب الثواب على من صلَّى أو صام أو حجَّ أو زكَّى وتصدّق عامة وشاملة للبالغ وغيره، ولا وجه لانصرافها إلى غير البالغ(4)، إلى غير ذلك من الوجوه التي ذكرت لإثبات شرعية عبادات الصبي، ويمكن مراجعتها في الكتب المعدَّة لذلك.
الصلاة أولاً:
وتأتي عبادة الصلاة على رأس العبادات التي يجدر بنا أن نهتم بتعليمها للأطفال ونشجّعهم عليها ونعاتبهم بل نؤدّبهم على تركها، ومردّ ذلك بطبيعة الحال إلى أهمية الصلاة فهي عامود الدين ومعراج المؤمنين وصلة الوصل بين العبد وربّه، وتشير جملة
من الروايات إلى أنَّ السّن الذي يُشجَّع ويدعى فيه الطفل إلى الصلاة هو سنّ السابعة، وفي بعضها هو الثامنة، ففي الحديث عن الإمام الصادق(ع): "إنا -أي آل البيت(ع)- نأمر صبياننا بالصلاة إذا كانوا بني خمس سنين، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني
سبع سنين"(5)، وعن أمير المؤمنين(ع): "علّموا صبيانكم الصلاة وخذوهم بها إذا بلغوا ثماني سنين"(6) ولا تنافي بين الروايتين، وإنّما هما في صدد الإشارة إلى مرحلتين من مراحل التدرّج التربوي الآخذ بالتصاعد من الأدنى إلى الأعلى.
والصوم:
والعبادة الأخرى التي يجدر بنا تشجيع الطفل وتعويده عليها هي عبادة الصوم، والصوم بطبيعته يحتاج إلى تمرين لصعوبته على الكبير فضلاً عن الصغير، ولذا فإنّ علينا أن لا نرهقه بصوم اليوم كاملاً، بل بمقدار ما يطيق، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) وقد سئل عن العمر الذي يُحمل فيه الولد على الصيام؟(ع): "ما بينه وبين خمسة عشر سنة وأربع عشرة سنة، فإن هو صام قبل ذلك فدعه، ولقد صام ابني فلان قبل ذلك فتركته"(7).
العبادة وإرهاق الطفل:
وربّما يعترض البعض كما ذكرنا سابقاً على فكرة التربية الدينية من رأس على اعتبار أنّها تتضمن إرهاقاً للطفل وإقحاماً له فيما يصعب عليه تحمله وأداؤه!
وفي الجواب على ذلك نقول: إنَّ التزامنا بالإسلام يفرض علينا -كما أسلفنا- العمل على تربية أبنائنا طبقاً لتعاليم الإسلام، تماماً كما يفعل الآخرون من أتباع الأديان أو غيرهم، فإنّهم يعملون على تربية أبنائهم على القيم التي يؤمنون بها، والتربية في الصغر تكتسب أهمية كبيرة، فإنّها أبلغ تأثيراً من التربية في سنّ متأخرة، وهذا من البديهيات التربوية، وقد قيل "العِلْم في الصِغَر كالنقش في الحجر"، وكذا الحال في التربية، فعندما يتوجّه الإنسان إلى الصلاة -مثلاً- وهو لا يزال في مرحلة عمرية مبكرة قريبة من نقاء الفطرة وبعيدة عن التعقيدات والوساوس والانشغالات التي تواجه الكبير فسوف تنشأ بينه وبين الصلاة علاقة خاصة ومميّزة، فتراه يتشوّق إليها وربّما يصعب عليه تركها، ولو تركها فإنّه قد يشعر بتأنيب الضمير، خلافاً للشاب البالغ فإنّ مرحلته العمرية تشدّه نحو الملاهي وتجذبه إلى انشغالات أخرى، ولذا قد لا يتحمَّس ولا ينجذب كثيراً للخطاب الديني والوعظي، وإذا تجاوز الإنسان مرحلة الشباب وأصبح كهلاً دون التزام ديني، فإنّ التزامه بالعبادة في هذا السنّ يغدو أكثر صعوبة وثقلاً، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} [البقرة:45].
