مُمَهِدَاتْ... وحقيق أن تبادر المرأة المثقّفة الملتزمة الواعية فتمهد الطريق وتفتح الآفاق.

خطاب السيدة زينب (ع)  أحد عوامل تحريك التاريخ

خطاب السيدة زينب (ع) أحد عوامل تحريك التاريخ

...من هنا أنشأ الحسين ثقافة التضحية والمقاومة، وأنشأت زينب ثقافة الصبر والحكمة، بأداء مميز وفريد فأخذ منهما العالم كله كيف تبني الأمم عزتها وكرامتها وحريتها واستقلالها وديمقراطيتها من أُسُس هذه المدرسة الكونية والمرجعية الإلهية المستمرة الدائمة... مرجعية تملكت قلوبنا وأرواحنا وحواسنا مذ كنا أجنة في الأرحام فأصبحنا نعيش شعار الحسين وصوت زينب في مراحل حياتنا كلها فمدرستهما أسست في الأرواح قبل العقول، وتفهمها المتتبع لأسس هذه المرجعية منذ النشأة... دخلت هذه المرجعية إلى الأعماق دون استئذان وتربعت على عروش القلوب دون انتخاب أو تصويت فتذوقنا من خلالها معنى الأمر الإلهي وتعلمنا من منهجيتها كيف يطاع الله وهذا ما جاء به أمر من الله عز وجل إلى سيدنا محمد(ص).
«ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللهَ غَفُورٌ شَكُورٌ»(1)، ومن هو أقرب إلى النبي من نفسه حيث وصف الحسين بقوله "حسين مني وأنا من حسين" (2)، فمرجعية الحسين كانت بنص إلهي ومنها تتالت ذات المرجعية في سلالة الحسين بالأئمة من ولده التي نصب الله عز وجل السيدة زينب(ع) دون سواها في حمايتها ورعايتها وكفالتها بعد استشهاد الإمام الحسين(ع) في كربلاء، وليس ذلك لنسبها فحسب وإنما لكفاءتها فكان القرار الإلهي منذ نشأتها بأن تضطلع السيدة زينب(ع) بهذه المهمة التاريخية، فمن ذلك اليوم بذرت في التربة بذرة النقمة على الظلم، وحتمية النهوض لإبعاده والقضاء عليه، ومحاسبة مقترفيه، فبالإضافة لِما مرّ من كلامها في كربلاء والكوفة والشام، وأثناء الوقائع والأحداث، لها خطبتان مشهورتان في الكوفة والشام.
خطبها(3):
1- في الكوفة:
قال حذيم الأسدي: لم أر والله خفرة قط أنطق منها، كأنّها تنطق وتفرغ عن لسان علي عليه السلام، وقد أشارت إلى الناس بأن أنصتوا، فارتدّت الأنفاس، وسكنت الأجراس، ثم قالت بعد حمد الله تعالى، والصلاة على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم:
أما بعد يا أهل الكوفة، يا أهل الختل والغدر والخذل، أتبكون!! فلا رقأت العبرة، ولا هدأت الزفرة، إنّما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة انكاثاً، تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم، هل فيكم إلاّ الصلف والعجب والشنف والكذب وملق الاماء وغمز الأعداء، أو كمرعىً على دمنة، أو كقصة على ملحودة، ألا بئس ما قدّمت لكم أنفسكم، أن سخط الله عليكم وفيالعذاب أنتم خالدون.
أتبكون أخي ؟ ! أجل والله فابكوا فإنكم أحرى بالبكاء، فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً، فقد ذهبتم بعارها، ومنيتم بشنارها، ولن ترحضوها أبداً، وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوّة، ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنة، وملاذ حربكم، ومعاذ حزبكم، ومقر سلمكم، وأسى كلمكم، ومفزع نازلتكم، والمرجع إليه عند مقاتلتكم، ومدرة حججكم، ومنار محجتكم.
ألا ساء ما قدّمت لكم أنفسكم، وساء ما تزرون ليوم بعثكم، فتعساً تعساً، ونكساً نكساً، لقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة، وبؤتم بغضب من الله، وضربت عليكم الذلة والمسكنة.
أتدرون ويلكم أيّ كبدٍ لمحمّد (ص) فريتم؟! وأيّ عهد نكثتم؟! وأيّ كريمة له أبرزتم؟! وأيّ حرمة له هتكتم؟! وأيّ دم له سفكتم؟! لقد جئتم شيئاً إدّاً، تكاد السماوات يتفطّرن منه، وتنشق الأرض، وتخر الجبال هدّاً. لقد جئتم بها شوهاء، صلعاء، سوداء، فقماء، فرقاء، كطلاع الأرض أو ملء السماء.
أفعجبتم أن تمطر السماء دماً، ولعذاب الأخرة أخزى وهم لا ينصرون، فلا يستخفنّكم المهل، فإنّه عزّ وجلَّ لا يحفزه البدار، ولا يخشى عليه فوات الثأر، كلا إنّ ربك لبالمرصاد.
ثم أنشأت تقول:
ماذا تقولون إذ قـال الـنبيّ لـكم * ماذا صَنعتـم وأنتـم آخـر الاُممِ
بـأهلِ بيتـي وأولادي وتكرمتـي * مـنهم اُسارى ومـنهم ضرّجوا بدمِ
ما كان ذاك جزائي إذ نصحتُ لـكم * أن تخلفونـي بسوء في ذوي رحمي
إنّي لأخشـى عليكم أن يـحلّ بكم * مثل العذاب الذي أودى على ارم
(3)

قال حذيم: فرأيتُ الناس حيارى قد ردّوا أيديهم في أفواههم، فالتفتُ إلى شيخ في جانبي يبكي وقد اخضلّت لحيته بالبكاء، ويده مرفوعة إلى السماء وهو يقول: بأبي أنتم واُمي، كهولهم خير كهول، ونساؤهم خير نساء، وشبابهم خير شباب، ونسلهم نسل كريم، وفضلهم فضل عظيم، ثم أنشد:

كهولهم خير الكهـول ونسلـكم * إذا عدّ نسل لا يبور ولا يخزى(4)
2- في الشام:
لما سمعت زينب بنت علي عليهما السلام يزيد يتمثّل بأبي ات ابن الزبعري:
ليتَ أشياخي ببدرٍ شهـدوا * جزع الخزرج من وقـع الأسل
لأهلّـوا واستهلـوا فرحـاً * ثـم قالـوا يـا يـزيد لا تشل
قد قتلنا القوم مـن سادتهم * وعـدلنـاه ببـدر فـاعتـدل
لعبت هـاشم بـالملك فـلا * خبـر جـاء ولا وحـي نـزل
لستُ من خندف إن لم أنتقم * مـن بني أحمد مـا كان فعـل

قالت: الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على رسوله وآله أجمعين، صدق الله سبحانه حيث يقول: "ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السوأى أن كذّبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزؤون" (5)، أظننتَ يا يزيد حيث أخذتَ علينا أقطار الأرض وآفاق السماء، فأصبحنا نُساق كما تساق الاُسارى، أنّ بنا على الله هواناً وبكَ عليه كرامة، وأنّ ذلك لِعظم خطرك عنده، فشمخت بأنفكَ، ونظرتَ في عطفك جذلان مسروراً حين رأيت الدنيا لك مستوسقة، والاُمور متّسقة، وحين صفا لكَ ملكنا وسلطاننا. مهلاً، أنسيتَ قول الله تعالى: "ولا تحسبن الذين كفروا إنّما نملي لهم خيراً لأنفسهم إنّما نملي لهم ليزدادوا إثماً ولهم عذاب مهين"(6).
أمنَ العدلِ يا ابن الطلقاء تخديركَ حرائركَ وإماءكَ وسوقكَ بنات رسولِ الله سبايا، قد هُتكت ستورهنّ واُبديت وجوههنّ، تحدو بهنّ الأعداء من بلد إلى بلد، ويستشرفهن أهل المناهل والمعاقل، ويتصفّح وجوههنّ القريب والبعيد، والدني والشريف، ليس معهنَّ من حماتهنّ حميّ، ولا من رجالهنّ ولي، وكيف يرتجي مراقبة من لفظ فوه أكباد الأزكياء، ونبت لحمه من دماء الشهداء، وكيف يستبطأ في بغضنا أهل البيت مَن نظر الينا بالشنف والشنآن، والإحن والأضغان، ثم تقول غير متأثّم ولا مستعظم:

لأهلّوا واستهلوا فرحاً * ثم قالوا يا يزيد لا تشل
منحنياً على ثنايا أبي عبد الله سيّد شباب أهل الجنة تنكتها بمخصرتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نكأت القرحة، واستأصلت الشأفة، بإراقتك دماء ذرية محمّد (ص)، ونجوم الأرض من آل عبد المطلب، وتهتف بأشياخك، وزعمتَ أنّكَ تناديهم، فلتردنّ وشيكاً موردهم، ولتودنّ أنّكَ شللت وبكمت ولم تكن قلتَ ما قلت وفعلتَ ما فعلت.
اللهم خُذ لنا بحقّنا، وانتقم ممّن ظلمنا، وأحلل غضبكَ بمن سفكَ دماءنا وقتلَ حُماتنا. فوالله ما فريت إلاّ جلدكَ، ولا خززتَ إلاّ لحمكَ، ولتردنّ على رسول الله (ص) بما تحملت من سفك دماء ذريته، وانتهكت من حرمته في عترته ولحمته، حيث يجمع الله شملهم ويلم شعثهم ويأخذ بحقهم» ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتاً بل أحياء عند ربهم يرزقون " (7).
وحسبك بالله حاكماً، وبمحمّد صلّى الله عليه وآله خصيماً، وبجبرئيل ظهيراً، وسيعلم من سوّل لك ومكّنك من رقاب المسلمين، بئس للظالمين بدلاً، وأيكم شرّ مكاناً وأضعف جنداً. ولئن جرت علي الدواهي مخاطبتك، إنّي لأستصغر قدرك، واستعظم تقريعك، وأستكثر توبيخك، ولكنّ العيون عبرى والصدور حرّى.
ألا فالعجب كلّ العجب لقتل حزب الله النجباء بحزب الشيطان الطلقاء، فهذه الأيدي تنطف من دمائنا، والأفواه تتحلّب من لحومنا. وتلك الجثث الطواهر الزواكي تنتابها العواسل، وتعفِّرها اُمهات الفراعل، ولئن اتخذتنا مغنماً لتجدّنا وشيكاً مغرماً، حين لا تجد إلاّ ما قدّمت يداك، وما ربك بظلام للعبيد، وإلى الله المشتكى وعليه المعوّل.
فَكِدْ كيدكَ، واسعَ سعيكَ، وناصب جهدكَ، فوالله لا تمحو ذكرنا، ولا تميت وحينا، ولا يرحض عنكَ عارها. وهل رأيكَ إلاّ فند، وأيامكَ إلاّ عدد، وجمعكَ إلاّ بدد، يوم ينادي المنادي ألا لعنة الله على الظالمين، والحمد لله ربّ العالمين، الذي ختم لأوّلنا بالسعادة والمغفرة، ولآخرنا بالشهادة والرحمة، ونسأل الله أن يكمل لهم الثواب، ويوجب لهم المزيد، ويحسن علينا الخلافة إنّه رحيم ودود، وحسبنا الله ونعم الوكيل. فقال يزيد:
                                                  يـا صيحةً تُحمدُ مِن صوائِح * ما أهون النوحِ على النوائحِ(8).