وأمّا الحديث عن إرهاق الطفل بالعبادة فهذا قد يكون صحيحاً، لكنّه ناتج عن سوء الأساليب التربوية وتشدّدها في أمر التربية الدينية، وهو تشدُّد غير مبرّر على الإطلاق كما لاحظنا وسنلاحظ.
الاقتصاد في العبادة:
وممّا نلاحظه في المقام أن الوصايا الإسلامية التي تحثّ الوالدين على الاهتمام بعبادة أبنائهم تتّسم بقدرٍ كبير من المرونة، وتراعي عمر الطفل وطاقته على التحمّل، فإنّ للطفل ميلاً غريزياً نحو اللعب واللهو، كما أنّه بطبيعته يفرّ من المسؤوليات التي تقيّده ببرنامج محدّد، الأمر الذي يفرض التعامل معه بدقة متناهية وحكمة بالغة، بعيداً عن التشدُّد والقساوة، فإنّ التشدّد في أمر العبادة قد يخلق لديه ردّة فعل عكسية، فبينما يكون هدف المربّي نبيلاً وهو تعويده على عبادة الله فإذا بقساوة الأسلوب وشدّته تجعله يتهرّب من العبادة ويشعر بثقلها وربّما تغدو ساعة العبادة همّاً وعبئاً بالنسبة إليه، وقد يدفعه ذلك -أقصد التشدُّد- إلى الكذب على والديه فيزعم أنّه قد صلّى وهو لم يصلِّ.
إن أسلوب اللين والرِفق في الدعوة إلى الإسلام، وأسلوب المرونة والتدرّج في تطبيق التكاليف الشرعية مطلوب في التعامل مع البالغين، فما بالك بالأطفال الصغار! وقد مرّ علينا في الحديث المروي عن رسول الله(ص): "إنّ هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق ولا تكرهوا عبادة الله إلى عباد الله فتكونوا كالراكب المنبت الذي لا سفراً قطع ولا ظهراً أبقى"(8). ولذا وجدنا أنَّ الأئمة من أهل البيت(ع) في الوقت الذي يوصون فيه بضرورة تربية الأطفال على عبادة الله سبحانه، فإنّهم يدعون إلى اعتماد المرونة والابتعاد عن التشدُّد، ففي الحديث عن الإمام الصادق(ع): "نحن نأمر صبياننا بالصوم إذا كانوا بني سبع سنين بما أطاقوا من صيام اليوم، إنْ كان إلى نصف النهار أو أكثر من ذلك أو أقل فإذا غلبهم العطش والغرث (أي الجوع) أفطروا حتى يتعوَّدوا الصوم ويطيقوه، فمروا صبيانكم إذا كانوا بني تسع سنين بالصوم ما استطاعوا من صيام اليوم فإذا غلبهم العطش أفطروا"(9).
وفي إشارة أخرى إلى ضرورة الابتعاد عن التشدُّد في التربية الدينية للطفل نجد أنّ الإمام الصادق(ع) يوصي بأن يُدعى الأطفال إلى الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء، والظهر والعصر، بينما يَسْتحِبُّ للبالغين التفريق، ففي الخبر عنه(ع): "إنّا نأمر الصبيان أن يجمعوا بين الصلاتين: الأولى والعصر، وبين المغرب والعشاء الآخرة، ما داموا على وضوء قبل أن يشتغلوا"(10).
وفي إشارة ثالثة إلى هذا المعنى يحدّثنا الإمام الصادق(ع) فيما روي عنه قال(ع): "مرّ بي أبي -أي الإمام الباقر(ع) -وأنا معه في الطواف وأنا حَدَث (يافع) وقد اجتهدت في العبادة، فرآني وأنا أتصبَّب عرَقاً، فقال لي: يا جعفر يا بني: إنّ الله إذا أحبّ عبداً أدخله الجنّة ورضي عنه باليسر"(11).
انتخاب أفضل الأساليب:
إنّ علينا ونحن نعمل على تربية أطفالنا ونشجّعهم على العبادات والفرائض الدينية أن ننتخب أفضل الأساليب التي تول الفكرة وتحقّق الهدف دون أن تترك نتائج سلبية، ولعلّ من أفضل هذه الأساليب هو أسلوب الترغيب والتبشير، -كما مرّ سابقاً-، وفي هذا السياق فالأجدى أن يتمّ التركيز على ثواب المصلّين وما أعدَّه الله لهم من نعيمٍ دائم ومرافقة الأنبياء والأولياء، وهكذا يُستحسن الحديث عن حبّ الله للمصلّين، ولا مانع من اعتماد أسلوب الحوافز والمكافآت سواءً المادية فيقدّم هدية للطفل في حال مواظبته على الصلاة، أو المعنوية من قبيل إشعاره بأنَّ حبّنا له يتضاعف كلّما كان أكثر مواظبة على العبادة.
التعليم بالتطبيق:
ومن أنجع الأساليب التربوية وأجداها نفعاً في المقام أسلوب التعليم بالتطبيق، فلا يكتفي المربّي بالتعليم النظري ولا بالترغيب والتشجيع على الصلاة وسواها من العبادات، وإنَّما يجد ربه أن يُعلِّم الطفل على الصلاة من خلال تجربة عمليّة، بأنْ ندعوه إلى الوقوف بجانبنا نحن الكبار ليحاكي تصرّفاتنا ركوعاً وسجوداً وقياماً وقعوداً، ولنحاول إسماعه كلمات الذكر وآيات القرآن في الصلاة ليردِّد خلفنا. فإنّ ذلك يساعده على حفظ الآيات والأذكار، وفي سيرة النبيّ(ص) ما يشهد لاعتماده هذا الأسلوب، وذلك في تعليم الإمام الحسين(ع) وهو طفل صغير كيفية الصلاة، ففي الحديث عن الإمام الصادق(ص): إنَّ رسول الله(ص) كان في الصلاة وإلى جانبه الحسين بن عليّ(ع) فكبَّر رسول الله(ص) فلم يُحرْ الحسين بالتكبير (أي لم يقدر عليه)، ثم كبَّر رسول الله(ص)
فلم يحر الحسين بالتكبير، ثم كبَّر رسول الله(ص) فلم يحر الحسين بالتكبير، فلم يزل رسول الله(ص) يكبّر ويعالج الحسين بالتكبير، فلم يحر الحسين(ع) حتى أكمل سبع تكبيرات، فأحار الحسين التكبير في السابعة، فقال أبو عبد الله(ع): فصارت سنة"(12) أي صار التكبير سبعاً سنة.
إنّ هذا الحديث يدلّ بوضوح على أنّ رسول الله(ص) كان بصدد تعليم الإمام الحسين بطريقة تجسيدية عملية، ولأنّ الإمام الحسين(ع) كان فيما يبدو لا يزال طفلاً صغيراً فلم يستطع التلفُّظ بتكبيرة الإحرام، لذا ظلّ النبيّ(ص) يكرّر التكبير على مسمعه حتى استطاع ذلك.
________________________________________
(1) الكافي: 5/62.
(2) مستدرك الوسائل: 15/164.
(3) راجع كتاب الصلاة من تقريرات السيد الخوئي ج5/228.
(4) راجع القواعد الفقهية للبجنوردي: 4/115.
(5) تحف العقول: ص 180.
(6) الكافي: 3/409.
(7) الكافي: 4/125.
(8) الكافي: 2/86.
(9) الكافي: 3/409.
(10) الكافي: 6/47.
(11) مجموعة ورَّام: 386.
(12) علل الشرائع للشيخ الصدوق: ج2/331.
المصدر: كتاب "حقوق الطفل في الإسلام": الشيخ حسين الخشن.
اترك تعليق