فكان خطاب السيدة زينب واحداً من عوامل تحريك التاريخ وتوليد طاقة التغيير اللازمة لإزاحة الواقع المعادي للإنسان... وأصبحت السيدة زينب المرجع [...] للناس في تلك المرحلة حتى تسليمها لمقاليد المرجعية إلى الإمام زين العابدين(ع) رمز الإمامة المقدسة... هذه هي قوة المرجعية في منهجية السيدة زينب المستمدة من قوة الله، لذلك بقيت ترسم في قلوب الخلق قبل قدومهم إلى الحياة الدنيا... مرجعية لها حول ولها قوة أطاعت الله حق طاعته فانطبق عليها قوله تعالى: "عبدي أطعني تكن مثلي أو مَثَلي تقل للشيء كن فيكون".
مرجعية مخيرة لا مسيرة تربعت على عروش القلوب وقادت الجماهير بإرادة وحكمة فقلدها المجتمع في حينه وقلدتها الأجيال بانصياع ورضى وقبول على هداية وإدراك وتفهم، وأصبح المتفهم المتذوق لطعم الهداية ملزما نفسه بهذا التقليد لأنه حرية للنفوس وديمقراطية في امتلاك القرار وصوابه والتزام حقيقي بشرائع السماء يتذوق من خلاله طعم العبودية لله دون سواه، وتحرير النفوس من عبادة الخلق والمخلوقات، وعدم الانسياق في ترهات التقييد والتحجيم لفكر الإنسان وانضوائه في حلقة مفرغة يتوه فيها عن رشده ويصبح في حالات من الشكوك والظنون والوسواس وبالتالي يهوي إلى الضياع والانحراف الفكري والعزلة بعيدا عن أي حركة سوى تلبية متطلباته وأموره المعاشية من مأكل ومشرب وكل ما يتعلق بالذات فقط...
نعم إن نضال الحسين وزينب بالتضحية الكبرى ما جاء إلا لمرضاة الله عز وجل: "إن كان هذا يرضيك فخذ حتى ترضى" هذه هي زينب المقدسة وكذاك الحسين، فقراءة نضال الحسين وزينب قراءة واعية تمنح النفوس دروسا في النضال والكفاح لتحريرها من العبودية لغير الله عز وجل وتطهير الذات من أي تلوث خارجي يبعد فيه العبد عن المعبود وهذا ما أكده الإمام الحسين(ع) بقوله لجيش الردة: "إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحرارا في دنياكم وارجعوا إلى أحسابكم إذا كنتم أعرابا".
والسيدة زينب(ع) في قولها لعبيد الله بن زياد:
"الحمد لله الذي أكرمنا بنبيّه محمد، وطهّرنا من الرّجس تطهيراً، إنّما يفتضح الفاسق، ويكذب الفاجر، وهو غيرنا يا ابن مرجانة".
(9)
كذلك في خطابها في أهل الكوفة وفي مجلس يزيد(10).

الهوامش:
1- سورة الشورى، الآية: 23. 
2- تنقيح المقال: للشيخ عبدالله المامقاني 3: 79.
3- مسند ابن حنبل: ج4 ص172
4- الحسون، محمد وأم علي مشكور: أعلام النساء المؤمنات.ط1، 1411هـ.ق.
5- جامع الرواة: للأربلي 2: 457.
6- خُطب الحوراء زينب عليها السلام: للسيّد جاسم حسن شبر.
7- الخصائص الزينبيّة: للسيّد نور الدين الجزائري.
8- خصائص أمير المؤمنين عليه السلام: للنسائي: 62.
9- دائرة معارف القرن العشرين: لمحمد فريد وجدي 4: 795.
10- موقع رافد:
 "دراسة تحليلية في منهجية السيدة زينب (ع)"

التعليقات (0)

اترك تعليق